المهاجر

المهاجر

منذ أن هاجر إلى إفريقيا لم أسمع عنه شيئاً لسنين عدة، لم يبق في ذاكرتي منه إلا اسمه، أكاد أنسى حتى اسمه، فجأة ظهر.

لم أره بل سمعت صوته من الهاتف، لم أعلم من أين أتى برقم هاتفي، لم يقل مَن هو لكني ما إن سمعت صوته بعد سنين طويلة حتى عاد إلى ذاكرتي، اسمه.. حسيب.. ألو.. مَن.. حسيب؟ قهقه ضاحكاً، ومن ضحكه الذي رجرج هاتفي بين أصابعي علمت أنه بحالة مالية جيدة، وهذا الأهم عند المهاجر، بحالة مالية أكثر من جيدة، كيف حالك يا حسيب؟ أين أنت؟ هذا لطيف منك أن تسأل عني من إفريقيا، زاد ضحكه ومن بين موجات ضحكه علمت أنه في بيروت. أنا في لبنان منذ أسبوعين، كيف تريد أن نلتقي؟ أنا مشتاق إليك.. للماضي.. للـ.. قاطعته: أنت أين الآن؟ أنا في مقهى ساحة النجمة! سأل أيّ مقهى؟ قلت: ساحة النجمة!

قال أيّ نجمة؟
- ساحة البرلمان.
- أي برلمان؟
- ساحة العبد.
- أيّ عبد؟
- الساعة.

- أيّ ساعة؟ وراح يقهقه، ثم قال: أنا مشتاق إليك، وأنا أيضاً في مقهى ساحة النجمة. وفي وجهي ساعة العبد، وعلى يساري البرلمان. المضحك أني كنت في المقهى نفسه، نظرت حولي، لمحت رجلاً يشير إليه، قلت في نفسي هذا حسيب!

هل هذا معقول؟ بقي جالساً على كرسيه وطاولته مليئة بالصحون والقناني، منذ عشرين سنة، كان نحيف الجسم، وقف لملاقاتي، أصبح ضخماً، بطنه يتقدم رأسه ما يقارب الأربعين متراً، بصعوبة قصوى استطعت تقبيل وجنتيه، الحاجز كان بطنه، جلست، رحنا نكتشف ما صنعت بنا السنوات، عاد يضحك وبطنه يتراقص يميناً ويساراً ومن أعلى إلى أسفل، وأنا أنظر إليه مبتسماً، قلت لنفسي: ضخامة جسمه تعبّر عن ضخامة جيوبه، ولاحظت أن في كل يد خاتمان، أربعة خواتم في يدين اثنتين.

قلت: ومازلت أكلّم ذاتي بلا صوت، لو كان له ثلاثة أيد لكان زرع فيها خواتم أكثر، ثم ضحكت، قال: ما بك؟ تضحك لوحدك؟ وراح هو يقهقه منادياً النادل: ماذا؟ مازلت كما أنت.. كما كنت.. ماذا تريد أن تأكل.. أن تشرب؟ يا حبيبي يا أنيس. جرسون..؟ ثم راح يصفّق للجرسون منادياً، أنا أعرف النادل الذي لبّى ندائي.

هو لا يحب أن ينادى بهذه الطريقة، هو يعتبر نفسه أكثر من خادم في المقهى، هذا حقّه، هو لطيف مع اللطفاء، لطفاء الزبائن، وصعب ومزعج مع الذين يطلبون خدمة منه بطريقة تشبه الطريقة التي نادى بها صديقي العائد من إفريقيا.

- نعم! سأل زهير هازّا برأسه، زهير اسم النادل.

- أخي أنيس.. ماذا تريد أن تشرب.. أن تأكل.. أن؟

رمى زهير نظرة فيها ابتسامة ممزوجة بازدراء لجليسي العائد من إفريقيا.

- كالعادة..

- تكرم.

وضع الخادم فنجان القهوة لي مع كأس ماء، نظر حسيب نظرة تعجّب، أعتقد نظرته تقول: فقط فنجان قهوة!

وضعت رجلاً على رجل مبتسماً سائلاً حسيب: أخبرني عن حالك، عن العائلة، هل صرت رب عائلة؟ قال: رب عائلتين، وعاد يضحك بصوت عال، كان كلما ضحك يلتفت إليه النادل زهير ويغمزني ويهزّ برأسه، وأنا أعرف زهير منذ زمن، وأعلم ماذا يفكر وماذا سيقول بحسيب الإفريقي؟

- رب لعائلتين؟ ماذا تقول؟

- اثنا عشر ولداً.. منهم الأشقر ومنهم الأسود.. وعاد يضحك.

- اسمع حسيب.. أولاد ذوو بشرة سوداء.. فهمت أنهم من امرأة إفريقية.. الأولاد الشقر.. ممن؟

- ولو..

- يعني؟

- فرنسيّة من قلب باريس، من قلب الدائرة السادسة عشرة، في هذه الدائرة، لبنانيون كثر، ومطاعم لبنانية، يقال إنهم تركوا لبنان إبان الحرب الأهلية ليسكنوا في أغلى حي في باريس.

- اثنا عشر ولداً؟ كم من الإفريقية؟ وكم من الفرنسية؟

- ستة بستة. أنا أدير الآلة وأنا أقرّر العدد. ثم عاد يضحك.

سمعت من آخر المقهى زهير يلفظ، أختك عكــ.. ابتسمت ليس لأخبار حسيب، ابتسمت لما سمعته من زهير.

- واللبنانية؟ هي من قريتك.. أذكر هذا، هي.. قاطعني قائلاً:

- آآه.. لا تخرج عن الموضوع، آيه.. أنت كيف الحال؟ ماذا تفعل؟ لم أجبه.. سألته ماذا تفعل أنت؟ عملك؟ أراك بأحسن حال.

- اسمع.. أتيت لأشتري أراضٍي في القرية، وفي غيرها أيضاً.. لبناء مساكن.. وأبراج.. أنا في تجارة الماس وفي استيراد منتوجات أوربية إلى إفريقيا، خاصة من فرنسا، ومشاريعي هناك كثيرة، وهنا، إن شاء الله. سأبني أو سأحقق ما كنت أحلم به.

- ماذا.. ماذا كنت تحلم؟ أخبرني.. أرى أن بعض أحلامك تحقّق..

- يا.. يا جرسون.. قهوة.. اثنان.. اسمع هل تعمل معي وتمثلني هنا في لبنان؟

- ماذا تقول؟ أمثلك كيف؟

- أن تعمل معي. أن تكون مشاريعي من يمثلها هنا.. أنت.

- لا أعلم إن كنت مؤهلاً لتمثيلك.. وأنا إلى الآن لا أعلم شيئاً عن أعمالك.

علينا أن نجلس بهدوء ونفكّر معاً وتشرح لي أكثر عن أعمالك.

- وماذا تعتقد أننا فاعلون الآن؟ نحن نتكلم بموضوع العمل.. والعمل معاً، نحن نعرف بعضنا منذ زمن بعيد، وثقتي بك كبيرة كما تعلم، لهذا سألتك إذا كنت ترغب بالعمل معي.

لم أجب.. بقيت صامتاً.. أتت القهوة، شربناها صامتين. ثم قال:

- إذا أردت أن نلتقي غداً في أوتيل فينيسيا، نتغذى هناك ونتكلم بهدوء، وأشرح لك ما تريده.

- حسيب.. آ.. طيب.. على كل حال سأكون مسروراً أن نلتقي ثانية.

ضحك حسيب وفي فمه كل أسنانه، عكسي أنا.. قمت عن كرسيي ومددت يدي للسلام.

- لأ.. لأ.. سنتغذى معاً.. انتظر ستأتي زوجتي.. ستتعرّف عليها.

- أية زوجة؟ أقصد الإفريقية أم الفرنسية؟

- أنت لم تتغيّر.. الآن بسؤالك هذا أعدتني إلى أيامنا.. إلى السنوات التي مضت، ضحكت بدوري، هذا جيد إن كنت لم تنس الماضي. الآن أستطيع أن أكون صريحاً أكثر معك. وأنا عدت الآن، الآن إلى الماضي، إلى شبابنا، هل تذكر؟ سنين الدراسة في مدرسة المعارف؟ في ثانوية «حوض الولاية»، لمحت في وجهه تعبيراً جديداً لم أره قبلاً، قبل ساعة، نظراته تعود إلى الماضي، فيها بعض الكآبة والشوق، ساعتئذ علمت أنه يود لو تعود الأيام إلى الوراء، إلى الماضي، إلى أحياء حوض الولاية، وملاحقة فتيات المدارس، شوقه إلى رغيف الزعتر والزيت والسمسمية، إلى فوضى صف المدرسة، حيث ينحشر أكثر من سبعين طالباً، فقراء أو متوسطي الحال جداً، وعذاب المعلمين مع هذا العدد الكبير من طلاب لهو وفوضى، اشتقت أنا أيضاً لهذه الأيام التي لم تكن تحمل هماً أو مسئولية، لم نكن نعرف صالات السينما سوى بالصور التي كانت تملأ مداخلها، كنا ننظر إلى «السوق العمومي» عن بعد، خوفاً، لا أعلم مما كنا نخاف، عندما نتأكد من قرب ساعة الخروج من المدرسة ونحن خارجها، كنا نبدأ بالعودة، كل إلى منزله، لطيفاً، مجتهداً، نظيفاً، حاملاً كيس الكتب القماشي، ذكريات كانت في عيني حسيب، الذي سألني ماذا تفعل الآن؟ أجبته أنت تنتظر زوجتك، لا أعلم أي زوجة؟

- واحدة منهما ستراها. ما إن انتهى من كلامه حتى ظهرت الشقراء, الصبيّة الشقراء، قلت في نفسي: لعنة الله عليك يا.. ابن..

قلتها في نفسي فقط، لعلها حسرة، وحسرة عليّ أنا الذي لا سمراء ولا سوداء ولا حمراء ولا شقراء عندي، قبّلته وسلّمت عليّ بحرارة وأنا ببرودة الخجلان الطفران العطشان الجوعان.

- Bonjour Mousier.. بونجوران.. quoi؟.. فسّر لها يا حسيب..

- بونجوران Ca veut dire deux bonjour لأن اللبناني كريم! Genereux نظر إليّ حسيب زاماً شفتيه، اسم صديقي أنيس.. يا أنيس زوجتي فرنسية. Mireille اسمها «ميراي».

ميراي تكاد أن تكون ابنة ابنته، أو يكون هو جد جدّها، الله يقصف عمرك يا حسيب، هل هي غيرة؟ لا أعتقد.. الإنسان غريب الأطوار.

في اليوم التالي، اتصلت بحسيب، قلت له يا صديق الأيام الغابرة، أنا سررت برؤيتك، وبرؤية الزوجة الفرنسية، أنا أكيد بأنك لن تسر بأن تراني اليوم، أني مسافر بعد ساعة من الآن، أعتذر وتحياتي إليك، وإلى زوجتيك وإن لم أر الزوجة الإفريقية.

***

أنا لم أسافر.. بقيت في بيروت، وبعدت عن مقهى ساحة النجمة خوفاً من أن ألتقي به ثانية، وخوفاً من العودة إلى ذكريات الماضي وبؤسه والأيام المزرية التي عشتها شاباً صغيراً كالكبار، قائلاً لنفسي، وأحاور دائماً ذاتي: إن الحاضر تكفيني همومه وسياساته وأحزابه وحروبه، كلها لا تحمل لحاضري سوى عدم الاطمئنان، فيا صديقي القديم يا حسيب أنعم بما أنعم الله عليك أو أنعم بما أنعمت أنت لذاتك، الحياة قصيرة. أنا لا أجد وقتاً لأراك ثانية، مع أني أرغب وأتشوّق لمعرفة تطوّرك من إنسان شبه أمّي إلى تاجر ألماس، وتطوّر جسدك من قامة نحيفة إلى جسم عرضه كطوله، ومن زعتر وزيت إلى غذاء في أوتيل فينيسيا. سامحني يا حسيب، إن ما يجمعنا هو ماضينا المتواضع، أنا لا أنكر جهادك في إفريقيا وجهادك بين شقراء وسوداء، واثني عشر ولداً، ألوانهم نتيجة لجهاد دؤوب في سبيل تحقيق حلم. ولكل منا حلمه الخاص.

المخلص أنيس

-----------------------------

شرِبتُ وَنادَمتُ المُلُوكَ فَلَمْ أجِدْ
عَلى الكأسِ نَدْماناً لها مثلَ دَيْكَلِ
أقَلَّ مِكاساً في جَزْورٍ سَمِينَةٍ،
وَأسْرَعَ إنْضاجاً وَإنْزَالَ مِرْجَلِ
فتى كرمٍ يهْتَزّ للمَجْدِ لا ترَى
ندامَاهُ إلاّ كُلَّ خَرْقٍ مُعَذَّلِ
عَشِيّةَ نَسّيْنَا قَبِيصَةَ نَعْلَهُ،
فَبَاتَ الفتى القَيْسيُّ غَيرَ مُنَعَّل

الفرزدق

 

 

بقلم وريشة الفنان: أمين الباشا