فن الرسوم الجدارية

فن الرسوم الجدارية

تلفت رسومات عملاقة على جدران الأبنية انتباه القادم إلى مدينة فيلادلفيا الأمريكية، حيث تتربّع هذه المدينة على عرش هذا النوع من الفن بحيث يعتبرها البعض «مدينة الجداريات» من دون منازع. وتبرز هذه الرسومات هوية المدينة إلى ملايين الزوار والسياح الذين يقصدونها كل عام، كما تشكّل - بالنسبة للقاطنين - وسيلة لنقل الثقافة والتقاليد من جيل إلى آخر. ويأتي الفنانون من جميع أنحاء العالم للاكتساب من الخبرة الكبيرة للرسّامين المحليين في مشاريع الجداريات العملاقة. وبالرغم من أن فن الجداريات لا يقتصر على مدينة فيلادلفيا، حيث يوجد هذا النوع من الرسومات في إيرلندا الشمالية والهند، وفي مدن أخرى عدة في أنحاء العالم - غير أن تجربة هذه المدينة تسترعي الاهتمام نظراً للظروف التي أدت إلى تطور هذه الظاهرة.

تعتبر مدينة فيلادلفيا من المدن الأكثر عراقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي عاصمتها الأولى، وهي المدينة الأكثر بروزاً أيام حرب الاستقلال. تحوي فيلادلفيا معالم تاريخية مهمة مرتبطة بنشوء الولايات المتحدة الأمريكية، منها «جرس الحرية» الذي يشكّل رمزاً للاستقلال، بالإضافة إلى العديد من المتاحف التاريخية، غير أن عراقة فيلادلفيا ودورها التاريخي لا ينفي كونها من المدن الأشد خطورة في شمال أمريكا، حيث تشهد عشرات الآلاف من الجرائم سنوياً، منها المئات من جرائم القتل، وتنشط فيها عصابات وزمر المنحرفين، ويشكّل مستوى الجريمة المرتفع أزمة حقيقية لهذه المدينة، حيث ينحاز الكثير من الفتيان إلى عالم الجريمة والمخدرات والعصابات طمعاً في حياة أفضل.

ومن أبرز المظاهر التي طبعت هذه المدينة - نتيجة لأجوائها السالفة الذكر - انتشار «الجرافيتي» أو «الخرابيش» بشدة على جدرانها. وقد عانت المدينة هذه الظاهرة، حيث كانت تلك الرسوم تشغل الحيز الأكبر من المنظر العام للمدينة، خصوصاً في الأحياء الفقيرة والمهمّشة اقتصادياً واجتماعياً. والجرافيتي فن قديم يعزو البعض بداياته المعروفة الأولى إلى القبائل التي استوطنت شمال الجزيرة العربية، وتركت الكثير من النقوش المعروفة بالنقوش الثمودية والصفوية وغيرهما. أما الجرافيتي الحديث، فيعود إلى عقود عدة خلت، وبالأخص في الستينيات حيث أصبحت تلك الخربشات تعبّر عن أحاسيس أجيال من الشباب وآمالهم وإحباطاتهم وتوجهاتهم الاجتماعية والسياسية. وبالنسبة لبعض رسّامي الجرافيتي، فإن رسوماتهم تمثل فناً مميزاً يعكس واقع المجتمعات التي ينشأون فيها، غير أن هذه الرسومات - وإن كان يمكن اعتبارها ظاهرة جديرة بالدراسة - كثيراً ما تشوّه معالم الأحياء والمدن.

وكرد فعل على استفحال هذه الظاهرة في مدينة فيلادلفيا، أنشئت في العام 1984 «شبكة مكافحة الجرافيتي» والتي هدفت إلى توجيه جهود رسامي الجرافيتي نحو فن أكثر رقياً يتفاعل مع القسم الأكبر من سكان المدينة. برزت على رأس هذه الشبكة رسامة جدارية معروفة تدعى «جاين جولدن» التي سرعان ما أدركت الطاقة المبدعة الكامنة لدى العديد من رسامي الجرافيتي. وتطورت هذه الشبكة لتصبح مؤسسة رائدة غير ربحية - «برنامج الفنون الجدارية» - قامت برسم ما يزيد على 2700 لوحة جدارية شكلت علامة فارقة للمدينة وأثرت إيجاباً على نفسية القاطنين فيها.

وظّف هذا العمل - ولفترات مختلفة - الآلاف من أبناء المدينة من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية والعرقية. يقوم - «برنامج الفنون الجدارية» سنوياً بتدريب مجاني على الأعمال الفنية لما يزيد على 3000 من فتيان وفتيات المدينة خصوصا أولئك الذين يسكنون الأماكن الخطرة في فيلادلفيا. وتغذّى هذه البرامج في الأولاد، بالإضافة إلى المهارات الفنية، روح التعاون الجماعي ونبذ العنصرية وحل النزاعات بطريقة حديثة. ويقوم البرنامج كذلك - وبالتعاون مع السلطات التربوية في المدينة - بتوفير برامج لنحو 100 مدرسة عامة عبر شراكة تهدف إلى استقطاب طلبة المدارس خصوصاً الفتية أصحاب الأعمار الحرجة الذين هم أكثر عرضة للانحراف. وينخرط هؤلاء في أنشطة تتيح لهم اكتشاف مواهبهم، بالإضافة إلى إيجاد متنفس لهم بديل عن الانتماء إلى العصابات والزمر. كما يوظف البرنامج نزلاء السجون في خطوة تهدف إلى إبراز طاقاتهم الفنية وكسر دوامة الجريمة والعنف في المجتمعات المحلية.

أضافت الجداريات الكثير من اللون والجمال والحياة إلى أحياء فيلادلفيا، وأوجدت الكثير من الحيوية في نسيج المدينة. ويتفاوت حجم اللوحات من جدارية صغيرة بطول طابق واحد إلى جداريات عملاقة تمتد إحداها - مثلاً - إلى ثماني طبقات. وتتفاوت تكلفة الجدارية تبعاً لحجمها وحجم الطاقات البشرية المستخدمة في رسمها بمعدل 10 إلى 15 ألف دولار أمريكي للجدارية الواحدة. ويستغرق رسم اللوحة حوالي شهرين وتستخدم فيها مواد خاصة مقاومة لعوامل الطبيعة، بحيث يمكن أن تدوم من عشرين إلى خمسة وعشرين عاماً.

إن تجربة مدينة فيلادلفيا جديرة بالتكرار في بعض مدننا العربية، التي تعاني ظاهرة الرسومات والخربشات على الجدران. ومما نشر في ذلك - على سبيل المثال - تقرير في جريدة عكاظ السعودية (28 يناير 2007) أشار إلى أن الخربشات على الجدران في مدينة جدة أصبحت ظاهرة مسيئة لبعض أحياء المدينة. وتم رصد مبلغ 20 مليون ريال لمعالجة هذا الأمر، ووضعت خطة لاحتواء المجموعات التي تقوم بالرسم على الجدران ومساعدتها في تفجير طاقاتها بشكل معبّر وهادف. ولعل توجيه طاقات الشباب نحو فن الجداريات سوف يعبّر بطريقة أصدق وأكثر جمالاً عن أحوال ساكني المدن وأحلامهم وآمالهم.

 

 

يوسف صيداني 




اللوحة: تأملات فيلادلفيا - Philadelphia Muses - الفنانة: ميج سليجمان. - اللوحة: هي احتفاء بعالم الإبداعات من الموسيقى والرسم والرقص والاختراعات والكلمة





اللوحة: رحلة القراءة - Reading a Journey - تعكس هذه اللوحة اهتمام المجتمع بالتربية والقراءة. - الفنانون: دونالد جنسلر وجاين غولدن وتلامذة من «جامعة بنسلفانيا





الجدار قبل الرسم





الواجهة قبل رسم الجدارية





اللوحة: أبواب السلام تعكس هذه اللوحة جهداً مشتركاً من مدرسة الأقصى الإسلامية في فيلادلفيا وبرنامج الفنون الجدارية. هدفت اللوحة إلى إثبات مشاركة مسلمي فيلادلفيا في تكوين نسيج المدينة وبناء الجسور بين مختلف المجموعات الدينية والعرقية في المدينة





اللوحة: حياتي، دربي، مصيري تاريخ الرسم: 2005. - هدفت عملية رسم اللوحة إلى إبراز طريقين أمام الشبيبة المشاركين: إما تحمّل المسئولية والمشاركة في عملية بناء المجتمع أو سلوك طريق الانحراف والجريمة والعقاب





الجدار قبل رسمه