الشكل الملحمي في المسرح الرحباني بين أرسطو وبرشت

الشكل الملحمي في المسرح الرحباني بين أرسطو وبرشت

إن أجواء المعارك والحروب تعتبر الموضوع المناسب للملاحم، إذ تشارك فيها الأمة جمعاء وتفترض وجود أبطال حقيقيين، وتتطلب الشجاعة، ويعطي تصويرها إمكانية للشاعر الملحمي كي يسهب في شرح الحالة الروحية والوجدانية للأمة. كذلك فإن الأفعال والوقائع القومية العظيمة هي بطبيعتها ملحمية لأنها تعكس وحدة الروح الشعبية، ويعكس البطل الملحمي روح المجموعة التي ينتمي إليها. بمعنى آخر، أن عقيدة روح الشعب المتماسكة هي التي تؤلف الشكل الملحمي ومضمونه عندما يكون هذا الشعب موحداً من أجل أهداف كبرى.

يقدم لنا الأدب العالمي نماذج متنوعة للملحمة التاريخية القديمة منها، والوسيطة، لكن الأدب الحديث ابتعد عن هذا النوع من الفنون الكتابية لأسباب لن نخوض في تفنيدها الآن، لكن أبرزها هو التحول في أنماط التفكير، وانتهاء عصر الفروسية بما فيه من مفاهيم البطولة والشجاعة وغيرهما، كما أن الملحمة كانت تؤمن حضوراً للآلهة وهي تتصارع مع الأبطال في عصور تاريخية لم تكن مجموعة من القوانين الثابتة تعمل فيها بعد، فكانت مفاهيم مثل الحق والنظام والأخلاق صدى لهؤلاء الأبطال، كأنها من أفعالهم الخاصة كما يقول هيجل.

وقد حرّضتني المسرحيات الثلاث: «أيام فخر الدين»، و«جبال الصوان» و«بترا» على القيام بمقاربة لعلها الأولى التي تدرس - ولو باختصار - نقاط التقارب والتباعد بين المسرح الرحباني والفن الملحمي. ومما لاشك فيه أن المقاربة هنا تحتاج إلى الكثير من الانتباه والدراية، خصوصاً عندما نضع نماذج الملاحم القديمة مثل جلجامش والإلياذة والأوديسة مقياساً نقيس عليه نماذج المسرحيات الرحبانية الثلاث المذكورة.

وفوراً نبادر إلى التنبيه بأننا لن نعتمد هذه الملاحم مقياساً لأنها تختلف اختلافاً كبيراً عن المسرحية الرحبانية، ومن الظلم قياس المسرحية الرحبانية بأسلوب هذه الملاحم، خصوصاً وأن الأخوين رحباني لم يدّعيا مرة أنهما يصنعان مسرحاً أو شعراً ملحمياً بهذا الأسلوب.

ولكن أجواء الحروب والمعارك والثورات الشعبية وإشراك «الأمة» كافة بهذه الهموم خلق مناخات ذات طبيعة ملحمية تضعف وتقوى من وقت إلى آخر. وكان من الطبيعي ألا تحمل المسرحية الرحبانية المقومات نفسها التي للملحمة لأسباب عدة، منها أن الملاحم بمجملها قصائد شعرية مطوّلة جمعت من المخزون الشعبي والتراثي والميثولوجي للشعوب، وهي بمعنى آخر، نصوص أعيدت كتابتها وترجمتها نثراً وشعراً لكي تقرأ، أما المسرحية فشروطها مختلفة بشكل جذري كما نعرف لأنها فن مشهدي يعرض أمام جمهور في مكان محدد وضمن فترة زمنية قصيرة.

لكن المسرح عندما بدأ يستقي مواضيعه من التاريخ ومن القصص الشعبي، ويضع أمامنا نماذج لفرسان وأبطال خارقين ويصوّر لنا نماذج من الطقوس الدينية والشعبية أدخل إلى عالمه بعض ملامح الملحمة كما حصل مع الأخوين رحباني.

لكن يجب الاستدراك بأن المسرح التاريخي ليس مسرحاً ملحمياً بالضرورة خصوصاً إذا كان أميناً في نقل الحدث التاريخي كما هو، ويبدأ بالاقتراب من الشكل الملحمي عندما يمنح البطل التاريخي بعض صفات البطل الملحمي بإعطائه دور البطل الذي يحمل أو يمثل خصائص شعبه، ويجسّد مفهوم الحرية بمعناها الشامل والتي لا تتحقق إلا من خلاله. فشخصية فخرالدين عند الأخوين رحباني تحمل بعض هذه الصفات، إذ منح الكاتبان هذه الشخصية خصائص البطل الذي يجسّد وحدة الروح الشعبية والقومية لأمته، وجعلا بقية الشخصيات «الوطنية» تؤيده في كل خطواته وتؤمن بسياسته وتتعاطف معه إلى أقصى الحدود، كما حمّلاه مسئولية المحرر الأول لوطنه وصفة القائد المثالي الذي يربط مفهوم الوطن بمجموعة من القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية، وفي طليعتها الحرية والعدالة.

فلم يترك التصوير الرحباني أي شائبة تشوب هذا البطل من الوجهة الأخلاقية حتى في حال الانكسار العسكري الذي فرضته الضرورة التاريخية فمنحاه الأسباب التخفيفية، ورفعا عنه مسئولية هذا الانكسار، لأن هذا البطل يجب أن يبقى في مرتبة التأليه بالمعنى الهيجلي، أي بعد رمزاً جمالياً أعلى لمفهوم الحرية.

وتحمل شخصية «غربة» في «جبال الصوان» الصفات نفسها. فـ«غربة» جسّدت بدورها آمال شعبها وحالته الروحية والوجدانية، فقد منحتها الريشة الرحبانية قوة جذب مغناطيسي هائلة، بحيث شدّت إليها كل أنظار شعبها واهتماماته، ونالت كل مظاهر التآزر والتعاطف، وبدت الشخصيات الأخرى من أبناء «وطنها» تدور في فلكها وتتمحور حولها، وهذا من أساليب الأدب الملحمي الذي يعمل على تركيز التعاطف حول الشخصية الرئيسية ويهمل أحياناً بقية الشخصيات.

البطل الملحمي

ومن ناحية أخرى، تقترب هذه الشخصية من صورة البطل الملحمي كونها مثل شخصية فخرالدين تجسّد الحرية، بل لا تكتسب هذه الحرية إلا من خلالها. وبما أنها شخصية متحررة من الضرورة التاريخية، فقد تمادى المؤلف بإعطائها صفات فوق - بشرية فجعلاها تأتي من عوالم الغيب، من مكان مجهول مترافقة مع ظواهر عجائبية:

الأهالي: (بعد مراقبة الأفق) الغيمة كبرت، الغيمة وسعت.
جميلة: يمكن بدّو يصير شي.. مش معقول السما تتركنا.
شوفو الشمس احمرّت خلف الجوزة
الأهالي: حمرّت الشمس
انكسر الغيم
ولّعت الجوزة
حمرّت الشمس

ثم تطل «غربة» من على صخرة عالية كشبح وتبدأ بإعطاء أوامر تنفذ بسرعة، ولذا يسود الانطباع للوهلة الأولى بأن هذه الشخصية تقترب أكثر من البطل الملحمي لأن لها امتداداً روحياً، تقترب من صورة بطلة من عالم غيبي قد ينسب إلى عالم الآلهة وإن بشكل ملتبس لم يجرؤ المؤلف على إجلائه وتوضيحه لسبب ما، إلا أن الرابط مع عالم الغيب واضح كما هو مع شخصية «عطر الليل» في «فخرالدين» وشخصية البنت المسحورة في «جسر القمر». إلا أن العلاقة مع هذه الآلهة المموهة ليست علاقة صراع، بل هي علاقة تآزر من قبل الآلهة للشخصيات، بمعنى آخر، أن المأسوية لا تنتج من صراع مع هذه الآلهة (الغيب) ، بل من صراع مع رمز سلطوي بشري، وبذا ينتفي وجه من وجوه الأدب الملحمي من هذه الزاوية بالذات، لأن من أسباب مآسي البطل الملحمي صراعه الخاسر مع الآلهة أو مع قوى غيبية قاهرة، وهذا عنصر أساس في التراجيديا الإغريقية، كما هو سبب جوهري في معاناة بعض أبطال الملاحم.

«شيكيلا» في مسرحية «بترا» وحّدت شعبها خلفها وقادته بكفاءة سياسية وعسكرية عالية فاستحقت الانتصار (المؤقت) وكانت تحمل مشروعاً طموحاً لبناء مملكة تنعم بالسلام والازدهار مثل فخرالدين، وهدفها الأعلى الحرية، لكن هذا الطموح اصطدم بقوة خارجية عاتية فتحطم. من هنا تقترب «بترا» من الشكل الدرامي أكثر من اقترابها من الشكل الملحمي لأن البطل فيها يصنع مصيره الذي أراده لنفسه. فقد وضعت شيكيلا نفسها ووطنها في موقف صعب تماماً مثل فخرالدين، وولدت الأزمة من صراع غير متكافئ كان لابد أن ينتهي بخسارة البطل على غرار التراجيديا الإغريقية حيث نرى أن أقصى حد يصل إليه البطل هو موته بعد أن تسحقه القوى المضادة، وقد يضحّي بنفسه ويعذّبها كما فعلت «ميديا» عندما ذبحت بيدها ولديها انتقاماً من زوج خائن في المسرحية التي تحمل اسمها عند يوريبيد. وحفاظاً على كرامتها الملكية تخلت «شيكيلا» عن ابنتها لتموت ذبحاً بيد الرومان حتى لا تستسلم.

إنها صفات كاملة للبطل التراجيدي الذي يتحمل مسئولية «التطرّف»، وكان الإغريق يسمّونه الهبريس (Hibris) أي «التطرّف» في الموقف بالرغم من المعرفة المؤكدة بالخسارة، لأن الدراما لا تقوم على أشخاص ضعيفي الإرادة لا يستطيعون اتخاذ القرارات، بالرغم من أن هذه القرارات قد تؤدي بهم إلى الموت، لأن الدرامية تحتاج إلى الفعل كي تتجسّد، فالدراما توحّد موضوعية الشعر الملحمي وذاتية الشعر الغنائي.

يبقى أن الشخصيات الثلاث: فخرالدين، غربه، شيكيلا، لا تحمل صفات البطل الملحمي بشموليتها بل في بعض ملامحها، لأن الأخوين رحباني في تعاملهما مع التاريخ في «فخرالدين» و«بترا» خصوصاً راعياً مواقفهما الإنسانية الكامنة في الذات الحضارية كشاعرين ينتميان إلي عصرهما فتهيبا تأجيج الصراع إلى حدّه الأقصى، وبالتالي حالا دون بلوغ المأساوية ذروتها القصوى حتى في أشد حالات المواجهة بسبب ميلهما إلى الشعر الغنائي الذي يكتفي بالتأملات والانفعالات وإظهار العواطف، لذلك لم تحصل المعارك النهائية الحاسمة في أي من هذه المسرحيات، وكان يلمح إليها تلميحاً، بمعنى آخر، لم يكن الفعل الدرامي يبلغ تمامه. كعادة الدراما الإغريقية أو الشكسبيرية لسبب بسيط وواضح وهو أن المسرح الغنائي يختلف في جوهره عن المسرح الدرامي الكلاسيكي المعروف، فكان الرحبانيان يركزان على التفاعل بين الشخصية المعنية والظروف المحيطة بها أكثر مما يركزان على التفاعل بين الشخصية والحدث التاريخي، بمعنى أن الصراع يتحول في جانب منه من صراع عسكري إلى صراع أخلاقي لمصلحة الهدف الإنساني الأشمل فيخففان من وقع الحدث التاريخي ومأساويته تماماً كما فعل سعيد عقل، شاعر الرومانسية المتحضّر، في نهاية مسرحية «بنت يفتاح» حيث قفل المسرحية من دون أن ينفّذ الوالد وعده المقدس بالتضحية بابنته، فلجم التأثير المأساوي إلى أبعد حد.

فهل يقترب المسرح الرحباني من زاوية ما من المسرح الملحمي بحسب برشت، الذي يفترض فيما يفترض أن المسرح الملحمي متطور فنياً وله مضمون غني، لكن هدفه الاجتماعي أكثر قوة ويحتوي في داخله على عناصر الفرجة الموجودة في مسرح الشارع؟

برتولد برشت (1898-1966) شاعر وكاتب مسرحي ألماني، وواضع نظريات في فن المسرح، أحدث ضجة في الحركة المسرحية العالمية في أوائل القرن العشرين عندما قدم نظرية المسرح الملحمي، وهي نظرية تختلف اختلافاً واضحاً مع نظرية أرسطو بهذا الشأن، والذي اعتمد عليها النقد والبحث المسرحي طويلاً في فهم الشكل الملحمي ولايزال.

فبالنسبة إلى برشت، المسرح الملحمي هو مسرح تعليمي ولكن من دون أن يتخلى عن بعده الفني. وهو وسيلة من وسائل التغيير الاجتماعي فلا يكون عليه والحالة هذه أن يلتزم بقوانين الدراما التقليدية، لذا هو يناشد عقل المتفرج أكثر من مشاعره.

وتفترض نظرية برشت الملحمية رؤية جديدة للعام تستوحي إلى حد بعيد الفلسفة الماركسية. وكان برشت يعتبر المسرح كلاً متكاملاً لا يمكن أن يكون الجمهور أقل عناصره، ويرى أنه من الضروري عدم الاكتفاء بتطوير فن المؤلف أو الممثل، بل الوصول أيضاً إلى تطوير فن المتفرج. فالجمهور بالنسبة إليه «منتج» له دورأساسي في وظيفة المسرح والمتفرّج يأتي كمراقب وناقد للفعل الدرامي الذي يجري أمامه، لذا من الضروري أن يبقى خارجه، وهو بدلاً من أن يترك نفسه عرضة للتأثر، ويبذر طاقته في التواصل العاطفي، سيتم تحريضه على اتخاذ القرارات، بمعنى آخر سيصبح هو منتجاً أيضاً.

وعي المشاهد

ودعماً لهذه الخطة صاغ برشت مفهوم «الوعي» لدى المشاهد أي إبقاء المشاهد في حال يقظة ذهنية حتى يستطيع أن يلعب دور المراقب فيتمعّن ويدرس ما يقدم إليه، فيصبح بالتالي قادراً على اتخاذ القرار من أجل التغيير على مستوى المجتمع. هذا النوع من المسرح بالنسبة إلى برشت يجب أن يكون راديكالياً يغوص إلى عمق الأشياء، لذا لم يكن يفترض جمالية مسرحية جديدة فقط، ونوعاً درامياً جديداً، بل إعادة نظر في ما كان يشكّل أسس الأنماط والمؤسسات السائدة، أي المجتمع نفسه. هذه باختصار الخطوط العريضة للمسرح الملحمي بحسب برشت.

وقد وضع برشت جدولاً مقارناً بين المسرح الملحمي والمسرح الدرامي في كتيب أسماه «الأورغانون الصغير». لن نستعرض هذه الأفكار هنا بل سنذكر بعضها الذي يمكن أن يقترب من زاوية ما من بعض أشكال المسرح الرحباني. وأستبق أحكام القارئ لأقول إنني سأدخل بحذر شديد إلى هذه المقارنة من دون أن أتبنى أحكامها بشكل صارم ونهائي.

أولاً، يعتبر برشت أن المسرح الملحمي يجعل المشاهد مراقباً وناقداً. أما المسرح الرحباني كما نعرف فيخلق علاقة عاطفية جيّاشة بينه وبين المتفرّج ويداعب الأحاسيس والمشاعر إلى أقصى حد، لكنه في الوقت نفسه لا يترك المشاهد في حال من الاستلاب السلبي الواهم، كما يسمّيه برشت، ويفقده قدرته على المراقبة والتحليل، فالمتفرّج في المسرح الرحباني هو شخص متآزر إلى حد كبير مع ما يطرحه هذا المسرح من أفكار ترد على شكل آراء وملاحظات نقدية وتحذيرات، وتدفع باتجاه الحق والعدالة والحرية، وترفض التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع. هذه كلها تجعل من المسرح الرحباني مسرحاً تحريضياً إلى حد بعيد.

حركة التغيير

وقد لعب المسرح الرحباني دوراً واضحاً في تهيئة النفوس لحركة تغييرية لدى شريحة واسعة من مشاهديه، وأوصل هذه الشريحة إلى مستوى من الوعي بحيث أصبحت جاهزة لتقبّل أي تغيير في البنى الفكرية والاجتماعية للوطن، أو على الأقل يصبح هذا المتفرّج جاهزاً لإصدار الأحكام في ما يريد ويختار، وقادراً على التمييز بين واقعه وبين ما يطمح إليه. وهذا شرط ثانٍ من شروط المسرح البرشتي.

ولاتخاذ هكذا قرار يجب أن يصل المتفرّج إلى مستوى من «المعرفة» وهذا شرط ثالث. والمسرح الرحباني يشدّد على تقديم نوع من المعرفة إلى جمهوره أو على الأقل الدعوة إليها بمعنى معرفة الحدود بين الحق والظلم، وبين الحقوق والواجبات، لكنه يشدّد أيضاً على ربط المعرفة بالمتعة.

وإن كان يعرض المشاعر من خلال أبطاله، ويقود هذه المشاعر إلى ذروتها، فهو في الوقت نفسه يعرض دوافع هؤلاء الأبطال وحوافزهم، بمعنى أن يكون لهؤلاء الأبطال دوافع تتعدى التأثير في المشاعر إلي خلق حالة توافقية مع الناس تعبّر عن مطالبهم ونوازعهم. فملهب المهرّب في «يعيش يعيش» تحرك بدافع الغيرة على حقوق مجتمعه التي قصّرت الدولة في تأمينها ووصل به الأمر إلى الاستيلاء على السلطة. وغربة في «جبال الصوان» حرّكت المشاعر لدى المتفرج إلى أقصاها حتى تماهى هذا المتفرج بها، لكنها في الوقت نفسه كانت تمتلك حوافز هائلة لتغيير واقع ثقيل لا يحتمل هو الاحتلال، وهي بالتالي لعبت دوراً تحريضياً قوياً لدى المتفرّج ناقلة إليه شحنة حارة من الوعي واليقظة و«الوعي» هو هدف من أهداف المسرح البرشتي.

لقد تناولنا أربع نقاط حددها برشت لمسرحه الملحمي هي: أن المسرح الملحمي يجعل المشاهد مراقباً وناقداً، ثم أنه يجعل المشاهد قادراً على اتخاذ القرار المناسب. ثالثاً إيصال المتفرج إلى مستوى من المعرفة، ورابعاً فكرة الوعي.

بعض نقاط أخرى يمكن أن يلتقي بها المسرح الرحباني مع الشكل الملحمي البرشتي نشير إليها بشيء من التحفّظ، منها أن النص يبنى بتسلسل متعرّج للأحداث، بمعنى أنه يتضمن مشاهد تبدو منفصلة عن السياق العام للنص. وقد نجد نماذج من هذا النوع في المسرح الرحباني كمشهد سباق الخيل في «يعيش يعيش» المنفصل تماماً عن السياق الروائي، ومشهد ناطور الكروم في «جبال الصوان». وأما «ناس من ورق» و«قصيدة حب» فتتألفان من مجموعة مشاهد ولوحات منفصلة لا يربط بينها أحياناً سوى خيط روائي رفيع.

من نقاط التقارب أيضاً أن المسرح الملحمي يقدم العالم في حالة تطوّره المستمر، وهذا ما فعله المسرح الرحباني بانتقاله من معالجة الحالة الريفية التراثية إلى معالجة الحالة المدينية بتعقيداتها السياسية والاقتصادية والتواصلية بين الناس. ونادى بوجوب التقدم إلى الأمام من خلال تحسين منظومة القوانين وتأمين حرية العمل وتطوير العمران والاقتصاد واستلهام مقومات العلم والفن وخلق الفرد الحر، وهذا كله من ضروريات التقدم. يقول الشيخ خاطر للمتقاعسين في «أيام فخر الدين» الذين تعوّدوا على العيش البليد في ظل الاحتلال: يللا اشتغلوا تا تصيروا دولة، الدولة اللي ما بيبنيها شعب مَنا دولة».

نقطة أخيرة يقترب فيها المسرح الرحباني من أحد شروط المسرح الملحمي البرشتي، هي ترك النهاية أحياناً مفتوحة على مختلف الاحتمالات، فلا يهتم المسرح البرشتي بحلّ العقدة في النهاية كشرط حاسم، بل بتسلسل الأحداث، ولا يقفل الموضوع دائماً على حل مفروض، فيبقى مصير الأبطال أحياناً خاضعاً لشتى التأويلات والتفاسير، ويصبح ذهن المتفرّج يعتمل بالتساؤل عن مصيره. نجد شيئاً من هذا في المسرح الرحباني في شخصية هولو في مسرحية «الليل والقنديل». فهولو هذا يترك القرية ويهجّ في القفار من دون أن نعرف ما إذا كان قد عاد عن طبيعته الشريرة أو بقي عليها، هو الذي «العتمة صاحبتو» و«ضو القمر ضدّو وضو الشمس ضدّو». يُتهم بحب منتورة وبأن منتورة أحبته أيضاً لكن أحداً منهما لا يفصح عن ذلك.

كان عاصي يصرّ بأن هولو لم يترك شخصيته الشريرة ولو أنه أعاد كيس الغلّة إلى الأهالي، بينما يتركنا النص نعتقد أنه فعلاً تاب ورجع عن غيّه. وهكذا يترك لنا النص نهاية غامضة غير محكمة الإقفال.

أما الشخص في المسرحية التي تحمل اسمه، فيعود مهرولاً إلى قصره بعد حديثه مع بائعة البندورة في آخر المسرحية مخافة أن يكون أعوانه قد دبّروا له مكيدة للإطاحة به، وتبقى «البنت البياعة» بلا حل لقضيتها تغني!

جينا لحلاّل القصص تنحل قصتنا
ولقينا في عندو قصة يا محلا قصتنا

ولا نعود نعرف عن مصير هذا الشخص هل فعلاً أطيح به أم لا؟

أما مسرحية «أيام فخرالدين» فتنتهي باستسلام الأمير إلى الجيش العثماني طوعاً ولا نعود نعرف مصيره أيضاً بحسب الحبكة الرحبانية. لكن تنتهي المسرحية بأنشودة للجوقة تقول:

راجع بصوات البلابل
راجع بغناني الحصّادين
.. واقف عَ بواب القناطر
جايي مع هبّات الأشعار
.. راجع بزنود الفوارس
راجع بإيام الأعياد..

وهكذا يخفي علينا الأخوان رحباني المصير التاريخي لفخر الدين، وتبقى النهاية غامضة بالنسبة إلى هذا البطل الذي يمكن أن يعود بشكل ما ليعيد بناء الوطن الذي يحلم به الشعب.

هذه بعض نقاط التلاقي بين المسرح الملحمي بحسب برتولد برشت وبين المسرح الرحباني، وهي تختلف كما رأينا عن المفهوم الأرسطي للشكل الملحمي الذي كنا قد عددنا بعض نقاط تلاقيه مع شخصيات رحبانية. ولاشك في أن البحث لن ينتهي هنا وهو يحتاج بعد إلى دراسات أكثر دقة وتفصيلاً لاستخراج نتائج يمكن تبنّيها علمياً، لكنها خطوة أولى خطوناها بحذر شديد نرجو أن تفتح الباب على خطوات أخرى مستقبلاً.

 

 

 

نبيل أبو مراد 




من مسرحية زنوبيا





فيروز وعاصي الرحباني





من مسرحية زنوبيا