بهاء الدين زهير.. شاعر الغزل الرقيق

بهاء الدين زهير.. شاعر الغزل الرقيق

هو أبو الفضل زهير بن محمد بن علي المهلبي، المعروف ببهاء الدين. ينتهي بنسبه إلى المهلب بن أبي صفرة.

وُلد بمكة أو بوادي نخلة، وهو بالقرب من مكة، في خامس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ولما شب توجه إلى مصر واتصل بالسلطان الملك الصالح، نجم الدين أبي الفتح أيوب ابن الملك الكامل. ثم توجه في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل شاعرنا إليها وأقام يخدم الملك ويمدحه.

ولما مات الملك الصالح، انقطع في داره بمصر إلى أن انتشر مرض عظيم لم يصفه ابن خلكان في ترجمته للبهاء، ولعله الطاعون أو الهواء الأصفر، وإنما قال إنه لم يسلم منه أحد، وأصيب البهاء به وأقام أياماً ثم توفي قبيل المغرب يوم الأحد في رابع ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن في الغد، بعد صلاة الظهر، بالقرافة الصغرى في تربة بالقرب من الإمام الشافعي في جهتها القبلية.

وللبهاء زهير ديوان شعر حققه ونشره المستشرق البريطاني إدوارد هنري بلمر E.H.Palmer (1840-1882) في كمبريدج سنة 1876 كما نقله إلى الإنجليزية نظمًا. ثم نشرته دار صادر - دار بيروت سنة 1964 على حروف المعجم وهو الذي نعتمده. أكثره في الغزل وأقله في المدح والرثاء والهجاء والوصف، وشعره رقيق لطيف وهو يتعمّد الصناعة والبديع، ويستخدم أنواع البديع: الجناس، والتورية، والتهكم، خصوصاً الاكتفاء كمثل قوله:

وما ضاعَ شعري فيكُمُ حين قلتُهُ
بلى وأبيكم ضاع فهوَ يضوغُ

ضاع الثانية: بمعنى انتشرت رائحته.

أحبّ البديع الحسن معنّى وصورةً
وشعري في ذاك البديع بَديعُ

ويقول:

غيري يخون حبيبهُ
وأنا الأمينُ ولا أمينُ

ولا أمين: أي لا أكذب.

وقوله:

سلوا دَمعَ عيني عن أحاديث لوعتي
لتُعرب عن تلك الشئون شئوني
يا مُلبسي ثوبَ الضّنا
يَهنيك ثوبُ العافيهْ

يقول في رثاء ابنه:

فيا من غابَ عني وهو روحي
وكيف أطيقُ عن روحي انفكاكا
تموتُ ولا أموتُ عليكَ حزنًا
وحقُ هواكَ خنتكَ في هواكا
أرى الباكينَ فيكَ معي كثيرًا
وليس كمن بكى من قد تباكى

وكان شغوفًا بالطبيعة فوصف البساتين والرياض والأشجار والأثمار والخضرة.

هذا هو شعر البهاء زهير وهو من الشعر الخفيف الأوزان، الرقيق اللطيف الوقع في القلوب والأذان، السهل الألفاظ، جعلت ابن خلكان ينعته بالسهل الممتنع.

ومن جميل شعره قوله: غيري على السلوان قادر:

غيري على السلوان قادرْ
وسِوايَ في العُشّاق غادِرْ
لي في الغرام سريرةٌ
واللهُ أعلمُ بالسرايرْ
ومُشبّهٌ بالغُصن قلـ
بي لايزالُ عليه طائرْ
حُلوُ الحديثِ وإنها
لحلاوةٌ شقّتْ مرائرْ
أشكو وأشكُرُ فِعلهُ
فاعجَبْ لشاكٍ منهُ شاكِرْ
لا تُنكروا خفَقانَ قلـ
بي والحبيبُ لديّ حاضِرْ
ما القلبُ إلا دارَهُ
ضُربَتْ لهُ فيها البشائِرْ
يا تاركي في حبّه
مَثلا من الأمثال سائِرْ
أبدًا حديثي ليس بالـ
ـمَنْسُوخ إلا في الدفاتِرْ
يا ليلُ ما لك آخرٌ
يُرجى ولا للشوق آخرْ
يا ليلُ طَلْ يا شوقُ دُم
إنّي على الحالين صابر
لي فيكَ أجرُ مُجَاهدٍ
إن صحّ أن الليل كافِرْ
طرْفي وَطرفُ النجم فيـ
كَ كِلاهُما ساهٍ وساهِرْ
يَهنيكَ بَدرُكَ حاضِرٌ
يا ليتَ بَدري كان حاضِرْ
حتى يَبينَ لناظري
مَنْ منهما زاهٍ وزاهِرْ
بَدري ارّقَّ مُحاسِنًا
والفرْقُ مثلُ الصبح ظاهرْ

يقول في الغزل: تعيش وتبقى:

تعيشُ أنتَ وتبقى
أنا الذي مُتُّ حقا
حاشاكَ يا نورَ عَني
تلقى الذي أنا القى
قد كان ما كان مني
واللهُ خَيرٌ وأبْقى
ولم أجدْ بين موتي
وبين هجرك فرقا
يا أنعم الناس بالاً
إلى متى فيكَ أشقى
سَمعْتُ عَنكَ حَديثا
ياربّ لا كان صِدقا
حاشاكَ تنقُض عهدي
وَعُرْوتي فيكَ وُثقى
وما عَهدتُكَ إلا
من أكرمَ الناس خُلقا
يا ألفَ مَوْلايَ مَهْلا
يا ألف موْلايَ رفقا
لك الحياةُ فإني
أموتُ لاشكّ عشقا
لم يَبقَ مني إلا
بَقيّةٌ ليس تبقى

ومن غزله الرقيق: سلامي على من لا أسمّيه:

اقرأ سلامي على مَن لا أسمّيه
ومَن بروحي منَ الأسواءِ أفديهِ
ومَنْ أُعرضُ عَنهُ حينَ أذكُرُهُ
فإن ذكَرْتُ سواهُ كنتُ أعنيهِ
أشرِ بذكْريَ في ضِمن الحَديثِ له
إن الإشارةَ في مَعنايَ تكفيِهِ
وأسألهُ إن كانَ يُرضيه ضَنى جسدي
فحبّذا كل شيء كانَ يرضيهِ
فليت عين حبيبي في البُعادِ تَرى
حالي وما بي من ضُر أقاسيهِ
هل كنتُ من قوم موسى في محبّته
حتى أطالَ عذابي منهُ بالتيه
أحببتُ كل سميّ في الأنام لهُ
وكلّ مَن فيه معنى من مَعانيهِ
يغيبُ عني وأفكاري تُمثلُهُ
حتى يُخيّل لي أني أناجيهِ
لا ضَيمَ يَخشاه قلبي والحبيبُ بِهِ
فإنّ ساكِن ذاك البيتِ يَحميهِ
من مثل قلبي أو من مثل ساكنه
الله يَحفظُ قلبي والذي فيهِ
يا أحسنَ الناس يا مَن لا أبوح به
يا من تجنّى وما أحلى تجنّيهِ
قد أتعس الله عينًا صرتَ توحشها
وأسعد الله قلباً صرتَ تأويهِ
مولاي أصبح وَجدي فيكَ مُشتهرًا
فكيف أستُرُهُ أم كيف أُخفيهِ
وصارَ ذِكريَ للواشي بهِ وَلعٌ
لقد تكلّفَ أمرًا ليس يَعنيهِ
فمَن أذاعَ حديثاً كنتُ أكتُمُهُ
حتى وَجدتُ نسيمَ الرّوْض يرويهِ
فيا رَسولي تَضرّعْ في السؤالِ لهُ
عَساكَ تَعطِفُهُ نَحوي وتَثنيهِ
إذا سألتُ فسَلْ مَن فيهِ مكرُمَةٌ
لا تَطلُبِ الماءَ إلا مِن مَجاريهِ

هذا هو الشاعر البهاء زهير الذي عاش في عصر دعوه عصر «الانحطاط» صاحب هذا الغزل الرقيق الذي يكاد يكون شعراً عصرياً ينضحُ عذوبة وبراعة قول، بلغة شعرية سهلة وسلسة تدخل القلوب دون استئذان, وتنم عن ذوق رفيع ومبسم مميّز، والذي اجتمع في شعره حسن السياق وحسن الرواء وحسن الصياغة.

---------------------------

أفاطِمَ! ما أنْسَى نُعاسٌ وَلا سُرًى
عَقابِيلَ، يَلْقَانَا مِرَاراً غَرَامُهَا
لِعَيْنَيكِ وَالثّغْرِ الّذي خِلْتُ أنّهُ
تَحَدّرَ مِنْ غَرَّاءَ بِيضٍ غَمامُهَا
وَذَكّرَنِيهَا أنْ سَمِعْتُ حَمَامَةً
بكَتْ فبكى فوْقَ الغُصُونِ حَمامُهَا
نَئومٌ عنِ الفَحشاءِ لا تَنطِقُ الخَنا،
قليلٌ، سَوى تَخبيلِها القَوْمَ، ذامُهَا
أفاطِمَ! ما يُدرِيكِ ما في جَوَانحي
مِنَ الوَجْدِ وَالعَينِ الكَثِيرِ سِجَامُهَا
فَلَوْ بِعْتِني نَفْسِي التي قَدْ ترَكْتِها
تَساقَطُ تَترَى، لافْتَداها سَوَامُهَا
لأعطَيتُ مِنها ما احتكَمتِ وَمِثْلَهُ،
وَلوْ كان ملءَ الأرْضِ يُحدى احتكامُها
فَهَلْ لكِ في نَفْسِي فتَقْتَحمي بهَا
عِقاباً، تَدَلّى للحَيَاةِ اقْتِحَامُهَا
لَقَدْ ضَرَبَتْ، لَوْ أنّهُ كان مُبْقِياً،
حَيَاةً على أشْلاءِ قَلْبي سِهَامُهَا
قَدِ اقتَسَمَتْ عَيْنَاكِ يَوْمَ لَقِيتِنَا
حُشاشَةَ نَفسٍ ما يَحِلُّ اقِتسامُهَا
فكَيْفَ بِمَنْ عَيناهُ في مُقْلَتَيِهِمَا
شِفَاءٌ لنَفْسٍ، فيهما، وَسَقَامُهَا

الفرزدق

 

 

ميشال خليل جحا