الزئبق يرتفع .. ينخفض وليد الرجيب

الزئبق يرتفع .. ينخفض

قصـة قصيرة

يرتفع الزئبق.. يرتفع.. يرتفع.. ثم ينزل ببطء.. ببطء، ثم بسرعـة في نهاية المقياس.. يزيل الحزام الضاغط، والسماعة من أذنيه قائلا:

- ضغطك عال.

الوجوم يطيـل وجهك..

يجلس في مكتبه.. يضع نظارته، ثـم يخربش على الورقة خربشات طبية وهو يردد دون تعاطف:

- لديك ضغـط عال ونسبة سكر مرتفعة في الدم.

تنز من جبهتك حبات عرق.. يستطرد:

- تحتـاج إلى إنقـاص وزنـك.. تقليـل معـدل التدخيـن.. استعمال سكـر اصطناعي لفترة، والابتعاد عن الإجهاد والتوتر. يمد الورقة باتجاهك وجسمه مرتفع قليلا عن الكرسي:

- و.. أرجو أن أراك مرة أخرى بعد شهر.

في البيت:

تلتزم الصمت.. تمتنع عن الأكل.. وتنزوي في كرسي قرب الشباك، ترقب الخارج لساعات، وفي الليل تأوي لفراشك وتظل تحدق في السقف، تشاهد أفكارك لساعات:

- ضـاع الشباب، وبدأ العد التنـازلي.. صدق من قـال إن سن الأربعين هو نقطة العـد التنـازلي في العمر.. وزوجتك التي أعطتك فرصة كافية كي تكون مع نفسك، لم تعد تحتمل:

- وحياة أولادنا والعشرة التي بيننا.. ما بك؟.. ماذا قال لك الطبيب؟

تتنهد، وتشيح بوجهك، وتظل صامتا.. تمسح زوجتك عينيها وأنفها وتقول بصوت مزكوم:

- أحلفك باللـه.. مهما كـان الأمر خطير أن تخبرني..

ولكنك تنقلب مـوليا ظهرك لها، وتظل تسمع نشيجهـا لثـوان، ثم لـدهشتك شخيرها الخفيف بعد ذلك.

في الصباح:

كان الإرهاق واضحا تحت عينيك، فتطلب من زوجتك الاتصال بعملك لإجازتك مرضيا..

تأتي زوجتك مرتدية ملابس الخروج فتنـدهش أنت:

- أنا ذاهبة للعمل، فهل تحتاج إلى شيء.

تصمت منكسرا فتكمل وهي تحمل حقيبتها:

- اتصل بي إن احتجت إلى شيء.

تخرج وتبقى أنت تـراقـب الشـارع على الكرسي المنزوي مستسلما لأفكارك:

- سأترك هذه الحياة وأرحل.. والمؤلم أن الجميع سينساني، فها هم أولادي يذهبون إلى المدرسة ويتركونني وحيدا أعد أيامي الباقيـة.. وهـا هي زوجتي التي قضيت معها خمس عشرة سنة ملؤها المودة والإخلاص، تخرج في أجمل صـورها إلى العمل دون عرفـان.. دون أدنى إحساس بالذنب، وكأنها فرحة لقرب مصيري.

زوجتك في العمل:

إلى المكتب المرتب ترتيبا أنثـويا تجلس وجبهتهـا مستندة على كفيها.. وشعرها يلامس سطح المكتب:

- يـا ربي.. ما بـه؟ لم يكن كـذلك في يوم من الأيـام.. منـذ أن عـاد من الطبيـب، وهو يصفـر ويذوي.. ماذا قال لـه الطبيب؟.. أرجـو ألا يكون به.. والعيـاذ بالله.. ليته يقول لي أي طبيب كان.. يدها تمتد إلى الهاتف وبعد ضغط سبعة أرقام:

- الو.. "ها عمري شلونك الحين"؟ هل تحتاج إلى شيء؟

أنت في البيت:

على الكرسي المنزوي ترقب السيارات المارة ذات السطوح الكئيبة، والأشجار التي تحركهـا ريح صيفية ثقيلة تدفع الغبار في زوبعات صغيرة تحمل بقايا الأوراق من رصيف إلى صيف، وبضعة آسيويين يستظلون في تحت بيوت مخدوميهـم، والسماء كـالحة. تشعل أول سيجارة منذ زرت الطبيب صباح أمس:

- تتصل بي.. تسأل عني.. تـذر الـرماد في عيني.. تـزفر دخـان سيجـارتك بأسى وتستطرد بأفكارك:

-.. ما هي إلا أيام قليلة حتى تمل من تمثيل دور الزوجـة المهتمة، ثم لا ألبـث بعدها أن أفتقـد من يمد لي كوب ماء.. تمتص سيجارتك:

-.. لعلها تنتظر دفني لتتزوج أحد زملائها في العمل..

تحس بضيق، ويزداد منظر الشارع مأساويـة وكآبة:

- الـدفن.. أكره أن أدفن تحت التراب.. أكره الموت.. تضع يدك على صدرك..

يشحب وجهك: تقف تهرس عقب السيجـارة في المنفضة:

- لقد حذرني الطبيب من التدخين.. أحس أن نهايتي تقترب.. تذرع الغرفة بوهن العجوز:

- ماذا أفعل؟.. سأتصـل بزوجتي، لا أريد أن أموت وحيدا.. لا.. فمكان عملها بعيد، لن تستطيع الحضور بسرعة.. تمسح العـرق الذي نز من جبهتك، ويدك الأخرى على صدرك:

- سأذهب !لي الطبيب، وعندما أموت سـوف يخبرونها.

ارتـديت ملابسـك على عجل، وقبل أن تخرج خطرت ببالك فكرة:

- سأكتب وصية سريعة، وأضعهـا على الطـاولة بحيث تراهما زوجتي.

الوصية:

هأنـذا أعيش آخر دقائق عمري الذي قضيت أجمله معك، وصيتي أن تحافظي على نفسك وأن تعيشي بقيـة عمرك على ذكـراي، وأرجـو ألا تلقي بملابسي وأشيائي كي تبقى ذكـرى لك، وأن تحتفظي ببحثي الذي بـدأته منـذ سنوات عن "تناسخ الأرواح" وذلك للأجيال القادمة.

الوداع

ملحوظة: أرجو أن تربي أولادنا على ذكرى والدهم.

في العيادة:

يهرع الطبيب عندما يدخلونك إليه على كرسي متحـرك، يفك أزرار دشـداشتـك بسرعـة، ويضع السماعة على صدرك بينما الممرضة تقيس ضغطك، ثم يحولك فورا لغرفة تخطيط القلب.. وبعـد فترة كـان الطبيب يمسك بورقة التخطيط مقطبا جبينه، ثم يتوجه إليك بالسؤال بينما كنت تئن:

ما الأمر؟ بماذا تحس؟

تخرج كلماتك من بين شفتين جافتين:

- لم أتبع تعليماتك ودخنت سيجارة، ويبدو أنها رفعت الضغط مما أثر على القلب.. ساعدني أرجوك يا دكتور. لا أريد أن أموت.

يرفع الطبيب حـاجبيـه دهشـة، ولكن المعنى يصله تماما فيقول لك حابساً ابتسامته ما أمكن:

- حسنا، لنقس الضغط مرة أخرى، ونحلل عينة من دمك. وما هي إلا دقائق حتى يبادرك الطبيب باسما:

- ما شاء الله.. ما شاء الله.. إن ضغطك أفضل من ضغطي.. كما أن التحليلات الأولية، تبشر أن نسبة السكر في دمك طبيعية جـدا، وحتى نتيجـة تخطيط القلب تبين أن قلبك كقلب الأسـد والحمـد لله.. أنت يا عزيزي في حالة صحيـة رائعة أحسدك عليها شخصيـا، وستعيش حياة مديدة لتذكـر كلامي هذا، ويبدو أن ما أحسست به كان نتيجة قلة الأكل.

في البيت:

تدخل بشكل عاصـف مشرقا مبتسما، فالصيف في الخارج رائع جدا:

- مساء الخير.

تبادر زوجتك الممسكة بوصيتك بذهول:

- أين كنت؟. وما هذه؟

يحمر وجهك خجلا، وتبرر أثناء ارتباكك:

- لا.. لا شيء.. كـانت مجرد محاولة لكتابة قصة.

 

وليد الرجيب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات