«حقل المكيدة» عرض نقدي لكتاب «طرق التضليل السياسي»

«حقل المكيدة» عرض نقدي لكتاب «طرق التضليل السياسي»

السياسة هي «مجموعة ألاعيب»، وحقل السياسة هو «المقر الرسمي للشيطان»، وهو «حقل المكيدة». هكذا يفتتح الدكتور كلود يونان كتابه الشائق ببعض تعريفات السياسة التي تربطها على نحو مباشر بممارسة التضليل، تلك الممارسة التي يحاول أن يعرّي أساليبها، ويظهر خفاياها، ويقوّض دعائمها، والكتاب الذي صدر منذ شهور عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع في لبنان بعنوان «طرق التضليل السياسي» سيكون موضوع هذا العرض النقدي.

يلخص المؤلف غاية كتابه في أمرين: الأول معرفي، هو محاولة الإحاطة بالأبعاد الفلسفية والعلمية لطرق التضليل السياسي، والثاني عملي هو مساعدة المضلّلين في تعرية طرق التضليل التي يتعرضون لها، وفي تطوير آليات دفاع ضد التضليل الذي يصفه بأنه «سلاح فتّاك يقتل العقول والنفوس والمعنويات قبل الأجساد». كما يجعل من أهدافه مساعدة مَن يتعرضون للتضليل على تفكيك طرقه وآلياته ومناهجه، ودحض قواعده، بل و«مساعدتهم على استعمال بعض هذه الطرق، كآليات دفاعية للحفاظ على الكرامة والحياة، لأن حق الدفاع عن النفس هو حق مقدس تقرّه الشرائع كافة».

لإنجاز هاتين الغايتين يقوم المؤلف بعمليات معرفية عدة، أولها عمليتا التعريف والتأريخ، فقد أشار المؤلف على عجالة إلى قدم ممارسات التضليل السياسي وضرب مثلاً ببعض تقنيات التضليل التي ظهرت في العصر اليوناني، ولاتزال مستخدمة حتى الوقت الراهن، وربما كان قدم هذه الممارسة وراء ما لاحظه المؤلف من أن مصطلح التضليل يولد إشكالية مفاهيمية لكونه محمّلاً بظلال معان متعددة، ولكونه مستخدماً بشكل أساسي في الذخيرة الخطابية الدينية. هذا الوعي بإشكالية المصطلح كان وراء محاولة تعريفه من خلال التمييز بينه وبين مصطلحات أخرى قريبة الدلالة. فقد أكّد المؤلف أنه لا يستخدم مفهوم التضليل بمعناه الديني من حيث هو شرود عن الصراط المستقيم المرسوم في الدين، كما ألحّ على أن اختلاف وجهات النظر لا تدخل ضمن التضليل، ثم حاول الربط بين مصطلح التضليل (Misguide)، أو (Mislead)، ومصطلح التلاعب (Manipulation)، وأخيراً قام المؤلف بتعريف التضليل انطلاقاً من وظائفه وآلياته، مشيراً إلى أن التضليل يستهدف المكونات العقلية للإنسان بنفس قدر استهدافه لمكوناته النفسية، منطلقاً من ذلك إلى التركيز على علاقة التضليل بالسياسة.

يرى المؤلف أن التضليل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة، وأنه «يشكّل أهم منهجياتها الصراعية»، ويرى أن نشأة التضليل السياسي تتزامن مع نشأة السياسة نفسها، فمنذ وجدت سياسة وجد تضليل سياسي، كما أن التضليل يتغلغل في كل العناصر المكوّنة للسياسة، سواء بوصفها ممارسة محلية أو دولية، سلمية أو عسكرية، حكومية أو مدنية. ويستدعي ذلك أن العلاقة بين الأخلاق والسياسة لم تكن مثالية في معظم الأنشطة السياسية القديمة والحديثة، إذ غالباً ما انتُهكت الأخلاق لحساب المصالح، وغالباً ما كانت الطرق المتنوعة للتضليل أداة أساسية لهذا الانتهاك.

طرق التضليل السياسي: من التملق إلى الشعوذة

كرّس المؤلف معظم كتابه للحديث عن طرق التضليل السياسي التي يحصرها في إحدى وعشرين طريقة. بعض هذه الطرق أفاض في شرح تجليّاته وضرب الأمثلة له، وبيان أقسامه وتأثيراته على نحو ما فعل مع تقنية الديماجوجية السياسية التي تصبح تضليلية عندما يتحول رجل السياسة إلى «مداهن للشعب»، وتتحول ممارسته إلى «مدالسة للشعب وتضليل له». ويفرد المؤلف صفحات طوالاً لاستعراض تجليات هذه المدالسة مثل التملق السياسي، والتسويف السياسي، والتكيفية السياسية المستندة إلى سمات مثل غباء الجماهير ولاعقلانيتها. كما يفرد المؤلف مساحة لتقنية التأويلية التضليلية، التي يعني بها لي أعناق الحقائق بواسطة التأويل المفرط لتبرير ما لا يمكن تبريره، وتمرير ما لا يمكن قبوله، كذلك اهتم باستخدامات المنطق أداة للتضليل متوقفاً عند التضليل باستخدام قانون الذاتية، والاستقراء الناقص، وقانون التمثيل، ومنهج الافتراض المنطقي، ومنهج التركيب، والمغالطة السياسية.

إضافة إلى ذلك يرصد المؤلف أمثلة للتضليل بواسطة الخلط والالتباس المتعمّد والغش وإثارة الغموض، والتضليل بواسطة المناورات السياسية مثل التظاهر بالانسحاب، والاشتباك السياسي المصطنع، وتمثيل الهجوم. كما يتوقف طويلاً أمام تقنية المشاغلة السياسية بأنواعها مثل التلهية الاجتذابية، والمشاغلة التفريقية، والمشاغلة النفسية، والتلهية بافتعال المشكلات والمشاغلة التحويلية، كما يفحص تقنيات الخداع السياسي وتقنيات الكذب وأنواعه، مثل الكذب الهجومي ونموذج الافتراء، والكذب الدفاعي، والكذب الوسائلي، والكذب الاستدراجي، والكذب الاستفزازي، والكذب الموحى به، والكذب الوقائي. وينظر لتقنية الرياء السياسي بوصفها تقنية تضليل، ويتناول العناصر الثلاثة التي تكوّنها وهي الاستعراضية الشكلية، والازدواجية المخادعة والخبث، وينتقل إلى تقنية التمويه السياسي، متوقفاً أمام نماذج تطبيقية لها مثل ارتداء الشرعية قناعاً للعنف، والعدالة تمويهاً للممارسات السلطوية القسرية. كما يتعرض على نحو موجز لتقنيات التشويه والتعمية التضليلية والمداورة السياسية، والاستعارات المضللة، والتضليل بالتغيير والتبديل، والمصانعة والمداراة، والمجاراة السياسية، والمماحكة السياسية، والتشكيك السياسي، والتدليس السياسي، واستخدام أدوات الشعوذة.

التضليل المعيش: نماذج لبنانية وعربية ودولية

هذا الثراء التنظيري لتقنيات التضليل السياسي، يتم تقريبه للقارئ العادي من خلال عدد كبير من الأمثلة القديمة والمعاصرة، التي تنتمي إلى بيئات جغرافية متنوعة، وإذا كان المؤلف قد ركّز على السياق اللبناني والعربي المعاصر بدرجة أكبر، فإن هذا مما يمنح كتابه قيمة إضافية لأن تفنيد التضليل المعيش يكتسب ميزة أخلاقية إضافة إلى قيمته المعرفية.

على الرغم من ذلك، فإن الأمثلة لم تكن كافية في كثير من الحالات، وغير دقيقة في حالات أخرى (مثل دلالة مصطلح الديمقراطية على انتهاك قانون الذاتية)، وربما كان سعي المؤلف لتأسيس بناء نظري متماسك للتضليل - وهو عمل فذ في حد ذاته - وراء هذا الاقتصاد في ضرب الأمثلة التوضيحية.

لكن هذا البناء النظري على أهميته وريادته - أو ربما بسبب ذلك - يعاني بعض المشكلات، أهمها عدم الإفادة من التطورات النظرية بالغة الأهمية التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين فيما يخص دراسات التضليل والتلاعب السياسي. فالببليوجرافيا الأجنبية شبه الفقيرة للكتاب تكشف عن غياب معظم الكتابات المؤسسة لدراسة التضليل السياسي في الوقت الراهن، وقد حرم ذلك المؤلف من الإفادة من بعض أبرز مقاربات التضليل السياسي مثل منهجية التحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis، والمقاربة المعرفية Cognitive Approach، اللتين استفادت منهما عشرات البحوث المعنية بالتضليل في العقد الأول من القرن العشرين.

يعكس حصر المؤلف لتقنيات التضليل السياسي جهداً هائلاً في التصنيف والتحليل، كما يكشف عن إفادة ثرية من المنجز الفلسفي الهائل حول السياسة نظرية وممارسة. ولا يقلل من الفائدة القصوى لهذا الحصر ملاحظات من قبيل غياب التمايز الفعلي بين بعض التقنيات مثل المداورة السياسية، والمصانعة والمداراة والمجاراة السياسية، والتي ربما كان من الممكن إدراجها معاً ضمن تقنية واحدة.

ألاعيب «حقل المكيدة»

ربما لا يكون من المبالغ فيه القول إن قراءة كتاب «طرق التضليل» تعد ضرورة لكل مَن يرغب في التعرّف على ألاعيب «حقل المكيدة» ولكل مَن يحملون على عاتقهم مهمة تحرير البشر من «ألاعيب حقل الشيطان»، لكن ثمة تخوّفاً دائماً من الاستخدام غير النبيل لمثل هذه الدراسات «النبيلة» التي تحاول الكشف عن أساليب تضليل الجماهير. فغالباً ما يكون الهدف الذي يكمن وراء إنجازها هدفاً نبيلاً يتمثل في تعرية ممارسات التضليل، وتنمية وعي القارئ العادي بمخاطره وكيفية مواجهته، ومن ثم تعديل استجاباته للغة السياسة على ضوء هذا الوعي، لكن ما يحدث عادة هو أن خبراء التضليل والمعنيين بإنشاء لغة السياسة، والمستشارين السياسيين يرون فيها كنزاً من الإرشادات والنصائح التي تتيح لهم وعياً نظرياً بطرق التضليل، وتمكّنهم من تطوير استخدامهم لهذه الطرق، ومن ثمّ تطوير طرق التضليل ذاتها. ومع ذلك فإن هذا التخوّف يجب ألا يكون حائلاً أمام الاستمرار في نقد الخطابات السياسية التي تمارس تضليلاً أو هيمنة أو خداعاً، خاصة حين يقترن التضليل بالقهر كما هو الحال في عصور الاحتلال الخارجي أو الديكتاتورية الداخلية. لكن يجب أن تجد مثل هذه الكتابات طريقها للجمهور الذي يخضع للتضليل أو الهيمنة، أو الخداع، وأن تكون غايتها هي تحرير الشعوب من تأثير هذه الخطابات، لا إمداد رجال السياسة بمزيد من تقنيات التضليل.

----------------------------

سَلَوْتُ عَنِ الدّهرِ الذي كان مُعجِباً،
وَمثلُ الذي قد كان من دَهرِنا يُسْلي
وَأيْقَنْتُ أنّي لا مَحَالَةَ مَيّتٌ،
فَمُتّبِعٌ آثَارَ مَنْ قَدْ خَلا قَبْلي
وَإنّي الذِي لا بُدّ أنْ سَيُصِيبُهُ
حِمَامُ المَنايا مِنْ وَفَاةٍ وَمن قَتْلِ
فَما أنَا بالباقي، ولا الدّهرُ، فَاعلَمي
بِرَاضٍ بما قَدْ كانَ أذهبَ من عقلي
وَلا مُنصِفي يَوْماً، فأُدْرِكَ عِنْدَهُ
مَظالَمهُ عِندِي، وَلا تارِكاً أكْلي
وَأينَ أخِلاَئي الّذِينَ عَهدْتُهُمْ،
وَكُلُّهُمُ قَد كان في غِبطَةٍ مِثْلي
دَعَتهُمْ مَقادِيرٌ، فأصْبَحتُ بَعدهمْ
بَقِيّةَ دَهْرٍ لَيسَ يُسبَقُ بالذَّحلِ

الفرزدق

 

 

تأليف: د. كلوديونان