مساحة ود

 مساحة ود

رسالة إلى سيدة الجسور

الغربة غربة سواء اخترتها أو اختارتك سواء في وطن عربي أو أجنبي، إنه تاريخ الجسد الذي لا يعترف إلا بجغرافية الوطن الأم، إنه الالتصاق الأزلي غير المفسر، ومهما غضبت من وطنك ومهما تمرّدت عليه، ومهما شربت عصير أحلامك خارجه هروبًا من طلباتك الصغيرة المجهضة داخله، ومهما ادّعيت الانصهار في فسيفيسائية المكان الجديد وأتقنت فنّه، سترحل إليه مشاعرك كل يوم بقصد أو دون قصد، فالجسد والروح ملك لثراه أو لثرى مدينة تنتظرك بحب ابنة هذا الوطن.

هذا المساء شرفة من ذاكرة الياسمين يطل على حنين معتق في أوردة القلب يفكك شفرة شوق أثقلتها الأقفال وفي مقهى القلب المليء بالضجيج والرحيل تتسلقين في ذاكرتي كطفلة تعبث بأوراقي، تسافرين في دمي كقبلة فهل جاء دوري في الاعتراف بعد كل هذه السنين، وكل هذا الصمت, والعابرون قبلي عبدوا صخرتك العتيقة شعرا ونثرا؟، هل لأني تأخرت في اكتشاف متعة الالتحام بذاكرتك فقط عندما ربطت مصيري بحقيبة سفر؟ هل لأني الآن أشتاق إلى ملامحك الشائقة على شموع طفولتي التي شاهدتك وغرست معالمك الخارقة في تضاريس روحي وفي رذاذ صوتك السري الذي يتحرّش بي بين حين وآخر.

لم أكن مدمنة مدن يومًا مثلما أدمنتك أنت وأنا في مطارات الغربة، وهاأنذا وفي خضم البحث عن لقمة «حرف» وموطن للذاكرة «أنقّب عنك في ذاكرتي كما ينقّب عن المعادن في الصخور، وأراك تحلقين كحمامة بين كتبي ودفاتري وأبجدياتي.

«سيرتا» (التسمية القديمة لمدينة قسنطينة).. ابنة الصخرة العتيقة الغافية على جانبي وادي الرمال أزف اليك أشواقي.

«سيرتا» صديقتي ومسقط قلبي من عاصمة النيل أكتب إليك وأستحضر روائح أزقتك ودروبك الضيقة وأسواقك وهندستك المعمارية التي تفوح منها روائح الحضارات النوميدية، الرومانية والبيزنطية، والإسلامية.. جمالك الآخاذ أزعج رجالا مبهورين بالقتل والمساومات، عشاقا دون قلب، فالحب لديهم طعنة خنجر.

«سيرتا» زهرة الصخور وصديقة المحن والأحزان أستحضر حضارة ترفض الزوال يا ذاكرة المدن يا أسطورة، يا سيدة المدن أستحضر جسورك المعلقة في قلبي جسرًا جسرًا، ولكل جسر من جسورك رواية عشق مفرحة أو نهاية محزنة أو دعوة «للموت أو للحياة» فجسورك عميقة جدًا كالحزن شهية كالفرح، جسورك أدمنها العشاق والثوار والأحرار.

«سيرتا» طيبة أنت وسخية بالمعالم التاريخية والدينية، سيدة الموسيقى الأندلسية «المالوف» هو ذلك الموروث الغنائي بنصوصه الأدبية وأوزانه الإيقاعية ومقاماته الموسيقية التي ورثتها بلدان الشمال الإفريقي عن الأندلس وطورتها وهذّبتها.

 

 

 

ندى مهري