المسرح الحر في مصر.. حديث ذو شجون

المسرح الحر في مصر.. حديث ذو شجون

مثله مثل العنقاء يُبعث من الرماد متجدداً دائماً، فقد كتب للمسرح الخلود لأنه يولد ويموت في اللحظة نفسها، ما تراه على خشبة المسرح اليوم، ليس هو ما رأيته بالأمس ولا ما ستراه غداً، بالرغم من أنها الجوقة نفسها، وذات الممثلين، والديكور نفسه، والنص نفسه، وتاريخ المسرح في العالم أجمع من الظواهر المسرحية لدى الحضارات القديمة الفرعونية والبابلية والهندية..إلخ، مروراً بالآباء المؤسسين في المسرح الإغريقي وليس انتهاء بمسرح العلبة الإيطالية المتعارف عليه، ولا مسرح (الأفان جارد) الطليعي والمسرح التجريبي وهذا ليس نهاية المطاف، فما هو تجريبي اليوم، غداً سيصبح كلاسيكياً.

مر المسرح في مصر بمراحل عدة عبر ما يقرب من قرنين من الزمان منذ انتقل من الشام عبر مارون النقاش ويعقوب صنوع وأبو خليل القباني. كان المناخ الفني والثقافي في مصر أفضل وأكثر حيوية، فازدهر مسرح العلبة الإيطالية الذي جاء من الشام لتتوارى جانباً ظواهر مسرحية قديمة مثل خيال الظل والآراجوز على سبيل المثال لا الحصر، وتنحسر أسماء (مخايلين) عظماء مثل ابن دانيال لتظهر جوقات مسرحية جديدة تسير على خطى الروّاد الأوائل مثل فرقة أولاد عكاشة وعبده الحامولي والشيخ سلامة حجازي، ويلمع في الأفق أسماء لمسرحيين وجوقات جديدة مع عزيز عيد وجورج أبيض ونجيب الريحاني وعلي الكسار وفاطمة رشدي وعميد المسرح العربي يوسف بك وهبي وفرقة رمسيس، وخلال استكمال المسيرة المسرحية في مصر، والتي كما نرى بدأت بفرق خاصة وأسماء كبيرة أخذت على عاتقها حمل أمانة المسرح العربي كله، حيث كانت مصر آنذاك هي القاطرة التي تجر وراءها المسرح من المحيط إلى الخليج، والتي حمل المشعل فيها من يد سابقيه الفنان الكبير زكي طليمات الذي كان له دور تأسيسي للمسرح في عدد كبير من الأقطار العربية من المشرق إلى المغرب، سواء من خلال رحلاته المتكررة هنا وهناك بالعروض المسرحية أو بتأسيسه معاهد المسرح في هذه البلدان (الكويت على سبيل المثال).

قاطرة المسرح المصري

اندلعت ثورة 23 يوليو 1952 بكل ما تحمله من متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية ترتب عليها أيضاً دخول المسرح إلى حظيرة الدولة في معظمه لتنحسر الفرق الخاصة والحرة، ويزدهر مسرح الستينيات الذي استمر في لعب الدور القديم نفسه (القاطرة)، لكن هذه المرة كانت الدولة وراءه بما تحمله من توجهات أحياناً، لكن - وللحق - عرف المسرح المصري والعربي آنذاك على خشبته أروع النصوص العالمية لسوفكليس واسخيلوس وأرستو فان وليس انتهاء بشكسبير وموليير، قدمتها أسماء كبيرة مثل المخرجين نبيل الألفي، كمال ياسين، سعد أردش، جلال الشرقاوي، كرم مطاوع، والدكتور أحمد زكي. صاحبها ظهور أسماء كبيرة في عالم التأليف المسرحي منها على سبيل المثال لا الحصر نعمان عاشور، يوسف إدريس، صلاح عبدالصبور، عبدالرحمن الشرقاوي، كما ازدهرت أيضاً حركة الترجمة.

وبانتهاء حقبة الحكم الناصري لم تنته تجربة مسرح الستينيات بما لها وما عليها، وإن كان مجمل التقييم في معظمه لها، استمرت المسيرة بالقصور الذاتي خلال فترة لابأس بها من السبعينيات والثمانينيات، ولمعت أسماء مسرحيين مثل سمير العصفوري ومحمود الألفي وفهمي الخولي ومصطفى الدمرداش، وموسيقيين مثل شعبان أبوالسعد، عبدالعظيم عويضة وعلي سعد وغيرهم، إلا أن عالم التأليف المسرحي لم يشهد أسماء بنفس لمعان الأسماء السابقة بالرغم من محاولات جادة مثل محاولات الصديق عمر نجم رحمه الله.

المسرح التجاري

لم يكن هناك وجود ملموس للفرق الخاصة خلال حقبة الستينيات اللهم إلا تجربة الفنانين المتحدين التي كان وراءها عملياً المنتج والمؤلف سمير خفاجة مدّ الله في عمره، والمرحوم بهجت قمر التي قدمت تجربة كوميدية ممتازة من خلال مسرح فؤاد المهندس وشويكار، واستمرت «الفنانين المتحدين» فيما بعد مع مسرح عادل إمام وزملائه المشاغبين، ثم بدأ ظهور منتجين جدد على الساحة منهم - على سبيل المثال لا الحصر - مصطفى بركة وجلال الشرقاوي وعصام إمام ومحمد صبحي وأبناء الإبياري وغيرهم، لكن مسرح القطاع الخاص الذي اصطلح على تسميته بالمسرح التجاري كان يخاطب شريحة معينة من الجمهور هي الشريحة القادرة على دفع ثمن التذكرة الباهظ من الأثرياء الجدد والعاملين بالخارج والسياح، بينما افتقد جمهور المسرح الحقيقي أي متنفس له سوى ما تبقى من مسرح الدولة الذي لم يبق له من مجد الستينيات إلى منتصف السبعينيات إلا الذكرى، واختزلت الحركة المسرحية لعقد تقريباً في المسرح التجاري ما بين مسرح عادل إمام وسمير غانم مروراً بأسماء أقل شهرة في عالم الكوميديا، ولم يكن الكيف بأفضل حال من الكم، اللهم إلا قليلاً.

المسرح الفقير

مع أواخر السبعينيات، رصدت بعض الإرهاصات لإنشاء فرق حرة لكنها تحمل سمات المسرح الفقير (في التكلفة) ومن خلال إنتاج بسيط قليل التكلفة تخاطب شريحة عريضة توّاقة إلى مسرح متميز، كان في طليعة مَن قاموا بذلك المخرج عبدالرحمن عرنوس - رحمه الله - الذي أسس فرقة شباب البحر وفرقا أخرى بأسماء مختلفة قدمت عروضاً ناجحة في الشوارع والميادين في كل محافظات مصر، لعل أشهرها ما قدّموه في ميدان السيدة زينب - رضي الله عنها - وقهوتي أسترا بالتحرير، وموسى عطية بسوق الإثنين بحي الناصرية، كما تزامن مع ذلك جهود بعض المخرجين الكبار في مسرح الدولة لإنتاج عروض قليلة التكلفة من خلال قطاع الثقافة الجماهيرية، التي كانت ترعي عروضاً لمديريات وقصور وبيوت الثقافة في سائر أنحاء مصر بما في ذلك قرى مصر ونجوعها، لكنها لم تبعد كثيراً عن سيطرة الدولة ورقابتها، اللهم إلا من خلال بعض تحايلات الدراماتورج والمخرج، لكن يبقى للتجربة أنها أفرزت جيلاً واعداً من المبدعين في كل فنون المسرح لعل أهمها التأليف والإخراج كما كانت كل ميزانية هذه العروض أحياناً أقل من ميزانية عرض أو عرضين في قطاعات المسرح الأخرى في الدولة، ولابد من ذكر الجهود الكبيرة التي بذلها المخرجان الكبيران عبدالغفار عودة - رحمه الله - في تجربة المسرح المتجول وغيرها، وكذلك المخرج الكبير عبدالرحمن الشافعي، وكذلك كانت عروض مسرح السامر الذي منذ هدمه في أوائل التسعينيات لم يعد بناءه حتى الآن ربما تمهيداً لبيع موقعه المتميز على النيل في ظل فلسفة اقتصاد السوق. يمكن إجمالاً تقييم تجربة الدولة في هذا السياق أنها أعطت الفرصة لظهور مبدعين هواة حملوا نواة فكرة المسرح الحر وكرّسوا لها، فقد كانوا أشبه بفرق نصف حرة؟!

مهرجان الفرق الحرة

في عام 1990 كانت الحركة المسرحية تمر برغبة عارمة في التخلص من سيطرة الدولة خاصة، وأن الفرق الحرة قد ازداد عددها وأصبحت تشكّل قوة ضاربة بعضها تلقفته المراكز الثقافية الأجنبية واحتضنته في الوقت الذي أوغل في بعض هذه الفرق في فخ التمويل الأجنبي الذي غضت الدولة الطرف عنه بالرغم من كل ما يحوم حوله من شبهات خطيرة، وكان من أهم مصادر التمويل والمنح الدراسية في الخارج (فورد فاونديشن وفولبرايت)، فإن هذا العام شهد أول دورة لمهرجان الفرق الحرة الذي أسس له كل من الناقدة نهاد صليحة والمخرجان أحمد هاني وأشرف زكي بدعم من عدد كبير من رجالات المسرح ومحبّيه، فضلاً عن الهواة، وقد أقيم على المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية.

في عام 1992، عقدت الدورة الثانية لمهرجان الفرق الحرة التي وقف وراءها هذه المرة الناقد مهدي الحسيني، والصديق الدكتور حازم شحاته - رحمه الله - (أحد شهداء محرقة بني سويف)، لكن ظروف توفير المكان والتمويل القليل اللازم حالا دون استئناف وانتظام دورات فرق المسرح الحر إلى أن استضافتها بعد سنوات الدكتورة هدى وصفي في مسرح الهناجر، وتستأنف ذلك حالياً بمسرح روابط بوسط المدينة.

تجربة مركز الهناجر للفنون

اعتبر البعض استضافة مركز الهناجر للفنون لتلك التجارب محاولة من الدولة لاختطاف المهرجان ومعه الفرق الحرة، لكن رعاية المركز كان له أثر كبير في الحركة المسرحية وقدم نجوماً في التمثيل والإخراج مثل خالد صالح وخالد الصاوي وكان للأخير إسهامات مهمة في الإخراج كعرض اللعب في الدماغ، وظهر آخرون في مضمار الإخراج مثل خالد جلال، وكذلك مخرجات كعبير علي وغيرها، فضلاً عن ورش مسرحية مع فنانين كبار من مصر وخارجها مثل نور الشريف وجواد الأسدي وعزالدين قنون، والراحل الكبير قاسم محمد، فكان لهذه الورش دور مهم في تفريخ أجيال واعدة في كل فنون المسرح.

منذ التجربة سالفة الذكر للمخرج عبدالرحمن عرنوس شهدت الحركة المسرحية المصرية محاولات للانعتاق من سيطرة الدولة على المسرح حتى لو كان ذلك من خلال الدولة نفسها كما في تجربة الثقافة الجماهيرية، التي قدمت من خلال قصور وبيوت الثقافة ونوادي المسرح تجارب مهمة تراوح ما بين المسرح الحر ومسرح الدولة، وقدمت من خلالها تجارب مهمة جداً على كل الصعد المسرحية مثل تجربة المخرج أحمد إسماعيل في قرية شبرا بخوم بمحافظة المنوفية وصاحب فكرة مسرح الجرن، وكذلك المخرج أحمد عبدالجليل في مدينة المنصورة، كان في طليعة الفرق الحرة البعيدة عن سيطرة الدولة فرقة الورشة التي أسسها في الثمانينيات المخرج حسن الجريتلي، وقد حذا عدد كبير من المسرحيين الذين بدأوا هواة بعد ذلك حذوه، وألقت الجامعات الخاصة بثقلها المادي والدولي في الساحة، فظهرت أسماء لأشخاص وفرق مثل بيير سيوفي وعفت أبو حسين وكارولين خليل وفرقة القافلة من أبناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بدخول أبناء الجامعات الخاصة الباهظة التكاليف هذا المضمار، ومع تغير السياق العام وحدوث حراك اقتصادي واجتماعي خلق نوعاً من التمايز الطبقي لم يكن أمام أبناء الجامعات الحكومية وهواة المسرح في المحافظات إلا اللجوء مرة أخرى للانضواء تحت حظيرة الدولة من خلال مؤسساتها الثقافية سواء كانت هيئة قصور الثقافة أو صندوق التنمية الثقافية بالرغم من أن الدولة نفسها هي التي خلقت هذا التمايز بارتمائها كلياً في أحضان اقتصاد السوق!

الإسكندرية ودورها المتجدد

دائماً ما تقلب الإسكندرية الموازين، وهي إحدى أعظم عواصم العهد القديم بجامعتها ومكتبتها العريقة في العصر البطلمي مروراً بالفتح العربي ودخول الحملة الفرنسية ثم انكسار عرابي أمام سفن الاحتلال الإنجليزي، إلا أنها لم تستكن وأفرزت آليات مختلفة للدفاع والحفاظ على الهوية والانتصار في النهاية على الغزاة. تعد المدينة الآن من أهم الروافد في الدفاع عن هوية المسرح ومحاولة ترسيخ رافد جديد يدافع عن الحركة المسرحية في مصر يمكن أن نطلق عليه الرافد السكندري.

لقد انطلقت منذ عقود حركة مسرحية واعدة من مسارح الإسكندرية، مسارح قصر ثقافة الأنفوشي وليسيه الحرية وغيرهما، كما ساهم قسم المسرح في جامعة الإسكندرية في إثراء الحركة المسرحية وضخ دماء جديدة إليها، وكما أعطى قصر ثقافة الأنفوشي أسماء كبيرة في الثقافة المصرية مثل الوزير الفنان فاروق حسني ومحمد غنيم والملحن حمدي رءوف ومحمد علي سليمان وعماد عبدالحليم.

كما قدم قسم المسرح أبناء الدكتور أبو الحسن سلام الذي ترأس قسم المسرح في جامعة الإسكندرية وكذلك المركز القومي للمسرح، ومن أهم هذه الأسماء المخرج الدكتور جمال ياقوت والدكتور أيمن الخشاب والدكتور هاني سلام، وقدم أيضاً المسرح السكندري أسماء مهمة في التمثيل والسينوغرافيا والإضاءة والإخراج منهم الممثلة الشهيدة سامية جمال التي قضت في محرقة بني سويف، الموهوبة سارة رشاد وإبراهيم الفرن في الإضاءة، وأسماء واعدة في التأليف مثل عز درويش ومخرجين أثاروا جدلاً واسعاً بعروضهم منها كلام «كلام في سرّي» و«كافتيريا» من إخراج محمد فؤاد. وقد رشّح كاتب هذه السطور العروض للمشاركة في أيام قرطاج المسرحية في الدورتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة ليثير جدلاً واسعاً أسفر عن مشاركتهما في عدد من العروض الدولية بعد ذلك، وقد توّجت الإسكندرية جهودها المسرحية بمحاولات الدكتور محمود أبو دومة المشرف على النشاط المسرحي في مكتبة الإسكندرية الذي استغل إمكاناتها الجبّارة لتأسيس مهرجان دولي بدأ في ترسيخ أقدامه، خاصة وأنه كرّس لبعده المتوسطي ممزوجاً بعبق تاريخ المكتبة القديم، حيث أصبح المهرجان قاب قوسين أو أدنى من احتلال الصدارة في حوض المتوسط مع انحسار بعض المهرجانات الكبرى وهرم البعض الآخر.

لكن يلاحظ أن الرافد السكندري أقرب لحظيرة الدولة منه للمسرح الحر، لكن البعض يرى أن ذلك أفضل من الوقوع في شرك التمويل الأجنبي، وهناك أصوات قليلة أخرى تزعم أن الخيارين أحلاهما مر، وتظل الحركة المسرحية في مصر تراوح بين هذا وذاك، ويظل المسرح في العالم بأسره مهدداً بالسقوط، فهناك التلفزة والسينما والإنترنت تهدد المسرح بالسقوط، لكنه يقيناً قادر على النهوض، ودائماً يبعث من الرماد.

 

 

خالد سليمان 




 





من تجارب مركز الهناجر المسرحية





ما يعد اليوم تجريبيا في المسرح غداً سيصبح كلاسيكيا