قضَايا مَنزليّة: هبُوط ضغط الدَّم
طبيب
الأسرة
يهب أحدهم واقفا فجأة
دون مقدمات، ليقفز من سريره دون تروٍ، فإذا به يعاني من دوار مفاجئ، ومن قيء
وغثيان، إنها صورة مألوفة، وشكوى متواترة، لا تعني لدى الطبيب سوى إقفار عابرٍ للمخ
من التروية الدموية وقتاً قصيراً، ليس فيها من خطر عظيم على الأغلب، فهي معاناة
مؤقتة تزول.
مثل هذه المعاناة قد تتكرر مع جندي يقف طويلا بلا حراك، لدواعي ما يسمونه نظام الضبط والربط، فإذا به يخر على الأرض مغشيا عليه. يفيق بعد ذلك بقليل دون مساعدة، وكأن شيئا لم يكن. صورة تحرك المشاعر، وتثير الدهشة والتساؤل، وهي لا تعني سوى هبوط الدم بقوة الجاذبية إلى أسفل الجسم، على حساب أعلاه، ويعللونه بفشل أجهزة ضخ الدم في رفعه إلى منطقة الرأس، مما يؤدي إلى استلقاء الضحية على الأرض، فيأتي حل المشكلة الطارئة تلقائيا وذاتيا.
هذه نماذج متباينة مكررة لما ندعوه هبوط ضغط الدم، لكن الأمر أوسع من هذا وأكثر شمولا.
من غريب الأمر أن بعضهم يذهب إلى التعبير عن معاناته بقوله: "عندي ضغط"، فيذهب فكر السامع إلى أن المعاناة محورها ارتفاع في ضغط الدم. ولا أحد منا يحتمل انخفاض هذا الضغط، مع أن الاحتمالين قائمان، لأن التعبير ناقص لا يشير إلى ارتفاع أو انخفاض.
أن يكون للإنسان ضغط للدم هو أمر طبيعي، لا غرابة فيه، ولا مرض ولا معاناة، إذ المفروض أن يكون لكل حي تجري في عروقه قطرات دم قدر من ضغط لهذا الدم، ومن لا ضغط لديه فهو مخلوق ميت لا حيلة لخلايا بدنه بأن تتنفس، وهذه سنة من سنن الحياة التي فطر الله مخلوقاته عليها.
فما أصل ضغط الدم؟
هناك ثلاث ركائز أساس يرتكز عليها قيام ضغط الدم، وهي التي تحدد مقداره إذا ما كان طبيعيا أو أنه أعلى أو أقل من القدر الطبيعي المفترض. هذه الركائز الثلاث هي:
- القلب - الأوعية الدموية - الدم.
فالقلب في واقعه ليس سوى عضلة متميزة، تقوم بمهمة المضخة، تنقبض وترتخي، لتعمل على ضخ الدم إلى كل أنسجة الجسم، ليحمل لها مقومات التنفس والغذاء، من أوكسجين متحد بالكرات الحمراء، وطعام ذائب في مصل الدم، لهذا كان الاختصاصيون. يعبرون عن ضغط الدم بالضغط الانقباضي والضغط الانبساطي، نسبة إلى انقباض عضلة القلب وانبساطها، ولهذا فإن فشلها في المهمة هذه ينعكس على خلل في ضغط الدم، يعرفونه بهبوط ضغط الدم أو ارتفاعه: ويقدر الضغط عادة بكسرٍ، بسطه يقدرونه طبيعيا بحوالي 120 - 130 مليمترا من الزئبق، بينما يقدرون مقامه من 80 - 90 مليمترا عن الزئبق، فإذا ما هبط هذا المعدل سمي الحال بانخفاض ضغط الدم، وإذا ما ارتفع كان ارتفاع ضغط الدم.
أما دور الأوعية الدموية وبخاصة الشرايين الصغيرة، فجدرانها تحتوي على عضلات متناهية في الصغر، هي إحدى تراكيب جدران الشرايين التي تمارس مهمة استمرارية سريان الدم عبر أنابيب الدم، فإذا ما ارتخت هذه العضيلات هبط ضغط الدم، وماذا ما توترت كان ارتفاع ضغط الدم.
وفي نهاية المطاف يأتي دور الدم المقدر حجمه في الأوقات الطبيعية بما يتراوح بين خمسة لترات إلى ستة، وهو ما يملأ تجاويف القلب وأوعية الدم، فإذا ما قل هذا القدر من الدم، لسبب ما، هبط ضغط الدم، وإذا ما فاض عن هذا القدر فإن ضغطه يرتفع.
ربما كنا نجهل في أكثر الأحيان لماذا يرتفع ضغط الدم، لعجزنا في تحصيل المعلومات الطبية التي وصلت إلى أهل الطبابة حتى يومنا هذا الذي نحن فيه. لكننا في المقابل نعرف كثيراً عن أسباب انخفاض ضغط الدم، وهو أمر لا خطر منه كبير، بينما لا يولون ارتفاع ضغط الدم اهتماما، ولا يثير فيهم قلقا، لدرجة أن يهمل بعضهم علاجه، وهو الأخطر والأشرس في الحالين، وهو ذو العواقب الوخيمة، ولربما كان السبب في هذا السلوك الطائش هو صمت ارتفاع ضغط الدم، وتسلله إلى جسم المريض دون علامات واضحة، وأعراض متميزة تشغل بال المصاب وتستحثه على مراجعة طبيبه.
يطرح أهل القضية أمر ارتفاع ضغط الدم كثيرا، ويتداول الناس أسبابه وعلاجه والوقاية منه، لكن انخفاض ضغط الدم لا يشغل حيزا من هذا الطرح ولا يهتم أحد بأمره.
ولعل السر في هذا هو قناعة الأطباء بضآلة خطر الهبوط بالمقارنة مع فداحة خطر الارتفاع التي تسربت إلى قناعات المرضى وسلوكهم وموقفهم الذي اتخذوه من هبوط ضغط الدم.
إن أسباب هبوط ضغط الدم هذا عديدة، وأغلبها معروف، على نقيض الحال مع ارتفاع ضغط الدم الذي نلقاه في حوالي 90% من الحالات مجهول السبب، فليس غير توتر يعتري عضيلات الأوعية الدموية الصغيرة منها والمتوسطة الحجم، ولا نعرف له سرا، أما أسباب الهبوط الوفيرة فإنه يمكننا أن نعد منها أهمها لا أن نحصيها، وهذه هي:
1) سوء تغذية شديد، وهزال.
2) عبء حراري على الجسم، سبب له الإنهاك أو الضربة الحرارية، لكثرة ما فقد من أملاح وسوائل، مع إفراز عرق سببه ارتفاع شديد في درجة الحرارة، لم تستطع أجهزة التوازن الحراري في الجسم أن تتصدى له وتصمد أمامه.
3) نزيف دم شديد ينقص حجم الدم إلى درجة يفشل معها في ملء تجاويف الجهاز الدوري وقنواته.
4) فقد سوائل الجسم لمرض يعتريه، أو طارئ ينتابه، مما ينعكس على حجم الدم بالنقصان، وهذا أمر يتواتر مع المعاناة من الإسهال أو القيء.
5) في أحوال فقر الدم، وهو تعبير عن نقصان كرات الدم الحمراء عن عددها المقدر بخمسة ملايين كرة في كل مليمتر مكعب من حجم الدم، أو لعجز قد يكون فيها، أو خلل في تراكيبها.
6) مرض اديسون، وهو أحد الأمراض التي تصيب الغدة الصماء فوق الكلوية التي تعرف بالكظر ومهمتها إفراز هرمون "الكورتيزون".
غير أن نقطة تستحق منا الإشارة في قضية انخفاض ضغط الدم، وهي أن المعاناة نسبية، فليس شرطا أن تتساوى درجة المعاناة مع تساوي معدل الضغط، فبعضهم يعاني من أقل انخفاض، بينما لا يعاني الآخرون معه على الرغم من تدني ضغط الدم إلى درجات كبيرة.