دمشق.. خفايا متجليّة.. فواز حداد

دمشق.. خفايا متجليّة.. فواز حداد

«إذا كان إحساس الكاتب بالمكان قوياً، فلن يبخل عليه بتفاصيله الحميمة. للمكان تاريخ كما للمدن روح، روح يربطنا بها الوفاء لا العشق الأعمى».

هذا ما كتبته يوماً عن دمشق في شهادة لي بمعرض الإشارة إلى بعض أهم العناصر المكوّنة في رواياتي، وإذا كانت شهادتي لم تخل من عاطفية ونظر مثالي، فلأن للحنين والهوى نصيباً كبيراً في علاقتنا بالمدن، وهو ما يصنع الهالة التي تحيط بالمكان الذي ألفناه حتى لم يعد يسترعي أنظارنا، لكن عندما نتأمل ما نحمله منه في داخلنا، نجده جزءاً لا يتجزأ من عوالمنا الجوانية، لا يفتر عن تشكيل سمات حياتنا، بموضعة ذكرياتنا بين ثناياه، ولا يكفّ عن إثارة مشاعرنا، وربما كان فقدانه أحد أسباب شقائنا.

أحببت الكثير من المدن العربية والغربية، كان أميَزها القاهرة، تحت تأثير نجيب محفوظ وجمال عبدالناصر، وأحببت لندن بسبب ديكنز وشرلوك هولمز وأجاتا كريستي، أما باريس، فالأسباب كثيرة، بلزاك وزولا وتوفيق الحكيم وطه حسين وعبدالسلام العجيلي وكاظم الداغستاني، حتى أنني عندما زرت هذه المدن، أحسست أنني لا أتعرف عليها بقدر ما أتذكر معالم لا أجهلها، شارع سليمان باشا، خان الخليلي، الحسين، زقاق المدق، أكسفورد، هايد بارك، بيكر ستريت، شارع سان ميشيل، الحي اللاتيني، مونمارتر، ولو أنني صادفت كمال عبدالجواد، أو هركيول بوارو، وربما جرفيز أو الأب غوريو، لما استغربت. كانت العوائق بين الواقع والخيال ملتبسة أحياناً، ولم يكن لدي موانع جديّة لكي أوقف هذه التجاوزات، كانت دليلي في الرواية، تلك التي أعيش في داخلها وكأنها الحياة ذاتها.

وليس اعتباطاً رغبتي في الكتابة عن مدن حقيقية، وعدم اختراعي مدنا خيالية، أو التلطي وراء أسماء وهمية، مهما كان العائد الروائي مجزياً، هذا ما أعرفه بحكم التجربة، فالرواية التي تختلق أو تبني مكانها التخييلي الخاص، توفر حرية أكبر، وحركة أوسع، كذلك مجالاً للتكثيف، يتبدى في إقصاء المكان الواقعي، بغية الإفلات منه، أو تحقيق واقعية أعلى، تأخذ من عدة مدن، فلا تركز على ملامح مدينة محددة.

دمشق.. بوابتي المشرعة على العالم

غير أن الخيال نفسه، على الضد من المتوقع، استدعي دمشق الواقعية، التي باتت في ذمة التاريخ، أو التي مازالت بعض تقاطيعها القديمة صامدة على الأرض. ومهما كانت صورتها أو ما تبقى منها، فلا مبالغة في أنها الأكثر تأثيراً في وجداني، ليس لأنها أسهمت بتشكيل حياتي وذاكرتي فقط، وإنما من خلال ما منحته لي بسخاء ودونما عناء، وكانت بوابتي المشرّعة على العالم كله.

كنت بمجرد خروجي من حارتي «البحصة البرانية» وهي إحدى امتدادات أحياء سوق ساروجة، يواجهني شارع فؤاد الأول وسكة الترام، فيصبح العالم بمتناولي، إلى اليسار مقهى البرازيل، يقبع إلى جوار مدخله بائع الجرائد والمجلات، وعلى امتداده جامع الطاووسية والمكتبة العمومية، ومحلات تتالى، أحدها لبيع التحف الشرقية. على الرصيف المقابل، مقهى الهافانا وسينما الأهرام والنادي العربي، تليها دخلة المتنبي، على رصيفها مكتبة دار اليقظة العربية، وسينما الكندي، ولئلا تأخذني التداعيات، واستطرد أكثر، تتركز الرئة الثقافية والفنية والشوارع والأسواق الحيوية لمدينة دمشق ضمن مساحة لا تزيد على 1كم مربع إلا قليلاً. ففي الاتجاه نفسه، ينبسط شارع الفردوس وعين الكرش والصالحية وأبو رمانة، ثم إلى اليسار، جسر فكتوريا ونهر بردى، وإلى الأعلى قليلاً، محطة الحجاز، وإلى اليمين الجامعة السورية، بينما شارع النصر من الطرف الآخر المؤدي إلى أسواق الحميدية والحريقة، المسكية والبزورية. أما خلفي حيث أقف، فأزقة البحصة الجوانية، ساحة المرجة وزقاق الأحمدية والقرماني وجامع يلبغا ومقهى الخديوية وسوق الهال والعتيق. وما تضمه هذه البقعة من مسارح سرعان ماتظهر وسرعان ما تختفي، ودور سينما تعرض الأفلام المصرية من فيلم «سلامة» مع مناظر الحج إلى أفلام ليلى مراد وأنور وجدي، وعبدالحليم حافظ، بالإضافة إلى الأفلام الأمريكية والفرنسية والهندية، سواء كانت من إخراج هيتشكوك أو تمثيل روك هدسون ودوريس داي، من المغامرات البوليسية الشائقة، والغراميات الملتهبة، أو الميلودرامات الحزينة، ومكتبات تعرض على واجهاتها ما يردها من كتب عربية وإنجليزية وفرنسية من بيروت والقاهرة ولندن وباريس.

وكي لا نستهين بهذه البقعة الصغيرة، أو بمدى تأثيرها، مثلت المنطقة التاريخ الأهم للاحتجاجات والمظاهرات، سواء الآتية من مكتب عنبر أو القادمة من الجامعة والتجهيز الأولى والمتوجهة نحو البرلمان أو السرايا، وقبل زمن مضى إلى المندوبية الفرنسية. كما لا يمكن الاطلاع على ما يجري في كواليس المشهد السياسي السوري إلا في مقهى البرازيل، حيث يجتمع السياسيون والوزراء المخضرمون، والصحافيون المعروفون، والضباط المسرحون من الجيش، مع موظفين كبار وأدباء وشعراء ظرفاء لا ينجو أحد من ألسنتهم، يتناقشون ويتهامسون، ويفبركون الأخبار والشائعات ويطلقون الأهجيات والنمائم والنكات، ولا يكلون عن توقع الانقلابات، ينعكس المشهد ذاته على نحو مقارب في الهافانا الذي يرتاده شباب من أحزاب مختلفة، الحزب الوطني، حزب الشعب، الاشتراكي التعاوني، البعث العربي، والعربي الاشتراكي، والشيوعي.. إلخ، ينتقدون الحكومة وإجراءاتها الأخيرة، ويتصدون للقضايا السياسية الساخنة، ولا تخلو مناقشاتهم من جدل حول التاريخ واللغة والقومية العربية والرسالة الخالدة، والتصدي للأحلاف الغربية.

الانقلابات أيضاً، وجدت مجالها الحيوي، ونقاط تمركزها الاستراتيجية، بين هذه المعالم، دبابة تقف في مدخل البرلمان، وأخرى عند بنك سورية ولبنان، وثالثة أو أكثر عند قصر الضيافة، وكتيبة مشاة تتخندق وراء أكياس الرمل عند مبنى الأركان القديم في الصالحية، أو الحديث في نهاية شارع شكري القوتلي، ولا ننسى القوة الضاربة سواء عند مبنى الإذاعة القديم في شارع النصر، أو في ساحة الأمويين عند مبنى التلفزيون الجديد.

مكتبات ومقاه

ومثلما سحرتني واجهات المكتبات التي تعرض الروايات بأغلفتها الملونة، المترجمة والموضوعة من تأليف شتاينبك وتولستوي ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ومكسيم جوركي وجان بول سارتر، كنت أقف أمام واجهات المقاهي متوجساً من الدخان والوجوه المكفهرة والجدالات الحادة، كنت في سن صغيرة، لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري، لا أتجرأ على دخول المقاهي.

معظم هذه المشاهد، لم أكن على احتكاك عميق بها، كانت في مراحلها الأخيرة، التقطها خلال مروري اليومي العابر، بحكم وجودها على مقربة من بيتي، وفي طريقي إلى المدرسة، لكن فيما بعد، شكّلت جزءاً لا يستهان به من عالمي الروائي، ودفعتني للكتابة عنها وعن عالم أقدم، يفصلني عنه ما يزيد على ثمانية عقود، استعدت ملامحه من التاريخ والصور والمخططات ومراجع مطبوعة ومخطوطة، والروايات الشفاهية، ومن فرط افتتاني وشغفي به، لجأت كي أسد ثغراته إلى الحلم والخيال، مستعيناً بالحسّ والحدس والذكريات! ولم أعدم مادة غزيرة ليست بالحسبان. نظن أننا بلا ذكريات، لكن يكفي توفر المحرّض، لكي ننطلق إلى حيث لا ندري، في مجاهيل مدينة، المفاجآت فيها أكثر من أن تحصى، وكان الحاضر محرّضاً ممتازاً، لاسيما وأن الماضي القريب مازال فاعلاً فيه.

من موقعي القريب تعاملت مع دمشق، لم أعطها أسماء تنكّرية، ولم تتوار في رواياتي وراء أخرى، بل ظهرت كما هي، كتبت عنها كمكان محدد، وما طرأ عليها من متغيرات وما أصابها من محن. تابعتها في روايتي «موزاييك»، خلال القرن الماضي من الحرب الأولى إلى العشرينيات، بدايات الانتداب الفرنسي، حتى عام 39 عشية الحرب العالمية الثانية، ثم ما بعد الاستقلال، سجلت مسيرتها في روايتي «تياترو» على إيقاع الانقلاب السوري الأول عام 49، المفصل الرئيسي من تاريخ سورية الحديث. فالخمسينيات، وتجدد الحراك الانقلابي والديمقراطي، وما تلاه من عواصف طالت عقد الستينيات، ختمتها في روايتي «صورة الروائي» باستذكار فترتي الوحدة والانفصال، إلى ثورات السبعينيات وانقلاباتها وتقلباتها في الوطن العربي. ما اضطرني لرسم خريطة للمدينة لكل فترة زمنية، ومن الطبيعي أن تختلف الواحدة عن الأخرى سواء بمعالمها وملامحها وأسماء شوارعها، أو ببعض تفاصيلها الصغيرة، وأحياناً الكبيرة.

أسبغ على دمشق الكثير من المديح الزائد مما أساء إليها وأسهم في تزييف أدوارها، وإذا كان هناك مَن رآها منغلقة على نفسها، فالتأويلات الفخمة والنعوت الباهرة أقصتها حتى عن سكانها، عندما أحالتها إلى مدينة ليست نفسها، بينما كان ينبغي عدم الانسياق وراء هذا الميل، وتجاوزه نحو ما هو أعقد، وربما أسهل مما نظن، يتطلب البساطة، الحقيقة وظلالها، وألا ندع صورتها لأوهامنا وأهوائنا، الأهواء مثل الأوهام تمييع للمشاعر وللرؤية.

رواية المدينة

ما الذي يحفّزنا على كتابة رواية تُعنى بمدينة، أو بأحيائها من زمن مضى؟ أليس السرد الروائي، أقدر على تلمّسها واكتشاف الحيّز المفترض أن تحتله في النفوس والواقع دون مبالغات سقيمة؟ إذا كان المديح لا يُعلي شأن المدن، فالنقد لايضيرها مهما كان جارحاً وقاسياً أو مؤلماً وفظاً، مادامت هي قادرة على أن تكون متفرّدة.

من هذا الموقع بالذات، كتبت عن مدن أخرى: بيروت في الحرب العالمية الأولى، القاهرة في العشرينيات والثلاثينيات، القدس تحت الانتداب الإنجليزي، باريس الأربعينيات، بغداد الحالية تحت الاحتلال الأمريكي، وحاولت إعادة تركيبها سواء من منظور القرن الماضي، أو من منظار الحاضر، وبما يقارب الأصل، وهذا ما جعلني أعيد رؤية دمشق من خلال المدن الأخرى، بالمقارنة معها، وبالتمايز عنها بصورة أوضح وأكثر جلاء، ومنحني تصوراً لها بدا الأشد تعبيراً عنها، بحيث شكّلت ملامحها طوال القرن الماضي، فكانت المسرح الكبير لعروض متواصلة لا تنتهي حتى تبدأ من جديد.

مسرح يؤمه القادمون من أنحاء سورية، كي يلعبوا أدوارهم الطموحة على خشباتها، حالمين بقيادتها نحو المستقبل بالقوة سواء بالمؤامرات أو الانقلابات، كانت سياسة حرق المراحل هي المعتمدة، وأيضاً مسرح يؤمه الباحثون عن الصفقات المخزية والمناصب المؤثرة والوساطات المشبوهة، مدينة مفتوحة للمغامرات الطائشة، والتجارات المشروعة وغير المشروعة. وهناك من يأتي إليها كي يلعب أدواراً عظيمة الشأن، ثقافية وإنسانية واجتماعية، فمثلما استقبلت دمشق الانقلابيين والانتهازيين والنهابين، استقبلت رموز الحركات القومية والعلمية والثقافية، مثل: زكي الأرسوزي، وبدوي الجبل، وعبدالسلام العجيلي، والصافي النجفي، وصدقي إسماعيل، وحنا مينه وغيرهم. لم يأتوا بمنطق الغزاة، جاءوا كي يقدموا للمدينة أفضل ما لديهم، دافعوا عنها وشاركوها مصائرها، وصنعوا أمجادها الحقيقية.

لا يمكن الكتابة عن العقود الماضية وما جرى فيها من متغيرات، دون أن تخطف دمشق الحديث الرئيسي على المستويين السوري، وإلى حد ما العربي. ففي حين مثلت المسرح الصاخب للصراع بين العسكر والأحزاب، مثلت أيضاً الصراع بين القديم والجديد، البرجوازية والاشتراكية، وتحرر المرأة، والمخاض الديمقراطي، والنهوض القومي، وشعلة اليسار وانكسار الأحلام.

رواية الأدوار الكبيرة، تحتاج إلى فضاءات واسعة، رواية لا تدور على مستوى البلد والمنطقة فحسب، بل وقد تلامس العالم، هذا المسرح الدمشقي المصغر، تحكم بمشهدي الروائي الطليق، ومنه استمد أبعاده وإيقاعه.

شهدت دمشق أسوة بالمدن الكبرى الكثير من مآثر الصعود ومآسي الانحدار، وقد اعتلى الكثيرون القمة، مثلما تداعى الكثيرون إلى السجون والمعتقلات، وكان الهدف واحدًا، السلطة، وكأنه دونها لا نهضة، أو عبور إلى العصر الحديث ولا امتلاك للحداثة، في المدن والأطراف والمناطق البعيدة لا تبلغ هذه الأدوار أهدافها، إن لم تأخذ مجراها في دمشق المسرح الحي لمفاتيح السيطرة والتسلط وأحلام التغيير والارتقاء والجشع والنفوذ والاستئثار، وأيضاً رفع رايات التديّن والمثالية والأخلاق والدفاع عن المبادئ، لذلك يقال لا رواية خارج المدينة، إذ الرواية تبحث عن مكان يتسع لتلك الصراعات المستميتة التي تجري على أرضية من التشابكات المعقدة، وإن كانت لا تعنيها أحياناً، مجرد تصفية حسابات بين أطراف يحسمها وجودهم في العاصمة، وعليها تتحدد أقدارهم، وأحياناً أقدارها، فتدفع هي الثمن أيضاً.

لا تمنح دمشق خصوصياتها بسهولة، لايقتنصها العابر ولا حتى المقيم، لا تُبرز سوى مظهرها المخادع، الفاتر غالباً، الهادئ والمراوغ، المعسول والمبذول للجميع، لذلك تبدو دمشق للكثيرين مدينة محيرة، ففي نظر البعض متحفظة ومذعورة، كما قال عنها عابرون أو وافدون إليها. وهذا ليس وليد العقود السابقة، بل ما سبقها من قرون، ابتليت فيها بالغزوات والفاتحين الدمويين القساة. وتبدو للبعض الآخر منفتحة وودودة، لاتبخل عليهم بأسرارها. ومع هذا، أتقنت دمشق إخفاءها، وربضت وراء أسوار من التمويه، يبدو في أسلوب عمارتها وحاراتها.

خصوصية دمشقية

للمكان الدمشقي خصوصيته، فللحارة باب ضخم يوصد بالترباس والأقفال، ينفتح على أزقة وزواريب ودخلات ضيقة ومتداخلة، وللبيت الدمشقي تقاطيعه: الباب الذي لا يوحي بما خلفه، الدهليز المعتم، المؤدي إلى باحة الدار والليوان، جنة الأزهار والورود وأحواض العرائش والأشجار المثمرة. القسم التحتاني من البيت، القاعة والصاليا، المطبخ، ثم الدرج المؤدي إلى الفوقاني، غرف النوم، الفرنكة، ومن ثم السطح. عدا ما يحتويه من دخلجات مثل: الداكونة، بيت المونة، الليوك، الخص.. في كل زاوية ذكرى أو ذكريات، تختزن ما لا يبتذل ولا يباح به.

كل هذا يتيح للمشهدية الروائية الكثير من الخفايا، وللخيال أن يبحر فيها وينبشها، دون أن يقف الزمن عقبة. ويبقى المكان الدليل الأقدر في رحلة السرد، يقودنا ويسهم في رسم التفاصيل وتأطير الأحداث. ولا يغيب تأثير المكان عن أحلامنا بالرغم من هلامية الأحداث وزئبقيتها، حتى وهي تبسط تشويشها على حدث عسير ضبطه، وليس من الغرابة أنه مهما كانت الأحلام غير واضحة، تستعير أمكنتها من الواقع.

يتحرك الكاتب فوق رقع مكانية تشكّل جغرافية عمله الروائي. وإذا كان قد اختار المدينة، فالعلاقة بينهما تبادلية، مثلما كانت بين الإنسان والطبيعة، وبقدر ما يتحسس الكاتب صميمية المكان وتضاريسه، بقدر ما يمنح سنداً واقعياً لروايته. لكن يختلف التأثر به من كاتب لآخر، منهم من يكتفي بالمعالم الكبرى، وآخرون لا يهملون التفاصيل الصغيرة من محلات وأرصفة ولافتات.. إلخ.

جميعهم يجهدون في استدراج المدينة من الماضي إلى الحاضر، يجري الفنان وراء الجمالي، كما يخضع لأصول الحرفة ودقة الصنعة. على هذا النمط، يجري إعادة تشكيل المكان وترميمه، فالمعماري يشيد كاتدرائية ويصمم بيوت المستقبل، والسينمائي يبني في الأستوديو قصوراً قديمة ومحطات فضائية، والمؤرخ يرسم طرق مواصلات برية وبحرية ومواقع حربية، والروائي يخترق الأزقة والحارات والشوارع وناطحات السحاب ليعبر منها إلى الداخل البشري. يختلف كل عن الآخر فيما يذهب إليه، فالتزمت لدى المعماري والمؤرخ، لا يوازيه تشدد بالمقابل لدى الروائي والسينمائي، لمتطلبات ليست شخصية أو فنية، وإنما لرؤية إنسانية وأخلاقية.

لا تعني المدينة بالنسبة للروائي الديكور، ولا الخلفية المرافقة للحدث الروائي، إنها جزء من الذاكرة، لهذا عندما نرى المكان ينهار أمامنا، والأرض تستلب منا، وسيادة الدول على أراضيها تتزعزع، يرتد المكان ليكتسب أهمية ضارية، ثمة شيء نفقده، ليس مجرد تراب وتربة ومعالم فقط، إنها الحياة نفسها، حياتنا التي نفتقدها في داخلها، بل وندرك أن وجودنا وتاريخنا أصبحا مهددين بالفناء.

المكان وتبدّلاته، عدا عن دلالته على حركة التاريخ وتجلياته عبر الزمن، يضفي علاماته المتميزة، وتنويعاته المختلفة على الأرض، ويساعد بطريقة تموضعه في البناء الروائي، على نفض الغبار عن تلك الأشكال المثيرة للمدينة، المتزمتة منها والمحافظة والمهمّشة، سواء في روعتها أو بحثها وبؤسها. يقول روائي متميز، تُفرج عنه أو تختزله وتكثفه بشاعرية، أو بفظاظة توحي بأحاسيس شتى، من الانطلاق والحلم إلى القسوة والإحباط، كذلك الإحساس بالاختناق والدافع إلى التغيير، أو الحنين إلى زمن ذهبي مضى إلى غير رجعة، مشاعر متناقضة يشق حصرها.

لم تكن دمشق مكاني الرئيسي التخييلي، وأحدى مكونات عملي الروائي، إلا لأنها كانت مكاني الشخصي والواقعي، لم تخل منها رواية لي. منحتني أكثر مما طمحت إليه، ليس المعرفة والدهشة فقط، بل والأمان أيضاً، وهذا ليس بالقليل، ولم أبخل عليها بالحقيقة كما تصوّرتها.

 

 

فواز حداد 




فواز حداد في قلب سوق ساروجة بدمشق





تتركز الرئة الثقافية لدمشق في كيلومتر مربع قريبا من امتدادات أحياء سوق ساروجة





لاتعني المدينة للراوي الديكور ولا الخلفية، بل ذاكرة تحولات المكان وتبدلاته





دمشق لا تمنح خصوصيتها بسهولة إذ تربض خلف أسوار من التمويه





التزمت لدى المعماري يقابله تشدد الروائي لرؤية إنسانية