آخـر المعـارك الخاسرة.. ضجة التطبيع الثقافي مـع إسرائيـل هاني الراهب

آخـر المعـارك الخاسرة.. ضجة التطبيع الثقافي مـع إسرائيـل

من أولى حروبنا إسرائيل وحتى آخرها كانت اللغة العربية من بين أبسل المقاتلين وأكثرهم نشاطا. والآن وقد صمت الرصاص إلا قليلا. وتستعد "البواريد" للعودة إلى مهاجعها. تمضي لغتنا قدما في خوض معركة سادسة ضد التطبيع الثقافي مع كيان وصفه حتى مؤيدو التطبيع بأنه دولة عنصرية قامت على القوة.

ويبدو أنها معركـة بالفعل، بالنسبة لمؤيدي التطبيع الثقـافي ومعـارضيـه على حـد سواء. فالذي يرى مآلاً إيجابياً للتطبيع، يعتقد أن ثمة نضالاً حقيقياً يجب أن نخوضه لنصل إلى حالة طبيعية من التبادل الثقافي مع إسرائيل. والذي يرفض، يقرن رفضه بالدعوة إلى نضال حقيقي لمنع هذا الشر، هذا العار، أو بالأحرى: لمنع هذه الهزيمة على آخر الجبهات.

من هنا وهناك تنبري الأقلام وتعلو الأصوات. ولدى كـلا الجانبين حشـود مهيبـة من الكلمات والجمل والفقرات والمقالات والخطب، ومجهرات الصوت. فاللغة العربية لم تخذل يوماً مريديها ومحترفيهـا. غير أن حقيقة بسيطة تبرز وتسطع من بين تلك الحشود، ولا يبدو أن أحـداً يعيرهـا اهتماما. إنها حقيقة الموقف الانفعالي الكـامن وراء كلا الموقفين، حقيقة أن كلا منهما هو في جوهره رد فعل على صيرورة تاريخية، وليس صانعا لهذه الصيرورة.

قبل نيف وعشرين عاماً، ظهرت الترجمة الكاملة لرواية يائيل دايان، التي عنوانها (غبار). وفي الفترة نفسها التقيت محمـود درويش في دمشق. كـان الشـاعـر الفلسطيني المجيد واضحا وقـاطعاً في رفضه لتلك الترجمة، ولكل ترجمة أخرى لأي نتاج ثقافي أفرزته الحركة الصهيونية. وكان مبرره لذلك الرفض خوفه على القارئ العـربي من أن تجرفه الثقافة الصهيـونية بأوربيتها، وتماسكها، وقوة حجتها، وهو الذي، أبقته مؤسسات الحكم العربية في ظلمة معرفية دامسة إزاء الفكـر الصهيـوني، والتـاريخ الصهيـوني والثقافـة الصهـيونية.

ما أشبه اليوم بالبارحة

منذ قيام الجامعة العربية، كانت ثمة ضرورة تاريخية و "أمنية" تجب مواجهتها. إنها تتجلى ببساطة فيما جاء في الأثر: من تعلم لغة قوم أمن شرهم. غير أننا ونحن لم نكن نملك يومهـا الفعل، لم نقم بشيء سـوى رد الفعل: إسقاط الثقافة الصهيـونية من الحسبان. صارت إسرائيل دولـة بحسب الشرعية العالمية، ورفضنا نحن إعطـاء الكلمـة تأشيرة دخـول إلى محراب اللغـة العربية. قامت إسرائيل بترجمة أهـم الآثار الإبداعية والثقافية العربية في لغتها، وقمنا نحن بطرد الثقافة الصهيونية من الذاكـرة. ومنذ ذلك الحين، والصراع العربي الصهيوني عند الصعيد الثقافي على الأقل، يقوم وفق معادلة ظلامية فكهة: الفعل لإسرائيل، ورد الفعل للعرب.

منذ متى نعرف إسرائيل؟

السؤال الكبير هو: ماذا كان حدث لو بدأنا نعرف منذ 1945؟ إن هذا التاريخ ليس حداً فاصلاً بالطبع، فواقع الدولة الصهيونية كان قد بدأ منذ 1928، عندما أسس بن غوريون "حكومة ظل" باسم الوكالة اليهودية، سوى أننا، وتجنباً للاعتساف نبدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية، وبقيام الجامعة العربية. بمعنى آخر، نبدأ بالفترة التي صار العرب فيها "أحراراً".

بتعبير أجرأ: لماذا لم يبدأ التطبيع منذ عام 1945؟ لماذا لم يخطر على بالنا أن نعرف إسرائيل عندما كانت تلك المعرفة جزءا من مسألة دخولنا التاريخ أو خروجنا منه، مسألة حياة تاريخية أو موت تاريخي؟ ولماذا خطر على بالنا الآن، بعد أن انهزم طرفا الصراع، العربي والإسرائيلي، وربحت أمريكا حروبها الخمس؟

تخصيصا: لماذا لم تظهر مويجة خافقة واحدة على بحيرة الثقافة العربية، يوم ظهرت (غبار) بالعربية، وهي رواية تقول لجميع الذين يهمهم أن يقرأوا: إن المشروع الصهيوني يفضي بالضرورة إلى الموت الروحي والعاطفي لأصحابه؟ إن مؤلفة الرواية ليست فقط إسرائيلية، وإنما هي ابنة موشى ديان، أحد أعتى أعمدة الصهيونية عبر تاريخها، والرواية ليست نشازا في أعمال يائيل دايان فهي الثانية في ثلاثية متميزة تتناول نازع الموت المتوارث في الذات اليهودية / الصهيونية عبر التاريخ.

وبعدئذ أنشئت المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، فلم يكن لديها ما تفعله إزاء الثقافة الصهيونية طوال أربعين عاما، والآن ينبثق فجأة هم يقض مضاجع الدوائر الثقافية العربية اسمه: التطبيع الثقافي مع إسرائيل، فلا نعلم حتى "ردة الفعل" لدى تلك المنظمة.

لاحظوا هذه الكلمة المخاتلة: تطبيع! إنها تعني إقامة علاقة طبيعية (وليس "العودة" إلى وضع طبيعي، كما أشار لطفي الخولي)، في ظروف ما زالت تفتقر إلى أية خاصية طبيعية. بمعنى آخر: إننا مدعوون إلى إقامة "صداقة" ثقافية، إلى إقامة حوار بناء نصل بموجبه إلى اتفاق سلام ثقافي معها، مثلما نحن موشكون على الوصول إلى سلام عسكري وسياسي.

مسيرة التيه في العتمة لم تتغير. بالأمس قالت لنا اللغة العربية إن إسرائيل عدوتنا، فرفضناها شعورا وعقلا وفكرا وإنتاجا ثقافيا، واليوم تقول لنا اللغة العربية إن السلام سيحل في ربوع الشرق العربي، فنهرع لتطبيع العقول تارة، أو نستمر في القطيعة تارة أخرى. وطوال هذه الحقبة، كنا ولا نزال أسرى رد الفعل. عندما كان محرما على أدبياتنا وإعلامنا إيراد اسم إسرائيل إلا ضمن هلالات تشير إلى لاحقيقيتها، كان محرما علينا أن نعرف شيئا عن ذلك (الكيان) وتلك الحركة. وعندما أمسى السلام قاب قوسين أو أدنى، وظهرت عبارة (التطبيع الثقافي)، تراءى لنا أننا مدعوون لإقامة سوق عكاظ في تل أبيب.

لم يخطر لنا أننا مدعوون لأن نعرف إسرائيل، ببساطة. والسبب العميق الكامن وراء هذا الرفض التلقائي الراهن لضرورة معرفية هو مجموعة مفاهيم مغلوطة بالغة الجدية.

أول هذه الأغاليط القول بأن جوهر الصراع في الشرق العربي إنما هو الصراع القائم بين العروبة والصهيونية. إذ أربعة وعشرين قرنا من علاقات السيف والنار بين الشمال والجنوب (بدءا بفتوحات الإسكندر المقدوني) تختزل في شبه جملة: الصراع العربي الصهيوني. فكأن تاريخا من الصراع غير منقطع البتة، تاريخاً أخذ في العصر الراهن شكل اقتتال بين المصالح الشمالية والنهـضة العربية، قد توقف، وجلس على مقاعد المتفرجين، مفسحا المجال للصراع العربي الصهيوني. بينما الأمر ببساطة هو أن الصراع العربي الصهيوني انفجر عندما أرادته، المصالح الشمالية أن ينفجر (بغية وأد النهضة العربية وتأمين تلك المصالح) وقد انتهى هذا الصراع لأن تلك المصالح أرادته أن ينقلب إلى حمامات بيضاء.

لماذا نخشى الثقافة الإسرائيلية؟

وما دمنا لم نخش يوماً معرفة الثقافات الإنجليزية والفرنسية.. انتهاء بالأمريكية- وهي التي بدأ مشروعها الاستعماري لوطننا منذ القرن السابع عشر، ما دمنا لم ننقطع عن ترجمتها إلى العربية، وعن تحصيل شهادات الدكتوراه من جامعاتها، وما دمنا لم ننقطع عن التفاعل معها سلبا أو إيجابا، فما الذي يمنعنا من معرفة أحد فروعها، والتعامل معه، ونعني الثقافة الصهيونية؟

الجواب في تقديري، موجود خلف ردة فعل الشاعر محمود درويش على ترجمة يائيل دايان إلى العربية. وهو أغلوطة عقلنا الثقافي الثانية: رفض الآخر. ولا أظننا بحاجة إلى استعادة المصادرات التي حفل بها تاريخنا الثقافي السياسي، والتي عانت منها أجساد أصحاب العقول المختلفة. فالآخر هو دائما عدو ممكن لا صديق محتمل. والرأي الآخر هو دائما إلغاء لرأينا وليس إكمالا له من منظور ثان. ثقافتنا هي ثقافة الواحد لا المتعدد، المفرد الذي لا مشارك له، الذي إما هو وإما العالم، الذي يطفح منه حس بالتهديد، بانعدام الأمن، عندما لا يتطابق الآخر معه. وإننا ليضطرم فينا أحيانا حس بالدونية وخوف من الذل أمام الاحتمال بأننا قد نكون على خطأ. وهو احتمال لا نستطيع الوعي به إلا عندما يبرز في وجهنا الآخر المختلف عنا. فإذا لم يبرز هذا الآخر، نعمنا بوهمنا السعيد أننا على صواب. نرجسيتنا المتأصلة تخاف أن تعرف ذات يوم أنها أخطأت في هذه الفكرة، أو هذا الموقف، أو هذا الشعور، أو هذه العبارة. فالخطأ يعني الصغار، يعني العار.

ولكيلا نخطئ يتعين علينا أن نرتب الحياة في أنساق صارمة لا يمكن اختراقها، وأن نفرضها على كل وعي فردي باسم القداسة. وتلك هي الأغلوطة الثالثة في وجداننا الثقافي. لنتفحص القصيدة التقليدية من هذا المنظور، ونتساءل: لماذا الإصرار على نسق شعري واحد عمره ألفا سنة؟ إنه إصرار عن حماية أنفسنا من الخطأ، بواسطة انصياعنا المطلق لأنساق لن نقبل أن نجد فيها خطأ، أو أن يوجد غيرها أو بديل لها. أما المغايرة، والمغامرة، والمغادرة، والاكتشاف، والإقرار بالآخر، ورؤية العالم عبر الاحتمالات وليس عبر المطلقات، فهذه كله سيرورات تهديد لعالم سكوني يمنحنا الأمان، والرضا عن الذات، والتعالي على البشرية.

قد يكون هذا هو منبع الموقف السحري لدى بعض المثقفين العرب من التطبيع الثقافي مع إسرائيل. وهو موقف يشكل الأغلوطة الرابعة في وعينا الثقافي. ويمكن للمرء أي يتخيل بسهولة تلك القشعريرة التي أصابت أدمغة البعض وهم يسمعون لأول مرة عبارة: التطبيع الثقافي! إنها قشعريرة طبيعية ومفهومة بالنسبة لأناس كانوا على الدوام في موقع ردة الفعل لا الفعل. خلال نصف قرن كانت أدمغتنا تغسل باستمرار من كل موقف موضوعي تجاه إسرائيل، ومن المعرفة الموضوعية بها. ولطالما ارتددنا عن الاقتراب الفكري منها، مثلما نرتد عن فسقية الماء في البيت العربي خوفا من أن ينفلت الشيطان من تحت البلاطة ويهبط داخل جمجمتنا.

إن أسهل السبل لرفض التطبيع الثقافي مع إسرائيل هو دمغ الحركة الصهيونية بالعقم الثقافي. ولعل هذا ما جعل مسرحيا مرموقا ومثقفا بارزا مثل سعد الدين وهبة يتساءل بازدراء تساؤلا مفاده: أية ثقافة تمتلكها إسرائيل يمكن للمرء أن يجد فيها مبررا للتطبيع الثقافي؟

في الحقيقة سيكون صعبا على عربي صالح أن يتصور نفسه في أية حالة من حالات التطبيع مع إسرائيل. إن تراكم العداء والأذى قد خلق وشما من الكراهية والنفور. ثمة صور يرجى بها التطبيع، وتبدو عصية تماماً، إن لم تكن متأبية، على التقبل. إذ كيف مثلا يمكن لامرئ أن يتجول في شوارع تل أبيب، محاولا التقاط إنسانية ما يتواصل معها؟ إن هذه المدينة الإسرائيلية قد ابتلعت مدينة كنعانية معروفة منذ اثنين وأربعين قرناً، اسمها يافا. وكيف للمرء أن يتجول في أي مكان فلا يتذكر العنف وسفك الدماء والحرائق والهجرة.

تلك مشاعر حقيقية، خالية تماماً من أي اصطناع. غير أنها لا تعني أنه ليس لدى الإسرائيليين ثقافة. إذا تفادينا كيل الاتهامات والإدانات، سيمكننا أن نتذكر أن روائيا صهيونيا، هو شموئيل عجنون، قد منح جائزة نوبل للآداب قبل نيف وعشرين سنة من حصول نجيب محفوظ عليها. وإذا كنا نعلي بيارق الفخر والسعادة لأن أديبا عربيا نال تلك الجائزة، فليس لنا حق في التشكيك بجدارتها ورفعتها يوم نالها عجنون.

إحياء اللغة العبرية

ليس هذا كل شيء، بالطبع. فالحركة الصهيونية قد حققت إنجازا فريدا من نوعه في التاريخ الثقافي للشعوب. ذلك هو إحياء لغة كان اليهود قد تعلموها من الكنعانيين في الألف الثاني قبل الميلاد. لقد اندثرت تلك اللغة قبيل ميلاد السيد المسيح (الذي تكلم السيريانية)، وظلت مندثرة إلا في بعض صلوات الكنيس، على نحو ما هو معروف بالنسبة للغة اللاتينية في الكنائس. لكن الحركة الصهيونية، يوم بدأت مشروعها الاستيطاني الكيبوتزي في فلسطين، بدأت معه مشروعها لإحياء تلك اللغة المعروفة عالمياً باسم العبرية وكان ذلك في بداية العقد الثاني من هذا القرن.

الآن، ونحن في العقد الأخير من القرن العشرين، كيف نرى الأمر من منظور "الصراع العربي العبري" (إذا جاز لنا مزيد من صولات اللغة العربية)؟ وكيف تتأكد جدارة الثقافتين، إحداهما تجاه الأخرى؟ لا نهاية هناك للانهيار التدريجي الحزين للغة العربية. سنقول مثلا إن التعليم الجامعي العربي، في غالبيته. الساحقة يتكئ على العامية ويختزل الفصحى. تصوروا وطنا تقدم فيه المعرفة والعلم بلهجات عامية، حتى إذا اضطر الأستاذ الجامعي إلى مفردة من مفردات العلم والمعرفة نطقها بالإنجليزية. وتصوروا وطنا تلجأ الأكثرية الساحقة من نخبته إلى إلحاق أبنائها بالمدارس الإنجليزية أو الفرنسية، تاركين اللغة العربية لتلاقي أجلها المحتوم.

هل هناك داع لأن نقول إن ثمة أدباء إسرائيليين مرموقين؟ نحن لسنا بصدد التمثيل بليون يوريس أو جينمر متشنر، اللذين أمركا البطل الصهيوني لأنهما ببساطة ينتميان إلى الثقافة الأمريكية. ولكن ماذا نقول عن عاموس عوز، مثلا؟ ولسنا مطالبين بقراءة رواياته التي أقامت الكنيست وأقعدته بسبب موقفها من المشروع الصهيوني؟ وماذا بشأن عاموس إيلون، الذي أرخ للحركة الصهيونية، وأفرد في كتابه فصلا عن العرب الفلسطينيين عنوانه "أبرياء في وطنهم"؟ إنه نموذج ساطع عن الآخر، الذي ينطلق من مكان آخر، بمفهوم آخر، ومحاجة أخرى.

ثمة نقطتان وثيقتا الارتباط بهذا الجانب من إشكالية التطبيع الثقافي مع إسرائيل. فأن ندعو إلى معرفة الثقافة الصهيونية معرفة دقيقة لا يعني وعداً بأننا سنجد جل هذه الثقافة معترفا بالحق التاريخي والثابت لنا في أرض فلسطين. إن في تلك الثقافة أصواتاً لا تقل غطرسة وتعصباً عن دعوة عربية قـديمة غلى إلقاء إسرائيل في البحر. والنقطة الثانية هي أن الدعوة إلى معرفة طبيعية بالنتـاج الأدبي والعلمي للحركة الصهيـونية لا يمكن أن تعني تخلياً عن المنطلقات والمكونات الأساسية لثقافتنا العربية. إذا كنا نؤمن بثقافتنا القومية، فلا ينبغي لنا أن نخشى الاحتكـاك بثقافة أخرى. وإذا لم نكن، فذلك بحـد ذاته سبب كاف لأن نبحـث لأنفسنا عن ثقـافة نستفيد منها. وإن أمة تتنكر لثقافتها، وتعجز في الوقت نفسه عن إبداع ثقافة جديدة أصيلة، ليست في الحقيقة جديرة بكل هذا العناء.

ثلاثة ملايين لا نعرفهـم

في إسرائيل ثلاثة ملايين إنسان يعيشـون في ذلك الحيز الفاصل بين قارتي الوطن العربي. نحن بالكـاد نعرف عنهم شيئاً. لقـد اغتصبوا أرضنا. وكانوا الأداة القاهـرة التي ساهمت في إحباط مشروعنـا القومي النهضوي. لكننا يجب أن نكف عن النظر إليهم بمنظار الموقف السحري المتوارث، وكـأنهم كيان فضائي هبط علينـا من خـارج التاريخ. كيف يعيش هـؤلاء؟ كيف يعملون؟ كيف يحبون؟ بماذا يفكرون؟ كيف يمضون نهاية الأسبوع؟ لقد جـاء في (تقرير العلم العالمي) الذي أصدرته اليونيسكو عام 1994 إن في إسرائيل عشرين ألف عالم، بحسب تعـريف اليونيسكو لكلمة (عالم). وجاء في التقرير نفسه إن بلدان الشرقين الأدنى والأوسط (وهي سبع عشرة دولة) لـديها 19137 عالماً. فهـل استخدمت إسرائيل خاتم شبيك لبيك مثلا لإنتاج هذا العدد من العلماء؟

ليس المسألة مسألـة فضـول وحسب (والفضـول عنصر فعال في سيرورة اكتساب المعرفة)، ثمة حقيقة تاريخية صارخة ما زالت بعيدة بهذا المقدار أو ذاك عن الـوعي العربي، ويجب أن تكـون معروفـة لطرفي الصراع. إنها حقيقة تمت الإشـارة إليها في مقطع سـابق من هذه المقالة، وهي أن الطرفين قد منيا بالخسران، وأن الرابح الوحيد كان - حتى الآن - الولايات المتحدة.

من ناحية، كانت الحرب تقوم أو تقعد، كلما تطلبت مصالح الولايات المتحدة قيامها أو قعـودها. وبسقوط الاتحاد السوفييتي لم يعد ثمة داع لبؤر صراعية في عالم تسوده الأنساق الأمريكية في الاقتصاد والسياسة والثقافـة (لاحظوا الإغارات المكثفة التي تقوم بها اللغة الإنجليزية على لغات العـالم). وهكذا تطلبت مصالح النظام العالمي الجديد إخماد هذه البؤر، وإحلال السلام فيها بدل البارود.

ومن ناحيـة أخرى، كـان هنـاك حلم عربي بالتقدم، والوحدة، والديمقراطية، والعدل، والثقافة، هذا الحلم انشطر إلى عشرين كابوساً إقليمياً. وكـان هناك حلم صهيـوني بوطن يهودي يمتد من النيل إلى الفرات. هذا الحلم يتقلص الآن كبالون مثقوب، مكتفيا بتحقيق واحد على عشرين من اتساعه الأول، وفارضاً على إسرائيل رسم حـدود لها لأول مرة في تاريخها. فأي الحلمين استطاع أن يمتطى حقاً صهوة التاريخ؟ إن السـلام الذي تم تحقيقه الآن في الشرق العربي هزيمة كبرى للمشروع الصهيوني.

حقيقة الأمر أن الطـرفين خـاسران. إنهما ملاكـمان تعادلا أخيراً بالنقاط. والسؤال الأخـير هو: بعد أن يتم استتباب السلام في الشرق العربي، ما الحكمة في أن تظل الثقافة في حالة حرب؟

 

هاني الراهب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات