الألم النفسي أنيس فهمي
الألم هو أكثر الأعراض المرضية شيوعا، وهو الذي يضطر المريض إلى استدعاء الطبيب أو الذهاب إليه لاستشارته، وهو بمثابة جرس الإنذار الذي يستدعي المعونة أو النجدة.من الشائع أن الألم هو تعبير عن مرض عضوي، ولكن في السنوات الأخيرة، ومع ضغوظ الحياة ومشكلاتها وإحباطاتها المتعددة والمختلفة أصبح الألم في كثير من الحالات تعبيرا عن اضطراب نفسي أو محنة اجتماعية.
نبذة تاريخية
منذ زمن بعيد عرف الأقدمون أن الألم يمكن أن يصدر عن عامل نفسي. والحالات التي يستمر فيها الألم مدة طويلة أو يكون شديد الوطأة كان الأطباء يطلقون عليها اسم "هبوط الروح المعنوية" أو "النوراستينيا" (أي الضعف النفسي). وقد لاحظ العالمان سيدنهام Sydenham وبرودي Brodie أن الهستيريا يمكن أن تسبب إحساسا شديدا بالألم. وفي كتاب "دراسات في الهستيريا" وصف فرويد وبروير Breuer بعض الحالات النموذجية لهذا النوع من الألم. ونظرا لأن التعبير عن المعاناة بواسطة الانفعال لم يعد في وقتنا الحاضر شيئا يتقبله المجتمع بسهولة، لذلك فإن المعاناة النفسية أصبحت تتخذ صورا متعددة من الآلام والأوجاع الجسمية التي يسهل التعبير عنها لفظيا والتي تصادف من المجتمع قبولا أفضل، لأن المشتكي في هذه الحالات ينظر إليه كمريض يستحق العطف الاجتماعي والمساعدة المادية مما يجلب فائدة للمريض وبالتالي يؤدي إلى استمرار الآلام الجسمية لمدة طويلة.
الخصائص الإكلينيكية للألم النفسي
تكثر الإصابة بالألم النفسي في السيدات عنها في الرجال. فمن بين 430 مريضا بالألم النفسي أحصى العالم وولترز Walters ثلاثة رجال فقط مقابل سبع سيدات في كل عشرة من المرضى. وقد يكون الألم في ناحية واحدة أو في عدة أماكن من الجسم. وأكثر الأجزاء إصابة بالألم هي الرأس والرقبة، ولا يوجد وقت معين لظهور الألم. وفي حالات كثيرة يكون الألم مستمرا ولكنه متغير في شدته. ومن المهم أن نعلم أن الألم النفسي لا يوقظ المريض من النوم. وقد يشكو المريض من الأرق ولكن ذلك ليس راجعا إلى الألم بل إلى العلة النفسية الأساسية كالاكتئاب مثلا.
إن الأسلوب المتقلب لهذا الألم يتماشى مع الأحداث والصراعات اليومية، فالمتاعب والإجهاد والقلق تزيد من شدته، في حين أن الراحة والترويح النفسي قد يخففان من حدته. وقد لاحظ العالم ستينجل Stengel أن الألم النفسي له علاقة بفصول السنة فهو عادة يزداد سوءا في فصل الشتاء. ويمكن في بعض الأحيان استنتاج الأساس النفسي لظواهر الألم من وصف المريض لآلامه بطريقة شاذة تدفع إلى الظن بأنه يهذي. فقد يصف المريض أحيانا إحساسه بالألم بأن يقول مثلا: "كبدي ينهشه الإشعاع" أو يقول: "جزء من دماغي قد تجمد"، أو قد يبدو في حالة انفعالية شديدة قد تحمل على الشك بأنه مصاب بالهستيريا. وعلى أية حال لكي نفرق بين الألم النفسي والألم العضوي لا ينبغي أن نعطي أهمية أكبر من اللازم لأقوال المريض، خاصة أن الأصل العرقي والبيئة الاجتماعية والثقافية لهما تأثير كبير على الأسلوب اللغوي الذي يستخدمه المريض للتعبير عن آلامه. وبالإضافة إلى هذا فإن القلق يؤدي دائما إلى المغالاة في وصف الألم.
وفي بعض الحالات يبدو المريض في حالة معنوية سيئة إلى أن يأتي اليوم الذي يتوصل فيه الطبيب إلى التشخيص الصحيح والعلاج المضبوط الذي يؤدي إلى وضع نهاية لشكوى المريض.
ومن أهم خصائص الألم النفسي أنه لا يستجيب للمسكنات العادية الشائعة. ومن الضروري أن نعرف أن عددا كبيرا من المرضى المصابين بالألم النفسي يميلون إلى استهلاك كميات كبيرة من العقاقير التي قد تسبب لديهم نوعا من الإدمان (مثل العقاقير المنشطة والمنومة والمهدئة).
المرضى المعرضون للإصابة بالألم النفسي
هؤلاء المرضى يتميزون بخصائص معينة أهمها:
* نسبة كبيرة منهم مصابون بنوع أو آخر من الأمراض النفسية.
* لديهم استعداد للاضطرابات الوظيفية العضوية أو النفسية.
* في أغلب الحالات يتعرض هؤلاء المرضى إلى العلاج الطبي والجراحي بسبب أمراض غير محددة، أو آلام تستدعي تحاليل متعددة، أو إقامة متكررة بالمستشفى.
* يميلون إلى أن يصابوا ببعض الأعراض التي يسمعونها من أمهاتهم، أو من الأشخاص المقربين إليهم، أو من الذين قاموا بتربيتهم في مرحلة طفولتهم.
* في المرضى الرجال يرتبط الألم النفسي ببيئة تفتقر إلى الثقافة والتجانس الاجتماعي، ولكن ذلك لا ينطبق على المرضى من النساء.
* تغلب الإصابة بالألم النفسي لدى المصابين بالاكتئاب أو الهستيريا أو هبوط الروح المعنوية.
في دراسة أجراها العالم ميرسكي Merskey على 100 مريض لاحظ إصابة الكثيرين بالهستيريا كما اتضح ذلك من تاريخهم المرضي أو من وجود ظواهر هستيرية ملازمة للألم النفسي. وقد أشار ميرسكي أيضا إلى أن كثيرا من المرضى بالألم النفسي يستخدمون هذه الظاهرة المرضية للتعبير عن غيظهم وحنقهم على أفراد أسرهم وخاصة زوجاتهم لأنهم يعتبرونهن السبب في مرضهم. وبالرغم من أنهم قد يلومون أطباءهم لعجزهم عن تخليصهم من متاعبهم فإنهم نادرا ما يفصحون عن ذلك جهارا.
وفي دراسة أخرى للطبيبة إنجيل Engel عن المرضى المعرضين للإصابة بالألم ذكرت أن الألم النفسي هو وسيلة من وسائل تكيف "الاقتصاد النفسي" وأن الألم بالنسبة لأولئك المرضى يستغل كوسيلة للتكفير والاستغفار، وأنهم يستخدمونه للتخلص من الإحساس بالذنب.
في غالب الأحيان يظهر الألم النفسي للمرة الأولى أثناء المراهقة عندما يعكس صراعات سيكولوجية جنسية، وبعد مرحلة المراهقة ينشط الألم أثناء اللحظات الحرجة الأخرى التي يمر بها المريض أثناء حياته. وقد يحدث هذا عندما تعجز الظروف الخارجية عن إشباع الدوافع الجنسية الكامنة في أعماق اللاشعور.
وقد يظهر الألم أيضا كرد فعل لفقد شخص محبوب، وفي هذه الحالة يكون الألم هو الثمن الذي يدفعه المريض لاسترجاع الحبيب المفقود، أو قد يكون الألم وسيلة لتخفيف الحداد على الشخص المفقود، وقد يكون تعذيب الإنسان لنفسه بواسطة الألم بمثابة تعويض عن الشخص المفقود.
وأخيرا قد يستخدم الألم كتعبير رمزي عن الدوافع المحرمة، سواء كانت عدوانية أو جنسية، والتي لا يجد أصحابها وسيلة مباشرة للتعبير عنها إلا عن طريق الألم النفسي.
السبيل إلى العلاج
يجب على الطبيب أن يكون محاذرا عند سؤال المريض وفحصه. في بعض الأحيان تبدو طبيعة الأعراض السيكولوجية واضحة للطبيب منذ النظرة الأولى، ولكن هذا لا يستبعد الحاجة إلى تقدير دقيق لحالة المريض العضوية.
في أغلب الأحيان يكون الألم قد ظهر عند المريض منذ مدة طويلة قد تبلغ شهورا أو سنوات، وفي هذه الحالة يتعين على الطبيب أن يأخذ في الاعتبار أنه من المحتمل أن يكون الاكتئاب هو السبب الكامن لهذا الألم. إن الآلام الجسمية مثل الصداع وألم المعدة والتعب والأرق واضطرابات المعدة والأمعاء من أكثر أعراض الاكتئاب المقنع شيوعا، كما أن الألم الذي يكون أكثر شدة في الصباح، والمغالاة في القلق (مثل الخوف من السرطان، أو اعتقاد المريض بأن مرضه ليس له علاج) وإجابات المريض المتشائمة، كل هذه العناصر تؤكد لدى الطبيب إصابة المريض بالاكتئاب. وفي هذه الحالات يجب اللجوء إلى استخدام العقاقير المضادة للاكتئاب، لأنها تعطي نتائج باهرة عندما يكون الاكتئاب هو السبب الأساسي في الألم النفسي. أما في الحالات الأخرى فإن الألم يتحسن، وإن كان لا يزول نهائيا، عندما تتحسن حالة المريض المعنوية.
ويحدث الألم كثيرا في حالات الهستيريا، حيث يشكو المريض من آلام بالرأس، أو الظهر، أو آلام بالحوض أو المثانة، أو آلام في مناطق متعددة من الجسم.
وهذا النوع من الآلام يتخذه مريض الهستيريا وسيلة لاستدرار العطف والشفقة وجذب انتباه المحيطين به إلى إعطائه أكبر قدر من الاهتمام والعناية. ونظرا لأن هذا النوع من الألم يستفيد منه المريض، فإن علاجه يكون عسيرا، نظرا لأن الإنسان الهستيري يظل متمسكا بالألم لأنه من الأعراض المقبولة اجتماعيا، كما أنه يضفي عليه صفة المريض ويسمح له بالدخول في مناقشات تستبعد أي ظل للشك في حقيقة شكواه. وفي مثل هذه الحالات يجب على الطبيب أن يتجنب إجراء جراحة غير لازمة، وعليه بالأحرى أن يحاول تشجيع الظروف التي تغري المريض بالتخلي عن التمسك بالألم، والإيحاء له بأن الفوائد التي يجنيها من الألم غير ذات أهمية، وأنه سوف يجني من وراء الشفاء فوائد كثيرة.
وفي السنوات الأخيرة حدث توسع كبير في استخدام الوسائل السلوكية لمعالجة الألم المزمن سواء كان عضويا أو نفسيا في أساسه، أو مزيجا من الاثنين، كما يحدث في كثير من حالات ألم الظهر والصداع. وأول خطوة في خطة العلاج تتكون من تحليل سلوك المريض إزاء الألم (عاداته، الوسائل التي يستخدمها لتجنب الألم، استخدام المسكنات، الانعكاسات الاجتماعية والمهنية). وتوجد طرق متعددة أهمها الاسترخاء والإيحاء، يمكن استخدامها لتغيير أشكال السلوك غير الملائمة. ومن المفيد دائما أن نقلل من حالة القلق بإمداد المريض بالمعلومات الضرورية وتعليمه أن يضع مسافة معينة بينه وبين الألم. ولكن يجب ألا ننسى أن بعض المرضى لا يتقبلون الشفاء إلا إذا كانوا هم المسئولين عن تغيير أشكال السلوك، ومعنى ذلك في كثير من الأحيان أنهم يصبحون المعالجين لأنفسهم بأنفسهم. ويصدق هذا القول على بعض حالات هبوط الروح المعنوية.
وخلاصة القول أنه لكي يمكن شفاء المريض من آلامه النفسية يجب البحث والتقصي عن الأسباب الكامنة وراء هذا الألم سواء كانت أسبابا عاطفية أو اجتماعية أو بيئية أو اقتصادية، أو إحباطات في محيط العمل أو المهنة أو الدراسة، أو صراعات جنسية، أو إحساسا بالوحدة والعزلة عن الآخرين، ومحاولة إزالة هذه الأسباب أو على الأقل تخفيفها بقدر المستطاع، والأخذ بيد المريض وبعث الأمل في نفسه نحو إمكان الشفاء.