قمة التنمية الاجتماعية ماذا تحمل من جديد نادر فرجاني

قمة التنمية الاجتماعية ماذا تحمل من جديد

البطالة، الفقر، والتكامل الاجتماعي. إنها موضوعات الساعة في غالبية البلدان العربية، وهي أيضا ذات الموضوعات التي فرضت نفسها على قمة التنمية الاجتماعية التي تعقد هذا الشهر لأنها تمثل انعكاسا جليا لاشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

تتواتر المؤتمرات "العالمية" كإحدى قنوات تشكيل "النظام العالمي الجديد" من خلال منظمة الأمم المتحدة. فبعد "الأرض"- ريو دي جانيرو، و"السكان والتنمية"- القاهرة، تدور الآن عملية التحضير لمؤتمرين آخرين خلال 1995: "التنمية الاجتماعية"- كوبنهاجن في مارس، يليه "المرأة" في عاصمة الصين- مايو.

وهذه المؤتمرات هي، في الجوهر، تظاهرات إعلامية، حيث يجري التفاوض الفعلي على مضمون وثائقها قبل انعقادها. ومع ذلك تسنح فرصة للنقاش، وللتفاوض، خلال المؤتمرات ذاتها، وخاصة وراء الكواليس.

وبقدر فهم القضايا المطروحة، والاستعداد لاتخاذ موقف بشأنها، والكفاح من أجل هذا الموقف، تتحدد فعالية مشاركة الأطراف المختلفة، ومدى تعبير نتائج المؤتمر نهاية، عن مصالحها. ولهذا فمن الضروري أن يعي العرب موضوعات هذه المؤتمرات بعمق، وأن يفاوضوا من أجل مصالحهم باقتدار، وبتعاون حق فيما بينهم، وإلا كان حضورهم غير ذي فائدة.

وليس هذا التوجه مقصورا على الحكومات. فالمنظمات الدولية، ولو أنها منظمات حكومات، تنفتح تدريجيا على مسئولياتها تجاه المجتمعات المدنية والشعوب. وتعد مشاركة المنظمات غير الحكومية في المؤتمرات العالمية، وهي في تصاعد، إحدى رسائل هذا الانفتاح. وإن كان يرد على مشاركة المنظمات غير الحكومية في هذه "التظاهرات" تحفظات موضوعها حديث آخر.

ويكتسب مؤتمر قمة التنمية الاجتماعية أهمية خاصة من مناظير ثلاثة. الأول: الموضوعات المطروحة، وهي البطالة والفقر والتكامل الاجتماعي، وهي موضوعات الساعة في غالبية البلدان العربية. الثاني: أن المؤتمر يمثل، في تقدير الكاتب، اعترافاً بما جرته سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية، على النمط الرأسمالي الطليق، في كثير من بلدان العالم الثالث، عن ويلات اجتماعية واقتصادية، تنذر بفورات سياسية، من خلال انتشار البطالة، واستشراء الغلاء، وتفاقم الفقر، وما يترتب على كل ذلك من تشرذم اجتماعي، برغم التسميات البراقة، والخادعة، من "إصلاح" و"تصحيح" و "تعديل" وغيرها. ويتحمل النظام الاقتصادي العالمي، وعلى رأسه المنظمات الاقتصادية الدولية والحكومات الغربية، المسئولية الأولى في هذه النتيجة من ناحية. غير أن هـناك تنبها الآن إلى أن العواقب الوخيمة لالتحاق البلدان الأقل نموا بالسوق الرأسمالي العالمي، من موقع ضعف وتخلف، قد ينجم عنها إضرار بمصالح مراكز الغرب المهيمنة، ومن هنا المؤتمر؟ من ناحية أخرى.

والثالث: أن الوثائق التمهيدية للمؤتمر تتضمن سياسات وحلولا في صالح شعوب البلدان النامية، تسبق، ولو على مستوى العبارات، الكثير من المواقف الحكومية السكرى، عن غير دراية أو ضلوع، بأوهام "الإصلاح" الاقتصادي، والمتغنية بفوائده برغم الدمار الاجتماعي الحال، والذي لا يتوقع أن ينجلي سريعاً.

وجريا على العادة المتبعة في مثل هذه المؤتمرات العالمية، ينتظر أن يتمخض مؤتمر التنمية الاجتماعية عن "إعلان مبادئ" مختصر و "برنامج عمل"، يجري بلورة صور متعاقبة منهما في إطار التحضير للمؤتمر. ومن المفيد تقديم عرض سريع لمحتويات مسودتي الوثيقتين (باللغة الإنجليزية، حسب ما نتج عن اللجنة التحضيرية التي انعقدت في نهاية أغسطس الماضي) قبل التعليق عليهما عن منظور مصلحة الشعب العربي.

مبادئ نبيلة وتوصيات

يقع مشروع "الإعلان" في تسع صفحات، تضم أكثر من أربعين فقرة من المبادئ النبيلة التي لا يثور حولها كثير خلاف.

بالمقابل، فإن برنامج العمل، وهو الوثيقة الأهم، يفترض أن يتضمن تحليلا إضافيا لظواهر البطالة والفقر، والتشرذم الاجتماعي، ولأسبابها، وأن يقدم حلولا لمكافحتها على الصعيدين القطري والدولي. ويقع مشروع برنامج العمل في ستين صفحة، وحوالي 220 فقرة ينتهي بعضها بتوصيات.

وينقسم برنامج العمل إلى خمسة أقسام عناوينها: بيئة ممكنة، التقليل من الفاقة والقضاء عليها، التشغيل المنتج وتقليل البطالة، التكامل الاجتماعي، ووسائل التنفيذ والمتابعة.

ونود الإشارة على وجه الخصوص إلى أن مشروع البرنامج يقدم على باقي محتوياته قسما عن ضرورة وجود بيئة اقتصادية، دوليا، وحتى سياسية، قطريا، تمكن من مكافحة مشكلات البطالة والفقر والتشرذم الاجتماعي، قبل التعرض للمشكلات ذاتها. وفي هذا اعتراف قوي بأهمية السياق الاقتصادي- السياسي، القطري والدولي، في مواجهة فاعلة للمشكلات الثلاث.

في مضمار تقليل الفاقة، يركز البرنامج على اعتبار الفقر مشكلة يترتب على النظام الدولي مسئولية في مواجهتها. وأساس حلها تمكين الفقراء من الأصول المنتجة، المادية والبشرية، بما في ذلك إعادة توزيع الثروة، وليس فقط الدخل، في البلدان الفقيرة والحصول على الخدمات العامة اللازمة خاصة في مجالي التعليم والصحة، وحماية الحكومات للضعفاء من الناس من العوز والحاجة.

وفيما يتعلق بالتشغيل المنتج، يوصي البرنامج بحفز النمو الاقتصادي كثيف العمالة بهدف التقليل من البطالة، ولو عن طريق تشغيل المتعطلين في برامج أشغال عامة تقوم عليهـا الدولة.

ويقوم تصور البرنامج لدعم التكامل الاجتماعي على مبدأ حماية التنوع في إطار من القيم الإنسانية المشتركة، وإنهاء جميع أشكال التمييز، وتشجيع تكافؤ الفرص، واعتماد التعليم أداة أساسية للتكامل الاجتماعي، وتقريب الحكم إلى الناس، وتسهيل وصول الناس إلى مؤسسات الدولية، وإفساح مجال للمجتمع المدني. وهي كلها مقومات للبنية السياسية الممكنة من التنمية بوجه عام، ومن مواجهة مشكلات البطالة والفقر والتشرذم الاجتماعي خاصة.

ويهمنا الإشارة، إضافة، إلى أن البرنامج يقوم على أسس متينة من "شمولية التنمية الاجتماعية"، ويتبنى مشروع (20 / 20) الذي اقترحه برنامج الأمم المتحدة للإنماء في تقرير "التنمية البشرية" لعام 1994، والذي يدعو إلى تخصيص خمس الدعم الدولي لأغراض التنمية الاجتماعية، وخمس الموازنات القطرية للأغراض نفسها.

نظرة نقدية في مشروع البرنامج

لدينا ثلاث ملحوظات جوهرية وعامة على مشروع برنامج العمل، نشير إليها قبل التعرض، بإيجاز لتقييم محتوياته التفصيلية.

لعل أهم إيجابيات البرنامج أن تكرر التركيز على "التعليم الأساسي الراقي للجميع"، وضرورة تقوية سلطة الناس من خلال المشاركة الفاعلة في الحكم والمنظمات غير الحكومية والتعاونيات، باعتبارها مكونات جوهرية للبيئة المؤسسية الممكنة من التنمية الاجتماعية.

غير أن مشروع البرنامج لا يركز على التعرف على الجذور العميقة للمشكلات الثلاث في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما ينتج عنه قصور في تحديد وسـائل العمـل الفعـال لمكـافحتهـا. وعلى وجه الخصوص، فإن كثيرا من التوصيات ليس إلا عموميات مـرسلة في عبـارات فضفـاضة دون موقف قـوي أو إمكانات تنفيذ جاد. وهذه بالطبع أكبر سوءات الوثائق التي تصدر عن محافل دولية.

إلا أن النقد الأهم، في منظور الدول المتخلفة، هو أن مشروع البرنامج، برغم توجهاته النبيلة، يحابي الغرب.

ونقصـد بـالغـرب المنظومة التي تضم المؤسسات الاقتصادية الـدوليـة (البنك الـدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة الجات- التجارة الدولية، والشركـات عابرة الجنسيـات) والدول الغربية، على حسـاب الدول المتخلفـة، بل على حسـاب مفهوم التنمية الاجتماعيـة الذي يتبناه البرنامج ذاته.

وهذا أمر، وإن كان مفهوما كتعبير عن توازن القوى في العالم عامة، وفي منظمة الأمم المتحدة خاصة، إلا أنه يجب ألا يقبل من الدول النامية.

ونرى في مقاومة هذا التوجه، وتعديله لمصلحة فقراء العـالم، أهم أغراض المشـاركـة في مـؤتمر قمـة التنميـة الاجتماعية.

في الشق الخاص بالبنية المؤسسية الممكنة من التنمية الاجتماعية، نرى ضرورة للتأكيد على الآثـار الاجتماعية السلبية لسيـاسـات إعادة الهيكلـة الاقتصـادية التي تتبناها، بل تضغـط من أجلها، المنظـومـة الاقتصاديـة الغـربية، دون أن تمارس هي ما تبشر بـه لبلدان العـالم الثالث. والـواقع أن التصحيح الاقتصـادي لمصلحـة الاقتصاد العـالمي، بات مطلـوبا في النسـق الاقتصادي الغربي، ربما أكثـر منه في البلدان الناميـة. كذلك يتعين أن يهتم العون الدولي أسـاسا بحـاجات النـاس وليس أولويات الحكومات، غير الممثلة في الأغلب.

وعلى صعيد الاقتصاد السياسي القطري، تغيب عن البرنامج سمتان جـوهريتـان لبيئـة الحكم في البلـدان المتخلفة، وهما عدم إمكان مساءلـة الناس للحكومات والفسـاد، اللتـان لا يتوقع دون القضـاء عليهما صلاح اقتصادي أو اجتماعي.

وتعوق هاتان السمتان إمكـان عمل نظام السوق بكفاءة لتحقيق النمـو الاقتصادي. كـما أن نظـام السوق الطليق، إن عمل بكفاءة، لا يحقق تكـافؤ الفـرص أو العـدالة الاجتماعيـة، بل يفـاقم من سـوء توزيع الثـروة والـدخل، بمحـاباة الأقـويـاء وإهمال الفقراء. وتنشأ بالتـالي ضرورة تـدخل الـدولـة لتصحيح هـذه الآثار السلبية. كذلك يتعـين التأكيد على مسئـولية الحكومات في ضمان التعليم الأسـاسي الراقي، والـرعايـة الصحية الأساسية، لجميع الناس.

وبالنسبة لمقـاومة الفقر، نجد أن بعـض التوصيات المتضمنـة في مشروع البرنامج تتعـارض مع مقتضيـات إعادة الهيكلـة الاقتصادية، حسب متطلبات المنظمة الاقتصادية الغربية، وعلى برنامج العمل النهـائي أن يواجه هذا التضارب بصراحة، ويحسمه لمصلحة التنمية الاجتماعية عن طريق ترويض وحشية إعادة الهيكلة.

وحتى يمكـن، إن أمكن على الإطـلاق، للنمـو الاقتصادي في إطار سياسات السوق الطليق، أن يحل مشكلات البطـالة والفقـر وما يترتب عليهما من تشرذم اجتماعي، تقع على حكومـات الدول الناميـة، والنظام الـدولي، مسئوليـة توفير نظم فعـالة، وكـافية، لحـماية الفقراء من هوان العوز.

وفي مقـاومـة البطـالـة، يتعـين الانطـلاق من أن التشغيل المنتج مكون أسـاسي للكرامـة البشرية، وليس مجرد مطلب للسلام الاجتماعي.

على الصعيد الدولي يجب مقاومة الاتجاهات الحمائية في البلـدان المتقدمة لفتح أسواقهـا لمنتجات البلـدان المتخلفة، والاعتراف بأن تحريـر التجارة يرتب تبعـات سلبية على اقتصادات تلك الأخيرة، يـوجب عونـاً من بلدان المركـز الغربية (التي تدل توقعـات الأمم المتحدة على أنها الكـاسـب الأعظم، إن لم يكن الـوحيـد، من تحرير التجارة الدولية حسب الاتفاقات القائمة حالياً).

أمـا البلدان النـامية، فإن العمل المنتج هو السبيل لخلق الموارد المجتمعية اللازمة لمكـافحة الفقر. ولكن لا يقدم مشروع البرنامج تصوراً واضحاً، قابلا للاستمرار، للتحدي الصعب المتمثل في خلق فرص العمل اللازمة للقضـاء على البطـالـة. فمبـدأ تشجيع الصناعات الصغـيرة كثيفة العمالة، لا يتفق ومتطلبات إعادة الهيكلة التى تقوم على تعزيـز رأس المال الكبير. وقيام الدولـة بتشغيل المتعطلين في برامج الأشغال العـامة يثير مسألة الموارد المطلوبة، وخاصة ما إذا كان يمكن توفيرها، من قبل الحكومات التي تسعى لضغط نفقـاتها في إطار برامج إعادة الهيكلة. والواقـع أنه لا يتصور حل لمشكلة البطالـة في البلدان الناميـة دون عون دولي كبير، واهتمام قـوي بجعل البنية الاقتصـاديـة العالمية مواتية للنمـو الاقتصادي في الاقتصادات المختلفة.

ولا يعول هنا على معـانـاة البلـدان المصنعـة ذاتها للبطـالة كسبب للتنصل من مسئـولية الغرب في حفز النمو الاقتصادي المولد لفرص العمل في الجنوب. فلا حجم البطـالة، ولا تبعـاتها على الرفاه البشري، في الغرب قابلان للمقارنة بواقع البلدان المتخلفة. فحجم البطالة أكبر، ووقعها أثقل، في الأخـيرة، خاصة باعتبار تدني الرفاه الاجتماعي بدايـة وغياب تعويضات مجزية عن البطالة.

وفي مجال العمل مـن أجل تعـزيـز التكـامل الاجتماعي، ينبغي البـدء من أن سطوة فئة اجتماعية معينة على هيكل القوة عامة، وعلى الحكم خاصة، هو أشد أشكـال التمييز المؤسسي ضـد المستبعـدين، أي غالبية الناس. وعليه، فإن ضمان مساءلة النـاس للحكم، ولا مركـزيته، تصبح متطلبـات جـوهرية للتكامل الاجتماعي، وللتنمية الاجتماعية بوجه عام.

ويتكـامل مع هـذا التوجـه العام ضرورة الاعتراف بالمتطلبات الأساسيـة لاحترام حقوق الإنسان (اتساق التشريعات والإجراءات مع مبادئ حقوق الإنسان، سيـادة حكـم القانون، واستقلال القضـاء،... )، وليس مجرد التوقيع على الإعلانات والاتفاقات الدولية الضامنة لحقوق الإنسان.

ويتـواءم مع كـل ذلك العمل على استخدام وسائل الإعلام، خاصة المرئية والمسموعة، في تعميق الوعي ونشر المعرفة، وليس في تزييف الوعي وترويج السفه.

ولعل القسم الخاص بوسائل التنفيذ والمتابعة هو أضعف فصول مشروع برنـامج العمل. ويعود ذلك إلى أحد انتقـاداتنا الجوهرية الثلاثة، وهو محاباة البرنامج للقـوى المهيمنة على النظـام العالمي. وتتحمل هذه القوى، كما أشرنا، مسئولية جوهريـة عن تردي الوضع الاجتماعي في البلدان المتخلفة، وعليها، من ثم، التزام أصيل بالمشاركة الجادة في رفع هذا البلاء.

نحو فعل عربي

لا يتـوقع عن القـوى المهيمنة على العالم الراهن أن تسعى طـوعاً لإحـداث التغيرات الممكنة من التنمية الاجتماعية التي وصفنا في السابـق، في البلدان العربية، أو حتى تسمـح بها. مثل هـذه التغيرات ليست في مصلحة هذه القوى. ولا مناص من أن تنتزع منها بفعل عربي قومي.

إن هنـاك أموراً بـاتت مطلـوبة لتصحيح السياق العـالمي للتطور الاقتصـادي، والمجتمعي، في البلدان العربية من أجل التخفيـف من المشكلات الاجتماعية. وفي هذا المضمار، فإن تحقيق إنجاز يذكر رهن بتوافر قدر محسوس من التعاون العربي في قمة التنمية الاجتماعية، وربما أهم، خارجها، قبلهـا وبعدها.

وإذا لم يغير العرب ما بأنفسهـم فلن يجدي التوجـه للشمال لتصحيح السياق العـالمي فتيلا في هـذه المنطقة من العالم. فالقوى المسيطرة على عالم اليوم لا تستجيب لصرخات الاستجداء من المسـاكين. وليس لاستصراخ الضمائر الحيـة من مكـان في معترك عـالمي تحكمـه، بالأساس، المنافسة الشرسة.

والسؤال الملح هو: هل تستطيع الدول العربية أن تضغط في القمة الـدولية للتنمية الاجتماعية وخـارجها، وباستمرار، من أجل هذه المطالب العادلة؟

 

نادر فرجاني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات