رسول حمزاتوف وقصائده الأخيرة

رسول حمزاتوف وقصائده الأخيرة

عندما التقيت بالشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف في الكويت مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أخبرني أنه في طريقه لأداء مناسك العمرة في السعودية، ولم أستغرب ذلك، فالزمن كان زمن التغيير في روسيا، وما كان يسمى بـ«الاتحاد السوفييتي»، كان يتداعى أو هو قد تداعى بالفعل.

لذلك كان من حق هذا الشاعر ذي الجذور الإسلامية والمنتمي إلى بلد من بلدان القوقاز، أن يبحث عن خلاصه، أو عن ذاته، وهو يشاهد سفينة الشيوعية في ساعاتها الأخيرة قبل أن يبتلعها اليمّ. ثم إن هذا الشاعر كان على الدوام، وحتى عندما كان عضواً في مجلس السوفييت الأعلى واضحاً في قوميته الداغستانية وفخوراً أيّما فخر بها.

وقد أفصح الشاعر عن ذلك في كتابه الخالد «داغستان بلدي»، الذي يعتبر من شوامخ الأدب العالمي في القرن العشرين. والواقع أن مَن يقرأ هذا الكتاب لا يُخطئ توجهات رسول هذه. فالكتاب عبارة عن نشيد حب لداغستان وتاريخها وتراثها وجبالها وينابيعها ولهجاتها وتنوّعها الإثنى وأبطالها العظام الذين وقفوا بوجه الغزاة الروس في القرن التاسع عشر، وفي طليعتهم الإمام شامل. وفي هذا الكتاب يسخر رسول حمزاتوف من الجمود العقائدي، وفي محاولة البعض تغيير جلدهم والظهور بسحنة مختلفة لا لشيء إلا لإرضاء الشيوعيين المسيطرين على السلطة في موسكو. ولاشك أن الشاعر كان شجاعاً وهو يكتب ما كتب، ويواجه مَن وما تعذّر على الكثيرين مواجهته في تلك الفترة الصعبة. ويبدو أن الشيوعيين - ورسول في الظاهر واحد منهم - قد تسامحوا مع هذا المثقف المسلم القادم من داغستان، أو من بلاد القوقاز، مادام يتعاون معهم، ولا يحمل أثراً من إشعاعات «عليّيف» المثقف الذي دعا في مرحلة مبكرة إلى بناء الاشتراكية في أفق قومي أو وطني. وبذلك أمكنه قيام تعايش سلمي مع قادة الكرملين، ولكن دون أن يتخلى عن «نزعته القومية» الظاهرة بوضوح في أدبه، وبخاصة في «داغستان بلدي».

أخيراً صدرت في دمشق ترجمة عربية للقصائد الأخيرة التي كتبها رسول حمزاتوف في سنواته الأخيرة. تشيع الكآبة والحزن والانكسار في قيثارة الشاعر، فلا توقّع هذه القيثارة سوى أنغام متقطعة وكأنه لم يتبقّ في أوتارها إلا بعض الذماء قبل أن تصمت إلى الأبد. وأفكار الشاعر بسيطة مباشرة خالية من أي تعقيد، وكأن كل ما يهمّ صاحبها هو أن تحمل هذه الأفكار وصيته إلى قارئه، أو إلى شعبه.

عرف رسول حمزاتوف الاتحاد السوفييتي في أوج ازدهاره، كما شهد انهياره، وربما من وحي ذلك كتب في «قصائده الأخيرة» هذه، وتحت عنوان «ما الذي بقي أخيرا»، قصيدة تتضمن نظرة حزينة إلى التاريخ شبيهة بنظرة سليمان في سفر الجامعة عندما يقول: «باطل الأباطيل كلّ شيء باطل»، يقول رسول وكأنه يلخص دورة التاريخ الإنساني كله: «كم من الخلفاء قد سقطوا، كم من الإمبراطوريات توارت، وتغيّرت سلالات، كل الأشياء مئات المرات تغيّرت، ما الذي بقي أخيراً إلا «الحبس و«الإيمان»؟ هل بقي أخيراً إلا «فاطمة»؟

فاطمة هو اسم زوجته، والاسم يتردد مراراً في هذه القصيدة، وفي سواها من «القصائد الأخيرة»: «كم جنكيزخان، كم تيمورلنك، وكم بونابرت، اختفوا جميعاً كالرمل المنهار، ذراهم الزمن تباعاً. ما الذي بقي أخيراً إلا الأغنية والحنان؟ هل بقي أخيراً إلا فاطمة؟

ومع فاطمة، التي تذكّرنا بإلسا أراغونا، بقي الإيمان عامراً في صدر حمزاتوف بالرغم من الخطايا الكثيرة التي يفترض أن الشاعر قد اقترفها في شبابه، على الخصوص، والتي يعترف بها أمام خالقه: «أصلّي! أيها العليّ شقّ صدري لتتصهر روحي من سيئاتها. لقد صدرت مني في الماضي عبارات لا تؤاخذني عليها». ويعترف في هذه القصيدة بأن أحداً من الناس لم يَرَه في المساجد، وأنه عاش في أماكن تحمل عيوباً شتى، لكنه يطلب من الله أن يغفر ذنوبه.

ويتحسّر لأنه لا يُتقن مثل والده حمزة، «لغة القرآن الإلهي»، أي اللغة العربية التي كان والده كتب الشعر بها.

وفي قصيدة «معنى القرآن العظيم»، يهتف رسول: «أي شاعر أنا إذا لم تبتهج روحي بمعنى القرآن العظيم!». ويضيف: «أيها الشعراء الأوائل، أنحني أمامكم أنا الهباء التافه، لقد عرفتم الحكمة والوصايا، لقّنكم إياها من الأعالي الله!».

ويهيب بنوح أن يعود: «أيا نوح! عُدْ خشية أن يدهمنا الطوفان، عليك بناء فلك جديدة لإنقاذ البصيرة الإنسانية الغارقة في الأمواج العكرة المسعورة. ما الذي ينقذ الأرض؟ مَن يعيد الطريق إلى الله لنرفع إلى الله العظيم الضمير والشرف اللذين دُفنا تحت الأرض؟».

وتتردّد في هذه القصائد أسماء «شامل» الإمام الداغستاني الذي يجلّه رسول إجلالاً عظيماً، و«حمزة» والده الذي كان يكتب الشعر باللغة العربية، وأسماء أمكنة كثيرة في داغستان.

على أن صورة رسول حمزاتوف، وبخاصة صورة البيئة التي طلع منها، والبيت الذي ربّاه، لا تتضح إن لم يعد المرء إلى كتابه «داغستان بلدي». في هذا الكتاب يجد القارئ أن داغستان، قبل استيلاء الشيوعيين الروس عليها عشية ثورة أكتوبر، كانت وثيقة الصلة بالبلاد العربية وباللغة العربية على حدّ سواء.

يقول رسول: كانت اللغة العربية منتشرة في داغستان على وجه العموم. بعضهم كان يكتب بالعربية لأنه لم تكن لداغستان أبجديتها. وبعضهم يكتب لها لأنها كانت تبدو له أغنى وأبهى من اللغات الداغستانية. وكانت تكتب بالعربية كل الأوراق والوثائق الرسمية، وكل الكتابات على شواهد القبور كانت بحروف عربية مزخرفة، وكان والدي يجيد قراءة هذه الكتابات وتفسيرها.

ويضيف: ثم أتت سنوات أُعلنت فيها اللغة العربية من الرواسب البورجوازية. فعانى الناس الذين كانوا يقرأون ويكتبون بالعربية، وعانت الكتب، فقدت مكتبات كاملة كان قد جمعها بجهد عظيم المنوّران الداغستانيان علي بك غودي وجلال كوركماسوف. وجلال هذا درس في السوربون، وكان يعرف اثنتي عشرة لغة، وكان صديقاً لأناتول فرانس. كان يجمع الكتب العربية القديمة الموجودة في القرى الجبلية، ويدفع ثمنها سلاحاً وخيلاً وأبقاراً، وفيما بعد حفنة دقيق أو قطعة قماش. وفُقد الكثير من المخطوطات، فياللخسارة الفادحة التي لا تعوّض!

ويقول رسول إن حمزة، والده، قرأ باللغة العربية تشيخوف وتولستوي ورومان رولان. وبهذه اللغة كان يراسل أصدقاءه في البلاد العربية.

هذه هي البيئة الوطنية، أو العربية، إن جاز التعبير، التي نشأ في مناخها رسول حمزاتوف، والتي أثرّت أيما تأثير في القيم التي ستحكمه بعد ذلك. فحتى خلال الليل المدلهم الذي ساد روسيا وداغستان، زمن الستالينية، وما هو في حكمها، لم يُخْفِ رسول امتعاضَه في ظواهر الضعف الذي خضع له الكثير من مواطنيه الداغستانيين. فهو يروي - على سبيل المثال - حكاية الداغستاني محمد الذي استبدل اسمه باسم ميخائيل لا لشيء إلا لإرضاء الشيوعيين الروس.

يقول رسول: كان ميخائيل غريغوريفتش حسنوف يعمل سائساً في لجنة منطقة خونزاخ الحزبية. والحقيقة أن اسمه لم يكن ميخائيل بل محمد. عاش في مكان ما أثناء الحرب الأهلية، ثم عاد إلى مسقط رأسه «مميشا» وليس «محمداً».

استبدل اسمه الداغستاني بآخر. قال لميشا الجديد هذا والده الشيخ:

- ثكلتك أمك! مع أني أنا الذي أعطيتك اسم محمد، فهذا الاسم أصبح ملكاً لك، الآن تستطيع أن تتصرف به كما تشاء. لكن مَن سمح لك أن تمسّني؟ من سمح لك أن تستبدل «غريجوري» بـحسن»، أنا أبوك؟ ومازلتُ على قيد الحياة، وأريد أن أبقى «حسن»؟

ويضيف رسول: كانت معارفه قليلة وضحلة، لكنه بالمقابل، كان يعتبر نفسه عقائدياً جداً، وكان يتحدث عن هذا في كل مكان حتى أن كثيرين صاروا يحسبونه أشدّ المدافعين عن الشيوعية حماسة.

كتب رسول حمزاتوف هذا الكلام، زمن سطوة الشيوعية وطغيان التطرف الأيديولوجي. لم يكن - بالطبع - معادياً للاشتراكية، فقد كان (ومن قبله والده) يمثل داغستان في مجلس السوفييت الأعلى. فهو - إذاً - من المتعاونين مع السلطة، بل هو فرد من أفرادها.

ولكنه ظل على الدوام ممثلاً لقيم داغستان وتراثها وتاريخها ووطنيتها، واستمراراً لخط قومي - أي طابع إسلامي بلاشك - كان نموذجه الأعلى عند الداغستانيين هو الأمام شامل الذي يروي رسول حكايات عنه تجعله أقرب إلى الأسطورة منه إلى أي شخص آخر.

يقول رسول: مازالت تعيش حتى الآن رواية متوارثة تقول إن الأعداء أحاطوا بشامل في أيام شبابه، وبمعلمه القاضي على محمد في فج غمرا، وفي قلعة حربية. قفز شامل من عَلٍ على حراب الأعداء وشق بخنجره درباً له. خمسة عشر جرحاً جُرح آنذاك، لكنه هرب مع ذلك والتجأ إلى الجبال. اعتقد الجبليون أنه هلك. وحين ظهر في القرية سألته أمّه التي كانت قد ارتدت ثياب الحداد عليه في دهشة وسرور:

- شامل! بنيّ كيف بقيت حياً؟

وأجابها شامل:

- صادفتُ نبعاً في الجبال.

وحين سمع أهالي الجبال أن إمامهم، شاملاً العجوز سقط من على ظهر ناقته في صحراء الجزيرة العربية ومات، قالوا وهم جلوس على عتبات بيوتهم في قراهم:

- لم يكن بالقرب منه نبع داغستاني!

هذا هو رسول حمزاتوف الذي حجّ إلى الأماكن المقدّسة في السعودية في سنواته الأخيرة، مؤكداً انتماءه إلى «القرآن الإلهي»، وإلى الأمام شامل الذي حارب جيوش القياصرة الروس، وإلى تاريخ داغستان وتراثها وهويتها الخاصة وجبالها وينابيعها التي تشفي من كل علّة. ولا ننسى «فاطمة» التي لايبقى سواها في خاتمة المطاف وبعد زوال كل الإمبراطوريات!.

------------------------------

أبَى الحُزْنُ أن أنسَى مَصَائبَ أوْجعتْ
صَمِيمَ فُؤادٍ كَانَ غَيرَ مَهينِ
وَمَا أنَا إلاّ مِثْلُ قَوْم تَتَابَعُوا
على قَدَرٍ مِنْ حَادِثَاتِ مَنُونِ
ولَوْ كانَتِ الأحداثُ يَدفَعُها امرُؤٌ
بَعِزٍّ، لمَا نَالَتْ يَدِي وَعَرِيني

الفرزدق

 

 

جهاد فاضل





 





الكاتب والشاعر في الكويت