المظاهر الأرسطية في مسرح عبد القادر علولة

المظاهر الأرسطية في مسرح عبد القادر علولة

إذا كان الإخراج المسرحي لغة لها مفرداتها ودلالاتها ومصطلحاتها وإيحاءاتها، فهي لغة موازية ومترجمة للغة النص المسرحي، لكنها لا تظل على هذه الحال، بل تتحول إلى تفاعل بين النص وإخراجه، فلا يحدث أي انفصال بينهما، (بين الأفعال والأقوال - الكلمة والحركة) بل يبدو في النهاية وحدة متكاملة، على الرغم من تعدد عناصرها، ذلك أن الإخراج يعد هدفا استراتيجيا، ففيه يتم تحويل النص (المكتوب) الذي يحتوي على مشاهد تثير تأملات وانفعالات المشاهدين التي لا تمنحها لهم الحياة اليومية بكل تعقيداتها واضطراباتها. ولا تتم هذه العملية إلا عندما يتجسد هذا النص من خلال التمثيل والتصميم الموسيقي والإضاءة أمام الجمهور الذي يتفاعل معه داخل مبنى، وقضاء خصص لهذا الغرض.

بدأ العاملون في الحقل المسرحي يدركون ضرورة الاعتماد على شخص يستطيع أن يمسك بيده خيوط العرض المسرحي، وبالتالي يمكنه منح هذا العرض عناصر التناسب والوحدة والتناغم، و المساهمة في دفع كل مشارك في العرض على إخراج أفضل ما عنده من إبداعات وإضافات. ومن أشهر نماذج مخرجي ما قبل ظهور فن الإخراج «سوفوكليس» و«شكسبير» و«كريستوفر مارلو» و«موليير» وغيرهم من عظماء الفنانين.

إن فن الإخراج ليس مجرد دراسة لتقنيات المسرح وتاريخه فحسب بل، موهبة ووعي حضاري وثقافي وفكري عميق، يستوجب الإلمام بمجموع ثقافات العصر و الإنسان.

علولة ومسرح الشرق

يعد عبد القادر علولة من ألمع رجالات المسرح الجزائري كتابة وإخراجا وتمثيلا، لتجربته الفنية الغنية والمثيرة. وقد لاحت طلائع هذه التجربة بانضمامه المبكر إلى المسرح الوطني الجزائري ممثلاً، ثم انتقل إلى الكتابة المسرحية ثم الإخراج، إذ عُرف في بداية هذه التجربة بنـزعته البريختية وشكل بذلك ظاهرة مسرحية فريدة في تاريخ المسرح الجزائري، بالنظر لما خلفه من نتاج إبداعي جاد ومتميز، جلب إليه اهتمام الدارسين و الباحثين أخيراً، في محاولة لإنصاف تجربته الأكثر تميزاً، عن باقي التجارب في الريبرتوار المسرحي الوطني.

ولعل السبب الذي دفعني إلى اختيار هذا الموضوع هو انفراد هذه التجربة بخاصية استقطاب أذهان و أحاسيس شرائح مختلفة من الجمهور الجزائري. من هنا بدأ التّساؤل؛ التساؤل عن عمقها و قدرتها السحرية في التأثير على المشاهدين فتفرعت تساؤلات أوجزها فيما يلي.

هل مسرح علولة مسرح برختي ملحمي بحت؟

إلى أي مدى يمكن تصنيف علولة في القراءات الحديثة ؟

هل كتابات علولة تنتمي للاتجاه الاستشراقي في الوطن العربي؟

هل برفضه للجمالية الغربية الأرسطية يموقعه في معسكر الشرق؟

تكاد الأسئلة أن تكون عديدة ومتنوعة، بسخاء التجربة عند عبد القادر علولة في ميدان الإخراج المسرحي، لكن ما شاع عن الرجل أنه كان ملحميا خالصا من خلال توظيفه لجل التقنيات البرشتية في خطابه المسرحي.

إنّ المتتبع لأعمال علولة، يكتشف دون محالة أن المؤلف / المخرج يشكلان وحدة واحدة، فهو «فضاء» لتقاطع بين المؤلف والمخرج والباحث عن مسرح جديد يحاول أن يتميز به عن غيره من المؤلفين والمخرجين، حقا قد لا نجادل في أن المخرج يؤسس لاستمرارية المؤلف، وأنّه يعمد على تفجير كل ما أسمته اوبرسفيلد A.Ubersfeld «بلا شعور النصي» فعلولة المخرج يلاحق المؤلف لينـزع منه ما لم يستطع إبداعه في النص الأول، حتى يتمكن من ابتكار هذا اللاشعور وجعله مرئيا متحركاً فوق خشبة المسرح.

أنتج علولة عروضا مسرحية «بروح ديمقراطية» مع الممثلين ومع مصممي العرض فهو يترك لممثليه حرية الإبداع والتصور وفق رؤيته للنص-ديكتاتورية المخرج - وذلك لبلوغ غايته في الخطاب المسرحي الذي عمل لأجله». فالعرض المسرحي عند علولة تتشكل حدوده أثناء عملية التأليف، لأن النص عنده مركب بوضوح وفق أسلوب واقعي مرتبط بجدلية دون إهمال «المتعة واللذة» لهدف تغيير الواقع القائم على الأسلوب الذي ابتكره «برتولد بريخت» المتمثل في -التغريب- فالفعل المسرحي عند علولة يصير وسيلة للكشف عن المضمون من خلال إعادة بلورة النص وفق معطيات محلية، يكتشف المشاهد من خلالها على روح علولة وقوته في جعل الفعل المسرحي مسموعا، معتمدا في ذلك على الممثل وعلى صوته، فالنص عنده ينقل لنا العديد من المعاني والدلالات بطرق متنوعة، لأنه يحتوي على إمكانات متعددة في تصوير الحكاية والحدث والموضوع إضافة إلى استعانته بالتراث (الأغاني، الرقص).لكن ذهابه إلى المتعة واللذة «Le Plaisir» كان يجلب له عدة تناقضات على مستوى تشكيل خطابه المسرحي ذي الأبعاد الملحمية الخالصة فالمحاكاة غريزة في الإنسان ... كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة وأحسن مثال على ذلك، أداء الممثل الشهير «سيراط بومدين» الذي كان يميل إلى التقمص النفسي، جلب له شهرة تعدت حدود الجزائر، وكان يتعاطف معه المشاهدون أثناء العروض المسرحية.

عمد علولة على إعطاء تكوين خاص لممثليه، عند إنتاج كل مسرحية جديدة، وهذا التكوين كان يمس الجانب الفكري على العموم إلى جانب التكوين التقني من تمارين شكلت القاعدة في التعامل مع الشخصية في مسرح علولة، حيث «كان يأخذ مجموعة من الممثلين معه إلى الأسواق الشعبية والمناطق العامرة بالناس، كي يقتربوا من الشخصيات الحقيقية التي يودون تمثيلها على خشبة المسرح»، هذا إلى جانب التكوين السياسي، الذي اعتمد عليه كثيرا في بلورة الوعي لديهم، إلى جانب التكوين التقني حيث ركز علولة كثيرا على تكوين البنية الصوتية، لدى ممثليه، فيقول: «في المسرح نطلب من الممثل أن يحرر ويقترح ويقدم رأيه، ويناقش ليصبح التفاهم في أعلى درجة، طبعا بعد قراءة وفهم الشخصية والنص والأبعاد التي نطمح إليها، ولا أقول أن هذا يعتبر تجريبا، إنها طريقة ديمقراطية في العمل المسرحي وفي بعض الحالات يظهر لنا، من خلال المناقشات التي تجري داخل العمل ضرورة استبدال كلمة أو حركة، ولكن في نهاية الأمر يجري الاتفاق على العرض، وبعد العروض الأولى نتابع النقاش، بغية التحسين، ولكن لا يوجد ارتجال، والممثل لا يخرج عن نطاق الاتفاقية».

مسرح لا يرتجل

من هذا الكلام نلاحظ نقطتين مهمتين في التعامل مع الشخصية والممثلين في مسرح علولة، الأولى هي، مناقشة العرض المسرحي بعد تقديمه للجمهور، فالمسرح المحترف الوحيد الذي كان يناقش العروض بعد تقديمها كان مسرح علولة هو السباق لها، لكي يستطيع معرفة مدى استجابة العرض لدى الجمهور،أي دراسة توقعه وكيفية تحسين مكنيزمات الإرسال والتلقي، والنقطة الثانية تتمثل في أنّ علولة يتفق مع فريق عمله منذ البداية على السير العام للمسرحية. فيقول: «لا يوجد ارتجال بل هناك اتفاقية على العرض ككل»، وهذا الكلام يجعلنا نقف على ملاحظة مهمة في مسرح علولة هو أنّ العمل في رأيه عمل ديمقراطي مبني على المناقشة بين فريق العمل، وما نريد قوله من خلال هذه الفكرة يتفق مع بريخت الذي يقول: «عندنا المخرج لا يدخل فضاء المسرح بفكرة أو رؤية أو تشكيل حركي، أو ديكورات جاهزة، لكن رغبته لا تهدف إلى تحقيق فكرة ما، بل مهمته تتمثل في تنظيم العمل الإنتاجي للمثلين (موسيقيين، ورسامين، الخ...) في رأيه التدريب أو البروفات لا تعني إرغام الممثلين على تقبل رؤيته التي وضعها مسبقا للعرض بل وضعها محل التجريب». وتعد إدارة ممثل والوصول إلى أعماق الشخصية من الأعمال المهمة عند المخرج فمن خلال شروحاته وتفصيلاته يجعل الممثل أكثر قدرة على الفهم، ومن ثم أقوى على إقناع الجمهور بالشخصية التي يؤديها أمامهم، ويلزم هذه الطريقة، الكثير من التمارين الجسدية والصوتية، حتى يتمكن من إعطاء الكلمة معناها القوي، إنّ الممثل يؤدي بلغة نظرية وسمعية كلمات النص وصمته، إنّه يترجمها بجسده، بوجهه وصوته، حتى لا يتخيل للمشاهد أنه يرى نصا منفصلا عن الإخراج.إن هذه الخاصية هي اتفاق مابين المسرح الكلاسيكي و المسرح الذي دعا إليه عبد القادر علولة، فإدارة الممثل تشبه بكثير الطرق التي أسس لها المخرج الروسي ستانسلافسكي ودونها في كتابه الشهير «فن أداء الممثل».

إن الأداء التمثيلي لأعمال علولة يرتكز كثيرا على عامل السرد وعلى تقنية الممثل في التحرك على خشبة المسرح، ويأتي علولة في هذا المقام ليقول «لم يعد على الممثل أن يوهم بأنه شخص من الشخوص، ولم يعد عليه أن يسترسل بأهواء وأمزجة الشخصية المؤداة، وأن يتنازل عن شخصية لمصلحتها، بل عليه أن يبني طوال مدة تأديته، وأنه ممثل ويبقى كذلك ،فيقوم بأداء فني، أداء يقدمه كاستمتاع أساسي للجمهور» ألا يمكن أن نفهم من هذه المقولة أن علولة (وأبوه الروحي بريشت) يريد أن يغرب التمثيل باعتباره أداءً إنسانياً، يفرقنا نحن البشر عن سائر الكائنات، فالإنسان هو الوحيد الذي بمقدوره أن يفعل وفي اللحظة نفسها يدرك ما يفعل، ألا يمكن أن نفهم من هذه المقولة أن التغريب باعتباره وفاء ضمنيا للتطهير الأرسطي لأنه ببساطة يمنح المتلقي تطهيراً من إحساسات زائدة، ومن اندماج مبالغ فيه بالمألوف في الشخصية والدور والممثل و الذي كان منطلقه الأول التصميم الأول للنص من خلال المعالجة الدرامية. خاصة الثلاثية، التي بدأت أثناء عملية الكتابة، لأن الرؤية لديه تتبلور من خلال معرفته القوية لنماذج شخصياته المسرحية في حقيقتها الحياتية، فيتخذ علولة منها موقفاَ إيجابياً، يهدف إلى انتقاد المجتمع و حثه على التحرر من كل القيود التي تعيق سيره نحو التحرر والعدالة الاجتماعية، لذا تكون هذه النصوص غالباً مند بداية تأليفها مدركة لهدفها الفكري شكلاً ومضموناً ومّرد ذلك إلى البحث الميداني، الذي يقوم به قبل البدء في هذه الممارسة الإبداعية، من خلال تجواله بين الناس حتى يتمكن من نقل حقائق الواقع بكل تناقضاته. فتراه في المشهد الأول لمسرحية الأجواد يصور الحالة التي آلت إليها الحديقة العمومية نتيجة إهمال مسئوليها، والوضع الذي تعيشه حيواناتها من جوع و إهمال، و في المشهد الثاني يدخلنا من خلال «جلول الفهايمي» إلى خبايا المستشفى حتى نقف على ما يجري بداخله من ظروف تدعو إلى القلق على مستوى الصحة العمومية في الجزائر. وفي المشهد الثالث يجعلنا نتعاطف مع شخصية «عكلي أمزغان» الذي تبرع بهيكله العظمي بعد وفاته إلى المدرسة التي يشتغل بها.

تراث جزائري

المعروف عن علولة أنه نقب في التراث المحلي للمنطقة، باحثاً عن أساليب جديدة تجعله يتعرف على خصوصيات المشاهد الجزائري، محاولة منه تقريب المصطلحات والعبارات المستعملة في نصوص مثل الشعرالشعبي والحكم والأقوال المأثورة التي تنبع من هذا المخزون الثقافي.

لقد أثبت علولة في مسرحية الأجواد تمكنه من تقنية المعالجة الدرامية لنصه ذلك أن انطلاقة هذه التجربة، نابعة من عملية التأليف نفسها، فكان يبحث دوماً عن نص مسرحي بعيد عن البهرجة و الدعاية، تمتزج فيه طرق الكتابة التقليدية بعناصر جديدة في عملية الحكي المسرحي، لذا كان منذ البدء يدرك ما سيفعل بهذا النص داخل إطار الإخراج المسرحي، و يمكن القول أن جل نصوصه المسرحية كتبت للإخراج، و هذا ما ميز معظم كتابات المبدعين الذين يخرجون نصوصهم بأنفسهم.

تعتبر مسرحية الأجواد، من أهم المسرحيات التي أنتجها علولة في بداية الثمانينيات حيث هزت الساحة الفنية الوطنية والعربية من خلال تحكمه البارع في عمليتي التأليف والإخراج، وكان عنصر التقمص لدى ممثليه أهم ما احتوته المسرحية.

إن امتزاج القوال بمفهومه التراثي والممثل بمفهومه الكلاسيكي-الأرسطي- ينتج لنا شخصية مسرحية جديدة البناء، وإن هذا التزاوج يفرض بالضرورة نوعين من الإرسال (التمثيل)، الأول سردي يعتمد على طاقات المشاهد السمعية والتخيلية والثاني، يعتمد على الحوار والإيماءات التي تستدعي بدورها تتبع النص والحركات التي تصدر عن الممثلين أثناء عملية العرض. إنها بذلك تحقق فرجة مسرحية تكمن قوتها في استغلال معظم مناطق الفضاء المسرحي وكذا استجابة الممثلين لشخصياتهم المزدوجة (القول من ناحية و تمثيله من ناحية ثانية)، هذه الفرجة التي تثير اهتمام المشاهد في تتبع سير الفعل والحدث المسرحي وبالضرورة تتبع نمو الشخصيات من بداية المسرحية إلى نهايتها.

إن هذه الخاصية في مسرح علولة الملحمي نجدها في نقيضه أي المسرح الأرسطي، فكان «ستانسلافسكي» يهدف إلى تفاعل الممثل مع المشاهد، لكن بطريقة مختلفة عن بريخت، فهو يرى أن معاناة البطل ما هي إلا المعاناة التي يعيشها المتلقي في حياته الخاصة، ويطلب في الكثير من الأحيان من ممثليه الاستعانة بذاكرتهم العاطفية وتجاربهم الخاصة.

اهتم علولة كثيرا بالأشكال المسرحية الشعبية التي عرفتها المجتمعات العربية عامة، والجزائر خاصة، وكانت «الحلقة» و«القوال» محل اهتمامه بالدرجة الأولى في تجربته، لما تحمل من بذور مسرحية جنينية، وتجلت تلك التأثيرات في صفات شخصياته المسرحية خاصة في مسرحية الأجواد التي يتلاقح من خلالها عنصران يكونان بنيتها الأساسية، شخصية مشكلة وفق النمط الأرسطي بأبعاده المختلفة، وشخصية تغوص بجذورها في أشكال التراث المحلي.

حينما سئل علولة عن كيفية بنائه للشخصية المسرحية قال: «إنني أستخرجها من الحياة اليومية، من واقع كل يوم، بالطبع هناك معالجة فنية وجمالية، أي كل ما يشمل عمل الإبداع المعقد، إن شخوصي تنطلق وتنبثق من الواقع، وهدفهم هو واقع المتفرج».

إن الممثل في مسرح علولة ليس نفسه في المسرح الأرسطي، قد يتقمص شخصية دوره إلى حد ما، لكن دون إيهام، فهناك دائما تلك المسافة التي يلحظها المشاهد بين الدور والشخصية، فنراه يخرج عن نظام الدور نفسه، من خلال حركات أو مفردات، لا تقولها الشخصية في النص، محاولا من خلال التمثيل بطريقة مغرّبة، لدفع المشاهد إلى التأمل والتعمق في الجوهر الداخلي للمسرحية. هذا التغريب أسس له علولة لسانيا، فقد اعتمد على كلمات افتتاحية تجعل المتفرج يتباعد مع ما يعرض أمامه وعلى سبيل المثال كلمة: قال- قالوا يقول او بتحريك شخصيات أخرى تؤدي عن طريق الإيمائية ما تقوله الشخصيات الأخرى فنلحظ في اللحظة نفسها فعلين لمشهد واحد الأول ممثل والثاني متحرك.

تقمص وتغريب

استعان علولة كثيرا بتقنيات المنهج النفسي لـ«ستانسلافسكي» في إدارة ممثليه، معتبرا أنها القاعدة الأساسية في تكوينهم، كما كان يضع دائما في أذهان ممثليه أن مسرحه لا يدفع الممثل إلى تقمص أدواره، لدرجة سقوطه في الإيهام، وامتزجت هذه الرؤى بآراء بريخت، من خلال مؤثر التغريب لتتولد عملية تلاقح بين المنهجين (تقمص وتغريب) من خلال توظيف شخصية القوال التي كثيرا ما تغرب الأحداث بتقمصها، وتنشئ علاقة تتأسس على قدرات العرض في خلق وبناء خيال المشاهد عن طريق الكلمة والحركة والانفعال والعاطفة.

إن المزج بين المنهجين لا يتجلى للمشاهد العادي، إذ على الرغم من أن علولة تأثر بالمنهج الملحمي فإن مسرحه يعتمد كثيراً على أساليب ستانيسلافسكي في إدارة الممثل و تركيب شخصيات أدواره و تمثيلها أساساً. إن هذه المفارقة قد تبدو للبعض نقدا لعملية إدارة الممثل عند مخرجنا، لكن حينما نقوم بقراءة بسيطة لعملية التمثيل في مسرح علولة، نقف على ما ذهبنا إليه، حيث نلمس عن قرب أن الممثل يعيش نوعاً من التناقض على مستوى التمثيل، فهو في الوقت نفسه داخل دائرة الملحمية (نصاً وإخراجاً) ويمثل شخصية دوره عن طريق التقمص، والغريب في ذلك أن هدف الرؤية الإخراجية هو كسر الإيهام.

اشتغل علولة على توظيف التراث في مسرحية الأجواد، فاكتسبت المسرحية قدرة كبيرة على التحاور مع موروثنا الثقافي والفني من خلال توظيفه لعدة عناصر أضفت جمالية خاصة على العرض، في فضاء التشكيل الحركي و فضاء الكتابة في خروجها من حيز القاعة الإيطالية التي أعاقت تطور هذه المسرحية والتي كان علولة يحاول باستمرار توظيف القوال والحلقة لكسر الإيهام من جهة، والعودة إلى الأصول الأولى للاحتفال عند عامة الناس من جهة ثانية.

إن لجوء علولة لبعض الأشكال التراثية القديمة كان بهدف الولوج إلى معرفة تصور جديد لعلاقة العرض مع الجمهور الذي جعلته الظروف الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية لا يتردد على المسرح، فيصرح مخرجنا قائلاً «إذا الشعب البسيط لم يتردد كثيراً على المسرح، فَلِمَ لا يذهب المسرح إليه».

إن إشكالية الفضاء المسرحي جعلت علولة يفكر في إيجاد أساليب جديدة لخطابه المسرحي من خلال توظيفه للحلقة، التي كانت بمنزلة المادة الخام لرؤيته الإخراجية و تشكيله الحركي ووسيلته للخروج عن الفضاء الإيطالي الذي كان بالنسبة إليه مجرد فضاء يفرض بعداً أحادياً أثناء العرض، فالحلقة فضاء يسمح بتعدد الأبعاد« Multiplication des perspectives» ذلك أن العرض يصير من خلال هذا الفضاء متعدد الرؤى يسمح بمسرحة القول.

الموروث الشعبي في مسرح علولة

لقد ساهمت الحلقة -كموروث شعبي - في بلورة تجربة علولة المسرحية من خلال الأجواد، فسمحت بفهم خطورة هذه التجربة -من ناحية تكسير الفضاء التقليدي- وفي إسهامها في توظيف طرق الحكي القديمة، لأن الشعر «الشعبي» كان بمنزلة المصدر المهم والغني في الكتابة المسرحية عند علولة، إنه ذاكرة جماعية تلتقي عندها كل الذوات، ذاكرة موصولة بالماضي والتاريخ والأرض، لكن لم يكن هم علولة كسر هذا الفضاء نفيا للغرب كمفهوم إيديولوجي واثباتا لروحه الشرقية، فعلولة عكس ذلك تماماً، كان يهدف من خلال ذلك إلى إيجاد أساليب جديدة تمنح إبداعه بعداً «أمميا» عالمياً لا شرقياً ولا غربياً وقد ركب علولة واستبدل الكثير من الحكايات وفق ما درسه عن طرق الحكي في الحلقة الشعبية وجعل الستارة الضوئية -حيز الظلام- تفصل بين كل مشهد وآخر، إن علولة لايعيد إنتاج الحكايات القديمة في مسرحية الأجواد بل إنه ينطلق من موقف نقدي يعتمد المساءلة لتحريك جامد التراث واستنطاق صامته في تركيب بسيط لقضايا المجتمع من خلال رؤية نقدية تنبع من وعيه بمشكلاتهم اليومية قصد تحريكها وتوظيفها بتقنية السرد الحكائي.

إن الهدف الاستراتيجي من أي عرض مسرحي هو ترجمة النص إلى وحدة متجانسة مع كل المؤثرات المرئية والصوتية التي تهدف إلى إثارة انفعالات وأفكار المشاهد. والحياة لا تدب في جسم النص المسرحي إلا إذا تجسد على خشبة المسرح من خلال التصميم والموسيقى والرقص والغناء، وأمام الجمهور الذي بدوره يتفاعل داخل المبنى أو الفضاء المسرحي، ولا بد أن نؤكد على أن التشكيل الحركي، هو أحد أهم عناصر الخطاب في مسرح علولة، إذ يعبر عن أفكاره وإيديولوجيته، وعن أبطاله الذين أبدعتها تأملاته العميقة للمجتمع وطرحها فوق منصة المسرح، ليقولوا بصوت مرتفع إننا موجودون، وقد رصد علولة عبر تجربته التي زادت على ثلاثين سنة، تراكمات معرفية في ميدان الكتابة والإخراج والتمثيل وفي استخدام العديد من الطرق والرؤى الإخراجية التي نوعت مسرحه وخلقت فضاءات جميلة تحتوي تشكيلات إبداعية صورت المجتمع الجزائري عن قرب.

إن هذه التجربة المسرحية الفتية التي يزيد عمرها على ثلاثين سنة من العطاء المتواصل كانت في طور التشكّل استناداً إلى قوله «بأن ما توصل إليه من نتائج لايزال في مرحلة الصياغة والتجريب». فلم يشأ لها القدر أن تكتمل، ذلك أن صاحبها كان بطلا لمسرحية أخرى لم يخبره مخرجها أن البطل يموت فيها قبل نهاية الفصل الأخير.

 

 

لخضر منصوري 




احتفالية في قصر ثقافة علولة





بن علولة





استعان بن علولة بتقنيات المنهج النفسي في قيادة مثلية