حتى لا تقتلنا المدن.. أحمد خضر الشربيني

حتى لا تقتلنا المدن.. أحمد خضر الشربيني

في العام 2007، عبرت البشرية علامة فارقة في مسيرة تطورها. فللمرة الأولى في التاريخ تجاوز عدد سكان المدن أقرانهم في المناطق الريفية. وتقول بيانات الأمم المتحدة إن سكان العالم سيزدادون من الآن وحتى عام 2050 بأكثر من 37 في المائة، ليصل عددهم إلى 9.076 بليون نسمة، وتتصدر آسيا وإفريقيا تلك الزيادة. ومن المؤكد أن كل النمو السكاني على مدى السنوات الثلاثين المقبلة سيتركز في المناطق الحضرية.

ستتحول الزيادة المتسارعة في تعداد سكان المدن إلى واحدة من أهم القضايا البيئية والصحية على مستوى العالم في القرن الحادي والعشرين. فأكثر من نصف سكان العالم يقطنون المدن في الوقت الحالي. وبحلول العام 2030 سيعيش ستة من كل عشرة في المدن، ليرتفع عددهم إلى سبعة من كل عشرة بحلول العام 2050. وفي حالات كثيرة، لاسيما في العالم النامي، فاقت الزيادة السكانية قدرة الحكومات على تشييد البنية التحتية الأساسية. ومن الممكن أن يؤدي التوسع الحضري غير المخطط إلى تفاقم الأزمة الإنسانية القائمة، فضلا عن عواقبه في ميدان الأمن والسلامة الصحيين لجميع مواطني المدن. وعلاوة على ذلك، يرتبط التوسع الحضري بالعديد من التحديات الصحية الناجمة عن المياه والبيئة والعنف والإصابة والأمراض غير السارية (الأمراض القلبية الوعائية والسرطانات والسكري والأمراض التنفسية المزمنة)، والأطعمة غير الصحية وقلة النشاط البدني، وتعاطي الكحول على نحو ضار فضلاً عن المخاطر المحتملة المرتبطة بفاشيات الأمراض.

وقد فرضت هذه القضايا والتحديات نفسها على احتفالات منظمة الصحة العالمية هذا العام بيوم الصحة العالمي، الذي نظمته تحت شعار «1000 مدينة، 1000 سيرة حياة.. لصحة المدن ألف وزن». وتقول المنظمة إن المعدل الذي سار به التحضُّر على مدى العقود القليلة المنصرمة يتضح جلياً بنظرة على المدة التي كانت تستغرقها أي مدينة ليزداد عدد سكانها من مليون نسمة إلى ثمانية ملايين نسمة. فإذا أخذنا لندن مثالاً لوجدنا أن ذلك التحول استغرق 130 عاماً. أما بانكوك فقد استغرق النمو نفسه 45 عاما، في حين اقتصرت المدة على 25 عاماً فحسب في سول. وبين العام 1995 والعام 2005 فقط، سجل متوسط معدل النمو السكاني في الحضر بالبلدان النامية 1.2 مليون نسمة أسبوعياً، أي حوالي 165000 شخص يومياً. والمشكلة أن غالبية النمو المتسارع للسكان سيحدث في المدن التي يتراوح تعداد سكانها مابين مليون و10 ملايين نسمة. وهكذا لا تقتصر المشكلة على المدن الضخمة فحسب، خاصة وأن سرعة التحضُّر فاقت في العديد من الحالات قدرة الحكومات على تشييد البنية التحتية الأساسية اللازمة لجعل الحياة في المدن آمنة ومجزية وصحية، وخصوصاً في البلدان المنخفضة الدخل.

صحة البيئة في المدن

تقول بيانات منظمة الصحة العالمية إنه يعاني نحو 32 % من سكان الحضر في المناطق النامية نقص إمدادات مياه الشرب النظيفة وشبكات الصرف الصحي، وفي أحيان كثيرة عدم وجودها أصلا. وتشير التقديرات إلى أن 3% من جميع الوفيات التي تحدث، على الصعيد العالمي، بما فيها معظم الوفيات الناجمة عن أمراض الإسهال تعزى إلى قلة المصادر المحسنة لمياه الشرب، وانعدام شبكات الصرف الصحي ووسائل حفظ النظافة الشخصية كما ينبغي.

كما أن عدم موثوقية إمدادات مياه المشرب المجلوبة بالمواسير في المناطق الحضرية يشجع على تخزين الماء في البيوت ويقترن ذلك بمخاطر التلوث (أمراض الإسهال) وتكاثر نواقل المرض (مثل حمى الضنك والملاريا)، ويمكن التقليل من تلك المخاطر بفضل معالجة المياه المعدة للاستهلاك المنزلي وبفضل تخزينها بشكل مأمون.

ومن جهة أخرى، يستخدم نحو 25 % من ساكني المدن في البلدان النامية، و 70 % منهم في أقل البلدان نمواً، أنواعاً مختلفة من الوقود الصلب في أغراض التدفئة والطهي مما يسبب تلوثاً داخل المباني، وذلك من شأنه أن يزيد بشكل كبير من مخاطر الأمراض التنفسية لاسيما لدى الأطفال، ويؤدي إلى تفاقم تلوث الهواء الخارجي أيضا. وعلى الصعيد العالمي، يعزى حدوث حوالي مليوني حالة وفاة سنويا لحالات التعرض لذلك التلوث الداخلي. ويمكن أن يساعد التحول إلى استخدام المواقد المحسنة أو استخدام أنواع الوقود البديلة (الغاز المسال، والطاقة الشمسية إلخ) على معالجة هذه المشكلة الصحية الخطيرة، كما يمكنه في بعض الحالات أن يقلل من انبعاثات غازات الدفيئة.

ويضاف إلى هذا أن المدن في البلدان النامية حساسة، بشكل خاص، للمخاطر الصحية التي تُعزى إلى تغيّر المناخ, كما أن وجود العديد من كبريات المدن على الساحل يجعل السكان أكثر عرضة للتقلبات المناخية القاسية ولارتفاع مستوى سطح البحر. والمعلوم أن موجات الحر تعرض المدن أيضاً لمخاطر آثار «جيوب الحر»، التي قد تفوق فيها درجات الحرارة بنحو 5 إلى 11 درجة مئوية درجات الحرارة السائدة في المناطق الريفية المحيطة نظراً لكثافة الجغرافيا الحضرية ومصادر الطاقة.

النقل والمواصلات

في العديد من مدن العالم النامي تطرح الزيادات الهائلة في مستويات حركة العربات ذات المحركات على الطرق التي حدثت خلال العقود الماضية مشكلة متعاظمة في مجال الصحة العمومية الحضرية وخاصة فيما يتعلق بالمجموعات السكانية السريعة التأثر. كما بدأ الاعتراف على نطاق واسع في مناطق العالم المتقدمة، كأوربا، بأن أنماط النقل الحضري، إلى جانب التدخين والنظام الغذائي، من بين أهم محددات الصحة.

وتشكل الإصابات الناجمة عن حوادث السير على الطرق، في جميع أنحاء العالم، تاسع الأسباب المؤدية إلى الوفاة، كما أن معظم الوفيات الناتجة عن حوادث السير تحدث في البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل. ونصف أولئك الذين يتوفون في حوادث السير على الطرق هم من المشاة وراكبي الدراجات أو راكبي العربات ذات العجلتين.

ومن جهة أخرى، تشير تقديرات المنظمة إلى أن تلوث هواء المدن يودي بحياة حوالي 1.2 مليون نسمة في جميع أنحاء العالم. ومعظم الوفيات تحدث بسبب الإصابة بأمراض قلبية وعائية وأمراض تنفسية. وتعزى نسبة مهمة من تلوث الهواء في المدن إلى استعمال المركبات ذات المحركات. ولو أن التلوث الصناعي وتوليد وحرق الوقود في المنازل في أقل البلدان نمواً، عوامل تساهم هي الأخرى بقسط وافر في هذا الصدد. كما أن ما تطلقه وسائل النقل من دخان في الهواء يعد أيضا من العوامل الرئيسية المساهمة في تغير المناخ.

وفي العديد من المدن الواقعة في البلدان النامية يؤدي تركز العربات بنسب مرتفعة، وتكاثر المركبات الملوثة القديمة (السيارات القديمة التي تسير بالديزل مثلاً)، ورداءة البنى التحتية واختلاط حركة سير المشاة والدراجات وحركة السيارات إلى نشوء مخاطر أكبر نتيجة لتلوث الهواء وحوادث الإصابة وخاصة بالنسبة إلى الفئات السريعة التأثر.

الأمراض غير السارية

يتركز في يومنا هذا 80% من عبء الأمراض المزمنة حول العالم في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل، وتصحبه تداعيات هائلة من حيث إمكان الوصول للرعاية الطويلة الأمد، وجودتها وتكلفتها. إضافة إلى ما سبق، تضع البدانة والأمراض المرتبطة بها عبئا اقتصاديا كبيرا على البلدان من حيث نفقات الرعاية الصحية الباهظة والإنتاجية الضائعة.

تسهم النظم الغذائية غير الصحية، وانعدام النشاط البدني في زيادة خطر الإصابة بالكثير من الأمراض غير السارية فضلا عن الحالات المرضية المزمنة مثل البدانة، وضغط الدم المرتفع، والأمراض القلبية الوعائية، وتخلخل العظام، وداء السكري من النمط الثاني، وبعض أنواع السرطان.

السل والإيدز

تؤكد منظمة الصحة العالمية إن التكدس وارتفاع الكثافة السكانية من عوامل الاختطار المباشرة ذات العلاقة بانتقال الأمراض السارية، وخاصة الأمراض التي يحملها الهواء مثل السل. وقد أدت الزيادة السريعة في أعداد السكان في المناطق الحضرية في جميع أنحاء العالم ولاسيما في البلدان المنخفضة الدخل إلى تمدد مساحة المستوطنات البشرية الفقيرة التي يعيش فيها الناس في فقر مدقع، ويواجهون فيها مشكلات تتعلق بالفقر والإصحاح وحفظ النظافة الشخصية والإسكان والتكدس. والمعلوم أن ازدحام المستوطنات الحضرية يُسهل انتقال معظم الأمراض السارية وخاصة السل. والملاحظ أن معدل حدوث السل شديد الارتفاع في المدن الكبرى. فهو يبلغ في مدينة نيويورك أربعة أضعاف المتوسط الوطني. أما في بعض أنحاء لندن فإن ذلك المعدل يساوي في ارتفاعه المعدل الذي يسود في الصين، إن لم يكن يفوقه. والوضع لا يختلف كثيراً في البلدان التي تشح فيها الموارد: إذ إن 45% من مرضى السل في غينيا يعيشون في مدينة كوناكري، في حين يعيش 83 % من مرضى السل في جمهورية الكونغو الديمقراطية في المدن.

وعلى صعيد الإيدز والعدوى بفيروسه، يلاحظ أن معدل انتشار فيروس العوز المناعي البشري في الأوبئة المعممة، هو، بشكل عام، أعلى في المناطق الحضرية؛ وتشير الاستقصاءات المنزلية القائمة على السكان إلى أن معدل الانتشار في المناطق الحضرية يفوق بنسبة 1.7 ذلك المعدل في المناطق الريفية. خلال الأوبئة المركزة، تميل الفئات المعرضة لمخاطر أعلى فيما يتعلق بالإصابة بفيروس العوز المناعي البشري بسبب سلوكيات معينة، مثل تعاطي المخدرات حقنا في الوريد، أو الشذوذ الجنسي، أو على العاملين في تجارة الجنس وقرنائهم إلى التجمع في مناطق حضرية مما يزيد من احتمالات التعرض في تلك المناطق.

الأم والطفل

أدى نمو المدن السريع إلى زيادة إبراز اللامساواة فيما يتعلق بالتوصل إلى خدمات الرعاية الحاذقة فيما يخص عملية الولادة واستفادة النساء الحضريات من خدمات الرعاية الطارئة. ولا تستطيع النساء اللائي يعشن في الأحياء الفقيرة الحصول على أبسط خدمات الرعاية الصحية وهؤلاء النسوة محرومات هن وأطفالهن الرضع، بشكل خاص، لأنهن لا يتلقين الرعاية المناسبة خلال فترتي الحمل والولادة. ومعظم العمليات القيصرية في البلدان النامية تجرى في الأوساط الغنية والنساء الأكثر حظا من الثروة في حين لا تستفيد أي من النساء الحضريات تقريبا من هذا الإجراء المنقذ للحياة، ويمكن ملاحظة الاتجاه ذاته فيما يتعلق بالاستفادة من خدمات المولدين، وهناك القليل من النساء المعوزات ممن يمتلكن إمكانية الاستفادة من خدمات الأطباء والممرضات المحترفات أو القابلات عندما يضعن حملهن.

الكوارث الطبيعية

مما يزيد من وطأة مخاطر حالات الطوارئ الناجمة عن الكوارث الطبيعية (مثل الفيضانات وموجات الحر والبرد الشديد، والانزلاقات الطينية والزلازل)، والأخطار الكيميائية والإشعاعية، والحرائق وحوادث التصادم وفاشيات الأمراض التنفسية والأمراض المنقولة بالمياه والأمراض المحمولة بالنواقل، تركز السكان في المناطق الحضرية وسوء ظروف عيشهم فيها. وتطرح النزاعات والشعور بعدم الأمان في المدن ونزوح الناس من الريف إلى الحضر نتيجة لاندلاع الأزمات تحديات إنسانية كبيرة، فالأحياء الفقيرة تتكاثر بلجوء أعداد غفيرة من الناس إلى أطراف المناطق الحضرية. ومن نتائج سوء إمدادات المياه ووسائل الإصحاح والتكدس وسرعة التهاب المساكن وسرعة تأثر المجتمعات بالطوارئ وخاصة المجتمعات التي تضم فقراء المدن وغيرهم من الفئات المعرضة لأكبر المخاطر.

التحديات ومواجهتها

تقول منظمة الصحة العالمية إنه إذا استمر التحضر في مساره الحالي، فسوف يسفر عن تحديات إنسانية واجتماعية وبيئية بحجم غير مسبوق في تاريخ الإنسانية؛ ونحن في حاجة ملحة لانتهاج أسلوب جديد في التعامل مع قضية التحضر وتطبيق إطار مفاهيمي جديد للصحة العمومية. وفيما يلي مجالات العمل الرئيسية الخمسة:

- التخطيط العمراني المعزز للسلوكيات الصحية والسلامة: ينبغي على الحكومات المحلية والمجتمع المدني تصميم مناطق حضرية تعزز النشاط البدني عن طريق الاستثمار في النقل الفعال، والتشجيع على تناول الطعام الصحي من خلال إدارة توفير الأغذية الطازجة وتيسير الوصول اليها، وتقليل معدلات العنف والجريمة عن طريق التصميم البيئي الجيد والضوابط الرقابية ومن بينها الضوابط المنظمة لمنافذ بيع المسكرات.

- تحسين الأوضاع المعيشية في الحضر: يجب تطبيق مبادئ التصميم الحضري الصحي التي تتسم بسهولة الوصول لأسباب الراحة والخدمات الأساسية، وتحديد الاستخدام التجاري وغير التجاري للأراضي، مع تخصيص مساحات من الأراضي لحماية الموارد الطبيعية ولأغراض الترفيه. وبطبيعة الحال فإن من اكبر التحديات حصول الجميع على المأوى المناسب. ومن العوامل الحيوية المسهمة في الصحة جودة المأوى والخدمات مثل المياه والإصحاح.

- الحوكمة الحضرية التشاركية: يتعين استحداث آليات حوكمة تشاركية محلية تمكن المجتمعات والحكومات المحلية من الدخول في شراكات من أجل بناء مدن أفضل صحة وأكثر أمانا.

- المدن المتكاملة التي يسهل الوصول إليها والمراعية للسن: يمثل المصابون بالعجز 10 في المائة من عدد السكان وتمنعهم عوائق الوصول من المشاركة في التعليم والتوظيف والحياة العامة. وعلى المستوى العالمي يشهد السكان تزايداً يؤدي الى وجود مواطنين اكبر سنا يعاني الكثيرون منهم اختلالات حركية وحسية. ومن بين ما يحسن السلامة ويعزز مشاركة المصابين بالعجز والمسنين عدد من التدابير مثل توفير أماكن انتظار عامة يتيسر الوصول إليها وفواصل ممهدة بالأرصفة وأماكن آمنة لعبور المشاة (مثال: العلامة الممكن تمييزها باللمس، أماكن عبور مشاة منظمة بالإشارات).

- العمل على أن تصبح المناطق الحضرية أكثر قدرة على مواجهة حالات الطوارئ والكوارث: من شأن تحسين قدرة المجتمع المحلي على حماية نفسه من كل أنواع الأخطار وإشراك قطاع الصحة في عمليات وضع الخطط الخاصة بالتصدي على الصعيد المحلي للطوارئ بزعامة مجتمعية وفي مجال التدريب، أن يساعد في الحد من المخاطر ومواجهة الطوارئ على نحو أكثر فعالية، ومن نتائج تطوير أماكن التجمع السكاني والبنى التحتية بعيدا عن المناطق المهددة بالأخطار الطبيعية والتكنولوجيا وإقامة مرافق صحية مأمونة تكون مستعدة للتصدي للطوارئ أن تعيش المجتمعات ظروفا أكثر أمنا وهناك حاجة إلى وجود نظم صحية قادرة على مواجهة الطوارئ الناجمة عن جميع الأخطار وعلى تقديم خدمات صحية مأمونة ومضمونة وعلى توفير الغذاء والماء والحماية والمأوى في التجمعات البشرية وذلك للتقليل، إلى أقصى حد، من الضحايا وعدد حالات العجز بسبب الطوارئ والكوارث وما إلى ذلك من الأزمات.

 

 

أحمد خضر الشربيني




 





تشكل الإصابات الناجمة عن حوادث السير على الطرق، في جميع أنحاء العالم، تاسع الأسباب المؤدية إلى الوفاة





غالبية النمو المتزايد للسكان سيحدث في مدن يتراوح عدد سكانها بين مليون و 10 ملايين نسمة





تزايد عدد المركبات في الدول النامية يزيد من نسب تلوث الجو في أغلب المدن إضافة إلى ارتفاع نسب حوادث السير





يعاني نحو 32 % من سكان الحضر في المناطق النامية نقص إمدادات مياه الشرب النظيفة وشبكات الصرف الصحي بالإضافة للأماكن المنكوبة مثل هذه المنطقة





سرعة التحضُّر فاقت في العديد من الحالات قدرة الحكومات على تشييد البنية التحتية الأساسية