الذاهبة إلى سانتافي كيم سيونغ هي

الذاهبة إلى سانتافي

ترجمة: محمد آدم عثمان

كانت صحيفة الصباح "ايفلين اليومية" قابعة في الممر المؤدي إلى ردهة المنزل. عـادة ما يبدأ صباحي هكذا بالتقاط الصحيفـة من الممر. رمقتها بنظرة سريعة وأنا أغلق الباب. تتوسط الصفحة الأمامية صورة كبيرة لمجموعة من الراقصين وهم يتقافزون عاليا في الهواء. فوق الصورة تعليق يقول "إنهم يحلقون. في دروس الباليه يتم تدريب الراقصين على أصول الرشاقة الكاملة. الاثنين. بعد الظهـر. قاعة هاليسي. خبير الباليـه فرانسوا مارتين. " كـان ذلك مثل تصفيق الأجنحة. يقول بعضهم إنه ليس في مقدورك التحليق بلا أجنحة، ويقول آخرون إن الطيران عمل مروع، ولكن عندما شاهدت أشخاصا يحلقون هكـذا، بلا أجنحـة، شعرت وكأن سلما يـرتقي بي إلى السماء أنا وصغيري المبتهج هذا الصباح.

إن مجرد وجود صورة فنية جميلة مثل هذه تتوسط صدر الصفحـة الأولى في الصحيفة هو تجسيد حي لنوعية المجتمع الفني المسالم في مدينة ايفلين. في البداية كنت مندهشا من ذلك السلام الذي يسود هذه المدينة الجامعية الصغيرة ويضفي عليها طابعا مميزا ومختلفا عن صورة أمريكـا. كيف تأتي لها أن تتميـز بمثل هذا السلام. لقد أصابني هذا السلام المفرط بصدمة. ومنذ أصابني بتلك الصـدمة، تبين لي أنني أنتمي إلى جيل لم يعرف السلام أبدا، حيث عشت منذ طفولتي وراء المنطقة المنزوعة السلاح. ربـما لهذا السبب بدا لي السلام وكأنه صدمـة غريبة وأمر غير مألـوف لدي. ربما كانت هناك منطقـة منزوعة السلاح محفورة في أعماق اللا وعي لدينا هي التي تسبب تصرفـاتنا المنـدفعـة، وتغـذي شعـورنا بالذنب نحو السعادة، وتعـوق أفكارنا من التحليق بأجنحة الخيال. من يعرف؟ ألا يدعي البعض بأن اللا وعي هو الذي يشكل أقـدارنا؟ لكن اليوم تبدو الصورة رمادية مرة أخرى خارج نافذتي. نظرت في الخارج نحو النهر. كيف لي أن أصف هذا الإحساس بالثقل الذي يعـزيني كلما نظرت نحو النهر.

"عندما حملت بي والدتي، توقفت الرياح في طريقها أمام نافذتنا في انتظار قدوم المولودة الجديدة للرياح.. كـان الأمر مخيفا.. وكـانت الليلـة الأولى من الشهر مظلمة ومخيفة... يا بنيتي.. ربما ستستطيعين المشي على الدرب خلال هـذه الليلة المظلمـة.. هذه الليلة الأولى من القمر الجديد.. " وبينما أنا أنظر من خلال نافذتي، كان النهر الرمادي المتشرب بلون الطين يتدفق مغربلا أمواجه. كـان يخيل لي أنني أسمع أصواتا خافتة مثل غناء حامل التابوت أو مثل موال توارثته الأجيال في بقاع قصية ومنعزلة مثل "جونغسون" و "كوانغون دو". من أين يجيء هذا الغناء. هل ينساب من السماء أم يتردد من أعماق نهر ايفلين الذي يجري تحت نافذتي.

هكذا تستمر الأغنية مرة أخرى. وحتى أنسى أمي، أمي التي هي المصدر غير المرئي الآن لجميع أحجيات جونغسون، ومصـدر كل معاناتي، كنت أقوم بإسدال الستار. سمجونغ هي تلك الفتاة التي غرقت في أعماق النهر ليعاد ميلادها من جديد. لقد حـاولت الفكرة الكونفوشية أن تصور فيها حقيقة الجاذبية الكـبرى وكأنه كان مقصودا إخراجي من أحلام يقظتي هذه وإعادتي لدنيا الواقع، ورن جرس الهاتف. كان صبـاحي وقتها قد انتصف إلى ظهيرة. كانت أريكـا على الخط بصوتها الذكي الواضح النبرات. ولأنها كـانت من الهنـد فهي تتحدث الإنجليزية بشكل جيد. ولأنها كانت قادرة على التعبير عن ذكائها وعن أفكارها الواضحة باللغة الإنجليزية، فقد كان في استطاعتها إشاعة الثقة في كل ما حولها. كانت متزوجة من رجل من نيجيريا وبالتالي تعتبر مواطنة إفريقية، إلا أنها في النهايـة امرأة هندية تشغل منصب بروفسير وتحمل درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. "كيم، لماذا تهربين من غرفتك؟ أرجو أن تحزمي أمرك بسرعة. بسببك أنت لم نستطع حتى الآن إكمال الترتيبات مع موتشوم. ربما لا تكـونين على علم بذلك، ولكن فـترة ما بين أعياد الشكر وأعياد الميلاد هي أكثر فترات العام ازدحاما بالنسبة للطيران. نحن الآن في منتصف نوفمبر وعلينا أن نحزم أمرنا حالا أرجو أن أعرف موقفك بالضبط غداً. "

حقيقة أنني شخص متردد. لقد ظللت يوما بعد يوم وأنا أفكر. هل أذهب إلى "سانتافي" أم أتوجه مباشرة إلى موطني. لقد ظللنا لمدة ثلاثة أشهر نشارك في مؤتمر فنون دوللي في مدينة ايفلين الأمريكية الصغيرة، وقد آن الآن أوان العودة إلى بلادنا. لقد قررت بعض النسوة من الشاعرات والفنانات عدم الرجوع إلى أوطانهم مباشرة، واتفقن على قضاء أسبوع في سانتافي، قبل أن تتوجه كل منهن إلى وجهتها بعد ذلك. لما كنا جميعنا تقريبا من بلدان العالم الثالث، ونساء في منتصف العمر، فقد اتفقنا على أن مثل هذه المرحلة تمثل فرصة ربما لن تتكرر مرة أخرى. ربما كان ذلك بسبب معرفتنا بأن رجوعنا إلى بلادنا يعني عودة كل واحدة منا إلى عالمها الخاص، كامرأة عاملة، وزوجة وأم تقيدها ارتباطات اجتماعية متعددة. إن العودة إلى الأوطان تعني لنا العودة إلى نقطة البداية، كمخلوقات ثانوية، تؤدي أدوارا ثانوية، ولا تملك إلا أن تطيع وتتبع قوانين الجاذبية هناك.

بضعة أيـام في سانتافي.. البحـث عن مصادر وأصول ومكـونات الألوان في فـترة ما قبل التاريخ الغموض المكسيكي.. اكتشاف الألوان الأولية الثلاثة قبل عصر التشويه.. كنا مجموعة: أريكا بروفسيرة من نيجيريا، السيدة محمد كاتبة من مصر، مونيكا الروائية من أمريكا اللاتينية التي تزوجت نفس الرجل مرتين وطلقته مرتين وتعيش الآن لوحدها في عالمها الروائي نمبى الراقصة الطليعية الكينية، بافي نجمة أفلام فيديو من فنلندا، وصديقتي تانتيلا الشاعرة الرومانية المرموقة وأقربهن إلى نفسي. لقد قمنا جميعا من خلال نقاش وأخذ ورد باختيار سانتافي. لا أحد يعرف لماذا ولا يوجد سبب على وجه التحديد.

نوفمبر شهر رمادي. لما كـان شهر نوفمبر في سيئول هو أيضا شهرا رماديا تزدحم فيه السحب الضبابية، فقد كنت دائما اعتبر الضباب بمثابة إنذار في الحياة. كـان ذلك يتمثل دوما في تساقط أوراق الشجر، وفي استعداد الطيور للرحيل من أوكارها إلى مكان لا نعرف أين هو. كـانت الثعابين والسناجب والفـراشات واليعاسيب جميعها تعود أو تتأهب للعودة إلى بيوتها التي تنتظرها على أمكنة ما على وجـه هذه البسيطة. يا ترى هل أن لي أيضـا أن أعود إلى مسقط رأسي. ربما كـان السبب في ترددي وعدم إعطائي كلمة قاطعة حول رحلة سانتافي هو شهر نوفمبر وضباب نوفمبر ومشاعر الخوف المنذر التي تعتريني خلال نوفمبر. شهر نوفمبر ليس موسما للتفكير، وإنما هو موسم حزم الأمتعة والعودة للـديـار.. أي ديـار يـؤدي لها ذلك الطـريق الرمادي.. أي ديار..

"جاءت بالأمس مكالمة من هيئة الضمان والأمانات مرة أخرى. يقولون إنهم قد وجهوا إنذارا نهائيا بتاريخ الأمس وإنه مـا لم يتم سـداد الـديـون بتـاريخ 7 ديسمبر، فسيقومون بإرسال مساعد مأمور التنفيذ لمصادرة المنزل. عليه يجب عليك العودة فوراً للوطن والذهاب للهيئة ومناشدتهم مد فترة الإنذار. لا أدري إن كانوا سيوافقون على مساعدتنا ولكن حسب ما أرى الحال فإنهم مصممون فيما يبدو على مصادرة المنزل في التاريخ المحدد. لا أدري كم اقترفت من الذنوب لكي يتوجب علي أن أخبرك بهذا الأمر. مـاذا في مقدور الشخص أن يفعل عندما ينقلب عليه أولئك الذين هم من لحمه ودمه؟ إنك ابنتي الكبرى ويتوجب عليك بالتالي التصدي لكل كارثة يتعرض لها المنزل، والفضل في النهاية يرجع لـوالدك في حصولك على شهادة الدكتوراه. على كل حال لا بد من عمل شيء قبل السابع من ديسمبر، حيث إننا لا نستطيع العيش في هذا البرد القارس مع أطفالنا الصغار. لقد خارت قواي، ولا انتظر الآن سوى رؤية وجهك مرة أخرى هنا عبر المحيط. إن التكافل بين الأخوة والأخوات هو الأمر الطبيعي، عليه لا تتعجلي في إطلاق اللعنات. "

لقد تسلمت خطابا مماثلا من والدتي قبيل أيام قليلة. يالعظمة شقيقي عندما استأجر مقهى وحصل على قرض مصرفي قيمته خمسون مليون وون، وقمت أنا بإجراءات الضمان التي ظلت تلاحقني لمدة عامين كـما لاحقت فاوست لعنة مفيستوفيليس. خرج شقيقي من الغرفة الخلفية للمقهى ونظر إلي وابتسامة متكلفة تعلو شفتيه وقال إنه يتوجب علي إكمال إجراءات الضمان قبل مغادرتي للولايات المتحدة وإلا فما في وسعه، أن يعمل؟ وقتها فقدت القدرة على النطق وكل ما فعلته هو احتقار رابطة ذلك الدم التافه الحقير الذي يجمع بيننا كحبيبات في سنبلة واحدة. صلة الرحم.. رابطة الدم.. الضمان التكافل المشترك.. المسئولية التضامنية.. فـوران الدم وثـورة الغضب. لما كـانت مجرد فكـرة ضمان شخص لشخص أو بواسطة شخص لا تعني كثيرا بالنسبة لي فقد وافقت على ما أسمته والدتي بطلبها الأخير والذي بدا وكأنه وصيتها الأخـيرة قبل الموت. هكذا تبعت أخي إلى مكتب الضمان والأمانات ووقفت أمام شباك الموظف الذي وجهني قائلا "كضامن عليك وضع توقيعك هنا وهنا وهنا" على ضوء توجيهاته المهذبة تلك فقد ظننت أنه بخلاف ارتكاب جريمة التوقيع فإنني لن أتحمل أي مسئوليات أخرى. في حقيقة الأمر فإن هذا الرجل ربما يكون آخر رجل على وجه الأرض يستحق شرف الضمان من قبلي أو قبل أسرتي. لقد خـدع والدتنا عن طريق الانكسار والتملق الرخيص وقال إن تلك ربما تكـون فرصته الأخـيرة. لقد وعده بإدارة عمل جيد وامتلاك مقهى في توقيرو ذي موقع متميز ودخل معتبر يساعده في الإنفاق على والدتنا وعلى أطفاله اليتامى.

نسبة لأنني لم أكن أملك أي إدراك حقيقي لمعنى أن تكون ضامنا، فلم يكن يتملكني أي إحساس بالمسئولية سوى مسئولية وضع توقيعي على الأماكن الثلاثة المخصصة لذلك. لكنه عندما كـان يفشل في دفع الأرباح المستحقة عن القرض كنت أقوم بدفعها أنا شهريا. بعد ذلك بدأ سيل الخطابات التي تردني تباعا والتي تحذر بالقيام بالحجز على منزلي. لم أكن وقتها متصورة لخطورة الوضع الـذي كنت فيه كضامنة للقرض. ولأن القرض كان ببساطة يخص شخصا آخر، ولأن أمـوال القرض تستغل لإدارة مقهى، فقـد كنت أشعر بنوع من التمرد النفسي وأرفض من حيث المبدأ حقيقة رهن منزلي،. ولهذا فقد بدأت في تجاهل خطابات إدارة الضمان.

لأن المنزل هو كل الميراث الـذي تركه لي زوجي والمأوى الوحيد لي ولطفلين، فقد كنت استقبل الكلمات مثل الحجز والبيع في المزاد العلني بنوع من التهكم. لم يكن المقهى يجذب أي رواد، وحتى العقد لم يتم إبرامه باسم شقيقي وإنما باسم امرأة أخرى من العائلة لم أسمع بها من قبل. عليـه لا يـوجـد ما يلـزمني بسـداد القرض، والأمر برمته حدث قبل ثلاثة أيام فقط من مغادرتي لأمريكا.

سمعت طـرقـا مفـاجئـا على البـاب ودخلت تانتيلا. كانت تبدو رائعـه وفي قمة زينتها، مرتديه سترة سوداء وقميصا أحمر كنت قـد أهديتـه لها فـوق سروال جلدي أسود. كانت تبدو نابضة بـالحياة ومتوحشة "لماذا لم تحضري اليوم؟ لقد جئتك من الجامعة فـور سماعي الأنباء. يبدو أن أحداثا ما تجري في بلادكـم يقولون أن كوريا الشمالية قد حشدت الألوف من جنودها قرب المنطقة المنزوعة السلاح. إنهم جنود صغار في السن كطلاب المدارس ولكنهم جميعا حليقو الرءوس إن منظر الجنود حليقي الرءوس منظر مخيف. أليس كـذلك. ألم يقم جنود الكاميكازا اليابانيون بحلق شعورهم عندما قرروا الموت في سبيل إلههم الإمبراطور. ألم يحلق الرهبان الشرقيون شعورهم عندما ذهب إلى المرتفعات لكي يتحول الواحد منهم إلى بوذا. أعتقد أن الأمـر جـدي، والأفضل أن تتصلي ببـلادك. ألست خارجة اليوم؟"

كـان لتانتيلا اهتمام كبير بكـوريا الشمالية. لم يكن اهتماما إيجابيا بقدر ما كـان فضولا متشائما. كانت شاعـرة امتلكت القوة خلال عقـدي السبعينيات والثمانينيات على معارضة النظم الاستبدادية والإفلات من قبضتهـا. كـانت عضـوا في الحزب الشعبي الديموقراطي الذي قاد المقاومة ضد نظام الدكتاتور تشاوشيسكو وأطاح بالطغمة الشيوعية، وانتخبت بعد ذلك عضوا في الجمعية الوطنية. كان اهتمامها بكوريا الشمالية نابعا من بغضها لتشاوشيسكو. الرومانيون يعرفون جيدا أنه كلما استشعر تشاوشيسكـو خطر أزمة داخلية، كان يلجأ إلى كـوريا الشمالية لطلب المشورة والنصح والاستفادة من تجارب وخبرات كيم ايل سونغ القمعية.

ماذا تعني تحركـات كوريا الشمالية الآن، وما هو رد الفعل المتوقع من قبل كوريا الجنوبية. لو كـان هناك تحرك بهذا الحجم إبان عهـد الجمهورية الثـالثة أو الخامسة فربما تم إعلان حالة الطوارئ وإطلاق القوانين العرفية في البلاد. أدرت جهاز التلفاز للاستماع لمحطة السي. إن. إن وظهرت على الشاشة صورة جبال ربما كـانت هي جبال كومقانغ أو بعض تلك الجبال المتناثرة قرب المنطقة المنزوعة السلاح. كانت هناك صور شبه متلاشية لموكب متحرك ولكنني لم أستطع تبين الخبر من خلال القراءة الإنجليزية السريعة للمذياع. لم يبد الأمر لي كخبر وإنما مجرد صورة شاحبة. لم يكن يعنيني من الأمر سوى إنني أنا هنا وطفلاي هناك يعيشان في سيئول. هذه الصورة الوحيدة التي قدمتها لي شبكة السي. إن. إن.

تناولت طعامي بسرعة وتوجهت نحو الكلية لحضور حلقة نقاش حول مفهوم الرقـابة الفنية يشترك فيها عدد من الكتاب من دول شيوعية وأخرى تخلصت من قبضة أنظمتها الاستبدادية بمن فيهم صديقتي تانتيلا. كانت هذه هـي الحلقة الأخيرة في برنامجنا الرسمي. حـدثتنا نمبى الراقصة الطليعية من كينيا كيف أن النظام هناك في ذروة سطوته الاستبدادية قـد قرر أن إصرارها على وضع مشبك أحمر في شعرها وتجوالها حافية في الشوارع يعتبر عملا من أعمال المقاومة للنظام.

كـذلك أخبرنـا شـاعـر من بنغـلادش أن النظام الـدكتاتوري السابق في بلاده كـان يعتبر قيـام بعض الرجال بإطلاق شعور رءوسهم عملا معاديا للحكومة وكيف أن رجال الشرطة كانوا يحملون مقصات لقص شعور هؤلاء الرجـال. بينما انفجـر البعض ضاحكـا ابتسمت في شيء من المرارة وأنـا أتذكر تلك اللائحـة الخاصـة بـإرسال الشعور في كليتنا أيام الجمهورية الثالثة. تذكـرت "وان" ذلك الرجل الذي أصبح زوجي فيما بعد. كان يعد نفسه لامتحان العلاقـات الدولية، وكان مشغولا بحيث لم يكن لديه الوقت الكافي لحلاقة شعره عندما تم إلقاء القبـض عليه وإيداعه قيد الحبس لمدة يوم كامل في نقطة شرطة مابو. لقد ترك لي وان ولدين ومنزلا وقضى وهو بين ذراعي. رزح تحت أثقال من الهموم قبل أن يمضي خفيفا مثل الحلم.

كانت تانتيلا آخر المتحـدثين. بصوت يشوبه التأثر، قالت إنهم كـانوا يخضعون في عهد تشـاوشيسكو لرقـابة حكومية مشددة ولملاحقات سرية من قبل السلطات لم يكونوا يحسون بها. لذلك بدأ الكتـاب في وضع رقابة ذاتيـة على أنفسهم. في سبيل بحثهـم عن خطـوط السلامة تمكن الأداء من تطويـر أدب في البـلاغة والرصانة. لذلك فإن أدب تلك الفترة كان أكثر رقيا من الأدب الروماني الحالي الغارق في الثرثرة. قالت إن الرقابة المنظمة في المجتمعات الشمولية هي شراك خبيثة محكمة النسج بمعنى أنها لا تسلب كرامة الكـاتب فحسب، ولكنها تفرض عليه ضرورة التوصل إلى توافـق وحلول وسطى مع كل الأشيـاء الخطـيرة التي يرفضهـا. لقـد اعترفت أن فكرة الانتحار قد راودتها جـديا أكثر من مرة كلما أحست بعيون الرقـابة الحكـومية المسلطة عليها. "من يخضع للرقابة يصبـح هو الرقيب، ومن يتعرض للاضطهاد يصبح قادرا على الاضطهاد. "بسبب أن منزلها كان عرضة للتفتيش المنزلي المستمر، فقـد كانت تخبئ قصائدها في جوال بصل في سرداب بمنزل عمتها وبالتالي كانت تفوح من قصائدها رائحة البصل. هذا ما أكدته وهي تبتسم.

تانتيلا امرأة ذكية وقوية ولبقة، وتبدو الأمور واضحة في حديثها، إما سوداء أو بيضاء. أتوق لأن أكون في وضوحها. لماذا لا أعرف أنا ما أريد؟ لقد عشت حياتي على الدوام وأنا موقنة بأن ما سيحدث سيحدث. انتهت آخر فقرة رسمية من برنامجنا. اقـترحت تانتيلا ذهاب النسـاء وحدهن إلى "الأورلون الأزرق" وهو مطعم في المدينة لتبادل التهاني بمناسبة انتهاء الـبرنامج، أو ربما التعازي. هكـذا بدا الأمر لي وهكـذا كـان إحساسي أيضا. لكن مشكلتي كانت لا تزال قـائمة. هل أذهب إلى سانتافي أم أعود أدراجي إلى الوطن. ونحن نجلس في الأورلـون الأزرق، خلعت تانتيـلا سترتها الجلـدية وبدأت في التدخين. كـان قميصها الأحمر الحريري منسجما مع الزرقة التي تشع في المكان، وقـد جعلها ذلك تبدو أكثر قوة. لقد رأيت فيها في تلك اللحظة قوة مفاصل الأجنحة وتلك المرونة التي تتحدى قوة الجاذبية التي أحسستهـا لدى مشاهدتي لصورة أولئك الـراقصين المحلقين في صحيفـة الصبـاح لقد أهديتها ذلك القميص الحريري الأحمر- برغم أنها ظلت تلمح لي مبدية إعجابها الشديد به- فقط بسبب شعوري بالأسف الشديد نحوها. برغـم أننا كنا قد جئنا لتونا إلى ايفلين ولا نكاد نعرف بعضنا إلا أنها بادرتني فور علمها أنني من كوريا قائلة: "كوريا الجنوبية بالطبع "وانهمر منها سيل من الانتقادات اللاذعة نحو كوريا الشمالية. ذكرت أن كاتبا روائيا تعرفه كان يزور الصين ورغب في السفر إلى كـوريا الشمالية وتوجـه إلى هناك بعد حصوله على تأشيرة الدخـول عبر القنوات الرسمية. بعد قضاء عدة أيام في الفندق وقعت عيناه على الحذاء الذي كان قد اشتراه بالأمس وقـام بلفه في الصحيفة التي كـانت موجودة داخل الغرفة. بعد دقائق قليلة سمع طرقا على الباب وجـاء شخص واقتاده إلى الخارج. وبعد حبسه في غرفة مظلمة أخذوه للتحقيق.

لقد تبين له في ذلك الوقت أنهم كـانوا يرصدون كل حركاته وسكناته داخل الغرفة، بسبب ما تعرض له من خوف وقلق تحول شعر رأسه إلى اللون الأبيض خلال ليلة واحدة. لماذا لا تستطيع لف أي شيء بصحيفة لقد قضى ليلة عصيبة داخل الجحيم وهو يفكر في الأمر. في اليوم التالي تم إطلاق سراحه بمساعدة سفارته. بشعره المبيض، تحت أشعة الشمس الساطعة وجه السؤال إلى مـوظف السفارة الـذي أجابه "لماذا لا تستطيع لف أي شيء بصحيفة؟ لأن الصحيفة هنا تعتبر أوراقا مقدسة" ولماذا هي مقدسة؟ تعلقت جميع الأنظار بشفاه تانتيلا "لأن الصحيفـة كـانت تحتـوي على صـورة كيم ايل سونـغ" انفجر الجميع ضاحكـن وهـم يحملقون في وجهي الذي احمر بفعل الخجل والغضب. بغصة في حلقي قلت "نحـن لسنـا كـذلك نحن الكـوريين الجنوبيين نعيش أحرارا لدرجة الفوضى" شعرت في نظراتهم بنوع من التسـاؤل "أليس الجميع كـوريين في النهاية ينتمون لنفس العنصر" لقد ظلت تانتيلا تروي هذه القصة من حين إلى آخر وأكدت لي عدة مرات أن ذلك الكاتب ما زال يعاني انحرافا صحيا من جراء تلك التجربة. كتعبير عن أسفي أهديتها ذلك القميص الأحمر الحريري الذي كان يعجبها كثيراً.

عندما شعرت أن الحضور قـد اكتمل شرعت أريكا في الحديث. لم تكن لهجتهـا حـادة كـما كـانت عليه في الصباح بل بدت منقبضة الأسارير. "عندما طرحنا فكرة الذهاب إلى سانتافي كان الجميع متفقين. برغم أنه يتوجب علينا إجـراء الحجز غدا، إلا أن البعض لم يحدد موقفـه بعد. سأطلب من كل فرد إعطـاء إجابة قـاطعـة الآن. "بعد أن ردت تانتيلا بالإيجاب، أعربت السيدة محمد من مصر عن ترددها بعض الوقت ثم استفسرت عما إذا كان عدم ذهابها سيفسر على أنه نوع من التخاذل بما أنها كـانت قد حـدثتنا كثيرا عن الجدية التي يوليهـا المسلمون لمفهوم الـوفـاء للجماعة، فقد ابتسم الجميع وهزوا رءوسهم بالإيجاب في حين مضت هي قائلة "لقد كنت منذ فترة أعمل على تأمين الحصول على قبول في شعبة اللغـة الإنجليزية في جامعة ايفلين، وقد تلقيت اليوم ردا إيجابيـا. عليه فإنني سأعـود هنا في الخريف القادم لبداية الدراسـة مما يستوجب مغادرتي الآن بسرعة إلى موطني لقضاء عدد من المسائل العاجلة هناك. أن زوجي إخصائي تخدير وهو أيضا يبحث عن فرصة في المستشفى الجامعي من خـلال برنامج التكـامل" السيـدة محمد في الثـانيـة والخمسين من عمرها. أي شيء يمكن أن يبدأه المرء في مثل هذه السن. وهل يستطيع بدايته في الخارج

كـم أنـا محتـارة ويعزيني شعـور دفين بـالحزن فجأة تملكني إحساس عميق بالحرمان النسبي لم أحلم بمثل ذلك أبدا وأنا أغـوص في أوحال عذاب هذه المشكلـة الملعونة. هل يا ترى سيقومون بانتزاع منزلي لماذا أعيش مشكلتي مع الضمان وغيري في الغرفـة المجاورة لي يحلم ويخطط ويرتب للمستقبل؟ لقد أعجب كل فرد منـا بالسيدة محمد ورمقها بنظرة ملؤها الإعجاب والغيرة أنها الآن لا تحتاج للذهاب إلى سانتافي. بدا لي وكأني وقعت فريسـة جوع شديـد ومفاجئ. كم هي شجاعة هذه المرأة التي تمردت على خطوط السلامة وأعلنت عليهـا الحرب. بعد ذلك أخـذت مونيكا بزمام الحديث قائلة بصوت هادئ النبرات "أنتم لم تشاهدوا ماريان خلال الفترة الأخـيرة. كـان من الأوجب أن أتحدث حول هذا الأمر من قبل. ماريان تعيش الآن في ولاية أخـرى لقد أخـبرتني أنها حامل والإجهـاض مخالف للقانون السائد هنا كـما تعلمون. لهذا فإنها لن تتمكن من الذهاب إلى سانتـافي. فبعـد عـودتها إلى هنـا ستتوجـه مباشرة إلى موطنها". حامل خلال ثلاثة أشهر فقط قضتها هنا لا بد أنه ذلك الشاب الصغير الذي ظلت متعلقة به في الفترة الأخيرة. "أبدا. كانت في بلادها على علاقة وثيقة مع منتج إذاعي واكتشفت أنه متزوج ولم تشأ تدمير حياتها بأن تصبح أما غير متزوجة" كأم غير متزوجة تجهم وجـه نمبي. بسرعة وضعت حقيبتها على كتفها وانسلت نحـو الخارج. يبـدو أن الحديث عن قيـام شخص بتدمير حيائه قـد استفزها. بقي الجميع الذين هزتهم صدمة قرار السيدة محمد، وصدمة حمل ماريان وصدمة غضب نمبي جالسين وعلى وجـوههم نظرات غبية مثل أشخاص غاصوا في مياه عميقة.

"أعتقد أن الأمر سيكون شاقا على تن. منذ سماعها الأخبـار اليوم ويبـدو أن شيئا غير عـادي يجري في كوريا. "تحدثت تانتيلا بجـدية وكأنها مخولة للحديث نيابة عني. جلست هناك عاجزة عن أن أنفي أو أؤكد الأمر. لم يكن في مقدوري أن أقول إن كل شيء على ما يرام أو أن هناك شيئا خطيرا يجري في بلادي لأنني لم أكن أستطيع أن أرى أبعد من أرنبة أنفي. استلهمت بعض القوة من شجاعـة السيدة محمد وقررت أن أتحدث بصراحة. يجب أن أتجاوز هذه الرمادية وأفتح الباب أمام طريق جديد. لماذا هذا التردد الدائم. لا بد من الشجاعة. "لقد استمعت إلى بيان من حكومتنا وهم لا يرون في الأمر خطورة. الأمر لا يمثل بالنسبة لي مشكلة سياسية الآن. ولكن الحقيقة تبقى وهي أن هناك مشكلة خطيرة في بلادي ولدي ولدان ينتظرانني على أحر من الجمر. لهذا يجب أن أعود حـالا لبلادي ولا أستطيع الذهاب إلى سانتافي. "

حـدجتني بنظرات متسائلة كأنها تقول "أوأنت الوحيدة التي لها أطفال. ماذا بودنا أن نفعل وحتى أنت لا ترغبين في الذهاب. أليس في وسعك الانتظار مجرد أسبوع آخر. "آه. من منهن تعرف أنني بصدد مواجهة يوم حساب عسير في الدنيا في السابع من ديسمبر؟ ما داموا يهددون بانتزاع منزلي فعلي أن أعيد إلى موطني الآن، غدا إن أمكن، لأتدبر استلاف بعض المال، وإلا فيجب علي أن أذهب إلى إدارة الضمان وأضع أمـامهم كل ما أملكـه في هذه الحياة لإقنـاعهم بتأجيل يوم الحساب. إنني في انتظار حدوث معجزة. لا بد من توقيع هدنة جديدة مع إدارة الضمان. هذا هو ثمن الدم الذي وهب لي هذه الحياة. لقد أصبح حالي مثل حال سمجـونغ التي ابتلعتهـا أمـواج النهـر في اندانجو. لا. حالها أفضل بالتأكيد. فأنا لن يعاد مولدي كإمبراطورة، ولكني ربما أقضي بقية عمري متخبطة في سبيل إيجاد وسيلة لتسـديد خمسين مليون وون أو تمديد فترة الهدنة مع إدارة الضمان. امتلأت عينـاي بالدموع وأنا أغادر الأورلون الأزرق.. وفي عتمة الظلام كـان للريح عواء ونواح.

ماذا عساكن فاعلات في سانتافي. جميعكن. أنتن تبحثن فقط عن إطالة أمد هذه الحرية المؤقتة قليلا. ويوما ما في المستقبل، عندما تتوغلن في الشيخوخة، ستخرجن الصور من خبايا. الدواليب لتصبح مرآة أوهامكن. ستصنعن منها مرايات جميلة، وستتأملنها لكي تدخلن في عهود أمـان وعلاقات سعادة مع أنفسكن، نعم كلنا نحتاج إلى علاقات سعادة مع مثل هذه المرآة. ستقضي وقتا طيبا، وستصنعن ذكريات سعيـدة، وستجعلنها نقطة الجاذبية في حياتكن نحـو المركز.. نحو المصدر.. والأصل.

لأنه لم يكن هناك من ينتظر قدوم الباص، فقد كانت الرياح في تلك الليلة تبدو موحشة. تحت أضواء الحانوت الخافتة رأيت أشياء مثل الجرائد وأوراق الصفق المتساقطة وأكياس البلاستيك الفارغة تتلاعب بها الرياح وتتقاذفها في مختلف الاتجاهات. كانت بعض الجرائد تبدو مثل كائنات حية تصفق بأجنحتها وتدور مع الرياح وتحلق عاليا نحو السماء. كان هناك شخص مخمور يحاول أن يمشي في اتجاه ركن بعيد مترنحا أمام دوي الرياح. كـان يحاول دفن جبينه على الحائط التي يستنـد عليهـا بكلتـا يـديـه. تحولت الـريح إلى إعصـار، وتطايـرت أوراق الجرائد وصفق الأشجـار والأكياس الفارغة محدثة أزيزا وجلبة مثل سيرك هوائي. تذكرت صورة الراقصين المحلقين في جريدة الصباح وتأكدت أن جمال الصورة كان نابعا من قوتهم التي استطاعت التكيف مع قوة الجاذبية.

هبت الرياح مرة أخرى بشكل مرعب وكـادت تصرعني. بحركة لا إرادية تشبثت بجذع شجرة بالقرب من عمود كهرباء على الطريق. كـان دافئا. من له جذ!ر لا يهتز أبدا. كـان لون السماء الليلي المظلم يوحي لي بأهزوجـة من أهازيج جونغسون. بدا لي وكأن حفنة من جذور تنبت من رءوس أصابع قدمي، وأخذ بدني في الارتفاع مثل ساق شجرة يتطلع إلى افتراس لون السماء. يجب علي العودة إلى موطني. بلا تردد

 

كيم سيونغ هي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات