ضعف المسرحيّات العربية لا تراث ولا حداثة (ملف خاص)

ضعف المسرحيّات العربية لا تراث ولا حداثة (ملف خاص)

ملف المسرح العربي بين التراث والحداثة

ضعف المسرحيات العربية واضح وصريح. المسرحيات العربية ضعيفة لأنها من دون هواجس أولا. وثانياً: لأنها من دون ذاكرة. إلا في استثناءات قليلة. ذلك أن عمل الشباب يبدأ وكأنه نقطة البداية. لم تجر قبله تجربة. غياب القلق المعنوي يعادله حضور فالت وحشي وبلا عصب في المسرحيات العربية. الأبرز أن المسرحيات هي مسرحيات. أي أنها ليست عناصر في سياق. أي أنها ليست أجزاء في حركة. أي ليست ابنة مولّدات واحدة وظروف واحدة. مولدات الإنتاج غائبة. هذا صحيح. ولكن الظروف غير غائبة. وقد يستعمل غياب المولدات كمولد. ولكن الكل ينأى عن هذه الفكرة تحت غياب الأفكار وكثرة الضغوط وتحوّل العالم إلى عالم استهلاكي، بالمعنى المطلق للكلمة.

كأنّها حرب الفوضى والضياع تجربة المسرح العربي راهناً. وكأن جنودها يتلظّون بنارها. الاندفاعات المجنونة لاتحقق سوى أفعال القتل، يظن المخرج، بأن ناقده مجرم حرب وبأن مادحه ليس ملاكاً. بل إن حقا من حقوقه أن يمدحه الناقد، لأنه يستحق المديح قبل أن يباشر في عمله. المسرح العربي أصبح يقيناً بدل أن يضحي شكّاكاً، الشباب أكثر يقينية من الأساتذة أو المؤسسين أو المجرّبين، لأنهم يفتقرون إلى الوعي التاريخي الذي يمكّنهم من قراءة التجربة التي يخوضون فيها. غريب فعلاً أن يتطرّف الشاب وأن يغدو تطرّفه مثالياً، وغريب ألا يفقد المسرحي الكبير قدرته على التلاؤم مع السائد لكي يتخطّاه من خلال هذه العملية المعقدة. التجربة القديمة لم تثمر أية بارقة أمل على المستوى العام، لأن التجارب بظروفها، الظروف تغيّرت، وحق المسرحيين الشباب علينا أن نعترف لهم، بأنهم يعيشون في زمن فارغ تماماً من الأفكار في ظل ترتيب العالم على صوت واحد، مناخ واحد، فضاء واحد.

ساهمت الظروف في بناء تجربة «المسرح الجديد». «غسّالة النوارد»، تجربة لوحدها، وبمستطاع مسرحي من وزن الفاضل الجزيري أن يفارق تجربة «الجديد» وهي في عزّها مع مسرحية «العوّادة» (عرضت في افتتاح أيام قرطاج المسرحية العام 1989) لأن التجربة لم «تعد قادرة على التقدم. وصلت التجربة إلى جدارها المسدود». في حين يقفز مسرحي شابّ من تجربة أولى أو ثانية إلى دور المتعاقد مع أساتذة المسرح في العالم العربي. روى لي أحد المخرجين الطليعيين التونسيين أنه فوجئ بأحد المسرحيين الشباب من غير بلاده يفاوضه على نقل مسرحيته إلى بلاده لأنه مفوّض من جهة إنتاج. لعل المسرحي الشاب يهرب هنا من تثبيت الواقع المسرحي، فشل مضاف إلى فشل.. وهكذا. امتداد لرقعة الحرب المسرحية غير الواضحة المعالم، لم يعد المسرحي الشاب يتخيل تجربته، إنه يوقّعها فوراً، تتعمّق تجربة المكرّس أو الأستاذ أو المؤسس وتتنوع وتزيدها الحروب الإقليمية والدولية والمسرحية نضجاً وتبلوراً، حين يجد المسرحي الشاب الهزيمة غير المسبوقة بمعركة جزءاً من كاريزما حضوره المستجد. هذه حال عامة، البعض يجتهد ويذهب بعيداً في خياراته ورؤاه وتصوّراته، أما السواد الأعظم، فتحت السمات المقلقة والمتحوّلة وليس عليها أو فوقها. جاء المسرح الفلسطيني - منذ سنوات بمسرحية «المهاجر» بإخراج محمد خميس. إنه ليس فلسطينيا، بل مغربي، إخراجه فارق الخصيصة الفلسطينية دائماً، خصوصا وأن المسرحية، من كثرة شخصياتها وأشكالها التقليدية، أرتيزانا فعـــلية. جـــورج إبراهيم من «مسرح القصبة» اختار مخرجاً مغربياً، بدل أن يسمح لفلسطيني بالتجريب في حدود نص لبناني تمت «فلسطنته». فاخر الفلسطينيون بذلك، مسدلين ستاراً سميكاً على تجارب فلسطينية متقدمة في الإخراج في فرقة الحكواتي الفلسطينية وفرقة «بلالين» و«بلا - لين» و«صندوق العجب» وغيرها. إخراج عادي تقليدي، فاز عنه محمد خميس بجائزة أفضل إخراج في واحدة من دورات أيام قرطاج المسرحية المتأخرة.

الخلطة والجائزة

إشارة تفيض عن محتواها، ذلك أن اجتلاب مخرج مغربي في عرض فلسطيني ليس هدفه خلطة كوسموبوليتية عربية. بل الفوز بجائزة، صحّ التوقّع. سوف يثمر التعاون مع أسماء عربية الفوز بجائزة على حساب الكفاءات الفلسطينية الأكيدة أو المحتملة، حال غير مطمئنة في استتباب «التجارب» العربية الجديدة على المستتب من الأسماء أو التصوّرات، لن تبحث التجربة المحلية في هذا البلد أو ذاك عن صفاتها الخاصة ورؤيتها المتنامية ولغتها وفرادتها التي تمزج الواقع بالخيال والحقيقة بالحلم، مادام الهدف هو الجائزة. لن تتواصل الملامح وتتكامل بعد ذلك، بحيث تشكّل عالماً قائماً، لايزال الكبار أصدق. شحذ الطيب الصديقي في «قفطان الحب» المخيّلة الشعبية وعالم الحكايات السحرية الجميلة. انطلق من معطيات الحكاية وأعاد صوغها كاشفاً أبعادها الجمالية وخيالها الفضفاض، من دون أن يتخلى عن قواها الداخلية وعناصرها السردية.

حكايته تدور في مستويين، مستوى السرد الزمني الملموس، والمستوى الداخلي الذي يجمع الممثلين والشخصيات والأحداث في مساحة المشهد المتكامل، أعجب كيف لا يستفيد مسرحي قطري أو سعودي من تجربته ولو على صعيد التأثّر الشكلي، وكيف تبقى التجارب الخليجية، تجارب قاصرة أو باحثة عن وجهات نظرها فلا تجدها إلا في التقليدي واستعادة التقليدي في صور تقليدية متغايرة.

لا يستفيد أحد من أحد في التجربة العربية في واقعها الراهن على ما يظنّ. لا من السمات الرئيسة ولا من السمات الفرعية أو الثانوية التي تتضافر مع بعضها لتشكّل بنية الدراما في العرض. لم تنجح تجربة الصديقي ولا تجربة الفاضل الجعايبي ولا تجارب روجيه عسّاف أو قاسم محمد أو جواد الأسدي أو غيرهم في حرف المصير التراجيدي للمحاولات الخليجية الشابّة. أشك في أن يتذكّر أحد الشباب العاملين في تجربة المسرح في الخليج مسرحية «حفلة على الخازوق» لصقر الرشود أو مسرحية لفؤاد الشطّي أو لغيرهما من الخليجيين. لعل هؤلاء أقرب أو أميل إلى التجارب المصرية الاستهلاكية المعمّمة عبر الأقنية التلفزيونية. لن أتوقف للمرة الألف أمام الدور الذي تلعبه الأقنية الفضائية على صعيد تنميط العرض المسرحي العربي.

زمن لن يعود

لن يتوقف الزمن ولن يعود إلى الوراء، ولن تنتصر الإرادة الطيبة على الإرادة الشريرة. ولن تتجسّد الأحلام السعيدة لشبّان صغار بضربة حظ. الأسماء الشابّة كثيرة، ولكنها ليست نوعية إلا في ما ندر، إذا تحققت نوعيتها تحققت أحلامها. أتذكّر حسن المؤذن وحاتم دربال وسوسن دروزة والزياني شريف عيّاد ورولا فتّال وسليم الصنهاجي ونوال إسكندراني ومحمد آل رشي وغيرهم. قدراتهم متفاوتة ووعيهم ليس في مستوى واحد، انحاز إلى نوال إسكندراني وحاتم درابال وحسن المؤذن وسليم الصنهاجي، وسوف ألحظ فوراً أنهم جميعهم توانسة، نوال إسكندراني ترقص، ولكنها لا تكتفي بالرقص، بل تترك جسدها يدور في مساحة يقاسمها إياها فنان تشكيلي يرتجل الرسم في مداها الجسدي. قد لا تكون تجربة جديدة تماماً، ولكنها تجربة لا تستسلم أمام المعطى التقليدي أو المغريات الاستهلاكية الراهنة.

قد يقال إن حسن المؤذن هو تلميذ محمد إدريس وأنه عمل مساعداً له. وقد يقال إن حاتم دربال هو تلميذ الفاضل الجعايبي وأنه عمل مساعداً له، في الحالين، فإن الاسمين صاحبا مرجعين، لديهما ذاكرة ولديهما أسماء يستندان إليها، وإذا ما قيل إن الشاب من لبنان أو الأردن أو سورية لا مرجعية له، ظن أن هذا ليس سوى اعتداء على طليعيته، سلوك لا فكري تغلّفه أصوات التآمر التي تنشأ من عدم.

المسرحي العربي الشاب متوحّد بطبيعته، إنه فوق قمة الجبل منذ لحظة ولادته، لا سجالات ولا صراعات بل رغبات لا تلعب أي دور فـــي أي مرحلة من مراحل الصراع، لا مسيرة ولا صيـــرورة إذًا، بل وقوف في نقطة، في مساحة، ومخاطبة العالم عبرها.

حاولت أن أرتّب حضوري دائماً على روزنامة بسيطة، بنيتها على الاختيار والتناوب، اختيار العروض والتناوب بين الشباب والمكرّسين، وقد اخترت العروض العربية، بحيث لم أشاهد عرضاً أجنبياً واحداً أخيراً. لأنني وجدت نفسي أكثر تطلباً تجاه العروض العربية. أما التناوب فهو تناوب مستجد بحسب الظروف والمعطيات، لأن التناوب يولّد استمراراً بين الأمل والخوف أو بين حالين هما مزيج يغلب فيه الأمل في الأولى ويغلب فيه التوجّس في الثانية. لا وجود للمراحل التمهيدية في أي تجربة، سوى في تجارب التوانسة، هذه مسرحية متأثّرة بتجارب الفاضل الجعايبي، وتلك بتجارب محمد إدريس. وتلك تريد التملّص منهما. وتلك إذ تتملّص منهما تؤسر في شباك الهشاشة والتراجع الأكيد. أقول ذلك، لكي لا يبدو ميلي إلى التجربة التونسية تحيزاً غير مفهوم، شاهدت «النار الباردة» لعبد المجيد الأكحل «تأليف سمير العيادي» وجدتها مسرحية غير ذكية، إنها لا تجاور المسرحيات التونسية الأخرى في مشاكساتها وطروحاتها أو استشرافها آفاق ومواقع متقدمة. مسرحية أقل من تقليدية لا أتذكّر منها أي شيء، أتذكر في الموقع ذاته «حدث» لمحمد إدريس، ولكنها تبعد سفر ألف سنة ضوئية عنها لمصلحة «حدث» طبعاً. «حدث» بوابة ذهبية لمسرح جديد، إنها يوم خالد في أيام المسرح العربي، عالم ضبابي شفقي يبني عوامل من الصور المذهلة السائلة عن الحرية والديمقراطية والمستقبل، تجاوز كامل لأهم مسرحيات إدريس المتقدمة من «إسماعيل باشا» إلى «وناس القلوب» و«فلوس الغاز» ما شهدنا إثرها ما يلفت في تجربة الطليعي التونسي هذا. اللافت أنها مسرحية خرساء كما هي مسرحية «ضد مجهول» لتوفيق الجبالي، الخرس صوت المسرحيتين، اللون، الإضاءة، الموسيقى، كلها عناصر استثنائية في مسرحية محمد إدريس، ثمة كتاب مضاء بإضاءة خفيفة، كأنه كتاب مقروء، يسمح بالتخييل عبر القراءة المتوهمة، اختناق الممثلين يفجّر الرؤى بالإدهاش، عند توفيق الجبالي، يتحوّل الناس إلى قمامة وتمطر السماء ما يخيف، ألوان مسرحية إدريس محروقة بالأسى واللوعة، أما مسرحية «ضد مجهول» فهي محروقة بألوانها الفحمية وبأبيضها الاستخاني، مسرحية حيوية في الحياة الثقافية التونسية، تؤكد قلق مبدعيها، الأبوكاليبسية سمة المسرحيات التونسية الأخيرة. لاشيء بعدها، سوى كلام على منع وقمع وإلغاء، صرّح توفيق الجبالي بأن المسرح التونسي خدعة كبرى، أما المسرحيات العربية الأخرى، فكأنها تلهو. «الكمامة» القطرية مخرجها شاب صغير اسمه جاسم الأنصاري، لعب دوراً في مسرحية ألفونسو شاستري، رجل ثري ارتكب كثيراً من الأخطاء البشعة أيام الحرب الأهلية في بلدته، بعد انتهاء الحرب، مارس القمع والتسلّط على أفراد أسرته فخلق منهم شخصيات مهزوزة ومريضة، لا تشعر بالأمان، فجأة يظهر أحد ضحاياه، متعامل مع قوّات الاحتلال، وقع في كمين هو وزوجته وابنته، يغتصب الرجل المرأة ويقتل الابنة الصغيرة، ويضطر إلى قتل الوالد، لكي لا يفشي السرّ. يقع في المصيدة في نهاية الأمر، صراع داخلي حوّلته «الكمّامة» إلى صراع خارجي مفعم بالتضخيم والتفخيم والفصاحة، شاب صغير يريد التحوّل من دون معرفة، عندها يقع في التقليدية القاتلة. لاشيء سوى ازدهار للتراجيديا بشكلها الدارج، لا لعب على المساحة ولا الإضاءة ولا تلوين في الأداءات. حتى إن المعادلة لم تصل إلى كلاسيكية حديثة حين غرقت في بحر التقليد، غير أنه إذا قدّم الكمامة ما عاد إلى تقديم غيرها.

فجأة تنكسر عوالم الحلم والخيال، ذلك أن المواجهة بين عالمين، بين زمنين، لا يلبث أن يسخّر في مصلحة القديم المتقادم، معوقات موضوعية للعرض تعود إلى طريقة بنائه، إنه يصوغ حضوراً مختلفاً في المبدأ، إلا أنه يغادره إلى نوع من الفانتازيا غير المبرّرة والعشوائية البالغة التوتّر، تحوّل المسرح إلى يقين، نسي صراعه، تغتال المسرحيّات الشبابية ذاتها. مسرحيّة «جاز» لسهام ناصر، ليست على هذه الصورة، ولو أنها ليست في جودة «الجيب السرّي» ولا «الجدار».تتردد المخرجة كثيراً في تحضير عمل جديد، بيد أنني أجد في تردّدها عنصراً إيجابياً، لأن المخرجة تريد، علي الرغم من العثرات، ابتداع لغة ذات طابع، مركز ومجد وبلا استطرادات ولا تطويلات.

وفاء الكبار

اللافت أن الكبار كالفاضلين الجزيري والجعايبي ورجاء بن عمّار وجليلة بكّار وتوفيق الجبالي والطيب الصديقي وأسعد فضّة وغيرهم وروجيه عسّاف، ويعقوب الشدراوي وفوّاز الساجر «الراحل» وعبدالحق الذروالي وقاسم محمد وجواد الأسدي ومحمد صبيح في شكسبيريّاته، لايزالون يبعثون دفئاً أو ناراً مشتعلة في أوساط شبابية متفاوتة في اللغة وأساليب التعبير، بقيت اللغة الثالثة مؤجلة.

بين التجربة العربية مائة ألف عامل، بل أكثر، انخرطت قليلاً في التراث مع الطيّب الصديقي (المقامات) وبول مطر (المقامات أيضاً). اشتغلت قلة قليلة على التراث في تجربة المسرح العربي، لم يستطيعوا أن يطيعوه لفترة طويلة، لذا: تركوه لم يجدوا فيه خبزاً ولا جعّة، لم يجهدوا في سبيل إنجاز حضوره في المرحلة الماضية، لم يصلوا إلى حد مقاربة هرمه الهندسي ونظامه الإداري الجبّار، تركوه إلى غير رجعة، تركه الشباب بدورهم، لأنهم لم يجدوا فيه مقالهم، لأنهم لم يجدوا فيه معجزتهم ولا مقاييسهم. بالأخص: في حضور منشأة ما بعد الحداثة المسرحية، قفز الجميع إلى نظام المنشأة أو التجهيز المسرحي. أحرقوا مراحل، لكي لا يقعوا في نظام المسرحي المؤسس، وجد الجمهور نفسه عند السفوح بدل الهضاب، لأنه لم يفهم تلك النقلة السريعة المريبة، قضت السرعة والريبة على المواقع اللازمة للعبور إلى الحديث، لن يعود أحد بعد إلى التراث. ذلك أنه لم يعد حواسياً إثر فشل المحدثين الأوائل في العمل عليه، وإثر اختبارات الأجانب الفاشلة عليه في المسرح والرقص والفنون التشكيلية. لن تصهر المعادن المسرحية بعد في مصلحة عالم واضح المعالم، لأننا في مرحلة إنصات، تدور فيها مسرحيّات دورات ضعيفة وبلا صوت مسموع.

 

 

 

عبيدو باشا 




 





 





 





لا يستفيد أحد من أحد في التجربة العربية في واقعها الراهن





فيروز.. مسرح وغناء





المسرح العربي أصبح يقينا بدل أن يضحي شكاكا