الشرق بالفرشاة الأوربية

 الشرق بالفرشاة الأوربية

كان الشرق هو عالم "الأحلام".. الذي يتوافق أو يندمج في عالم الواقع, فسعى هؤلاء الرحالة والفنانون ـ عن طريق التجاوب في المشاعر ـ إلى التوغل في جوهر الحضارة الشرقية.

ومما لا شك فيه أن إبداعات الرحالة ومشاهدات الحجيج وتقارير الباحثين والإرساليات والقناصل والخبراء, وضغوط المصالح السياسية ـ خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ـ قد أسهمت في ازدياد كثافة الوعي العام بالشرق..

ومنذ سنوات بعيدة, والغرب يتطلع إلى اكتشاف: "الآخر" والوقوف على أسرار الحضارات "الأجنبية" الغامضة.. وقد تطور هذا التطلع إلى رغبة في اتصال مباشر وفيزيقي مع: الغريب والعجيب والمثير جدا.!

وقد فتح "هيرودوت" الطريق, عندما لفت أنظار اليونان إلى عالم غير يوناني عالم جسد له فكرة "الاغتراب" ومثَّل له أيضا: مدرسة للحكمة.

في عام 1842, تحدث "إدجار كينيه" ـ Edgar Quinet عن "نهضة شرقية" حالة لـ "إنسانية جديدة" .. جديرة بأن تثري الميراث اليوناني ـ الروماني.. تطلب الأمر ـ إذن ـ إعادة النظر في "المعرفة الغربية للشرق".

فالانجذاب إلى الشرق تعدى مرحلة الدهشة والانبهار بالأشياء الغريبة. والحلم الرومانسي الذي أسهم في تدعيم أسطورة "الشرق الأبدي" واختلاط الماضي بالحاضر في خيالات القراء والرحالة الأوربيين, تبدل إلى محاولة اكتشاف جديدة للشرق القديم أصل التاريخ والإنسانية, ومهبط الديانات, ومحتوى أسرار الحضارات القديمة, وانطلقت الرغبة في معرفة أدق عن الآخرين, ترقب وترصد ـ التقاليد والعقائد الإسلامية التي شكلت الشرق الحديث ـ ومع التوسع في الاكتشافات الأثرية وفك طلاسم الكتابات القديمة وقراءة نصوصها ازداد الأمل في اكتشاف فلسفي جديد.. قد يسهم في إعادة صياغة الحياة وأشكالها المادية, فالشرق يمثل دائما فكرة الاستقرار أمام العالم الأوربي المتغير..!

فقدان الرومانسية

وتبدلت الرؤية الاستشراقية ـ خاصة مابعد عام 1860 ـ بينما فقد الحلم الرومانسي سحره وجاذبيته, ومع تطور الأبحاث الخاصة بالضوء واختراع آلة التصوير, تنامى التيار الواقعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, مما أدى إلى التجديد في الرؤية والتعبير عن الشرق بالرسم والتصوير الفوتوغرافي, ووضحت الرغبة في فهم وتحديد ـ مشهد ما ـ على حقيقته, دون تجميل أو تزييف, واهتم الفنانون بتقديم مشاهد حقيقية بتفضيلات وتركيبات محددة, أمينة, وصادقة! ولم تستمر الصورة الباهرة للشرق, إلا لتغذية مشاهد أدبية خصبة, تركت آثارها في كتابات "بيير لوتي" وفي الوقت ذاته, كان بعض الفنانين يحاول أن يبتكر مشاهد جمالية, تحفظ للشرق سحره وفتنته, ولو باستخدام ديكورات عجيبة!

ومع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر, تغلب التيار الواقعي للتصوير الاستشراقي, وتبدلت المفاهيم والمعاني, فكان للتيار الرومانسي سمة بارزة تتلخص في معنى محدد:

"كل الخيال" فأعقبه عصر "كل الملاحظة أو الرصد", ومالبث التصوير الاستشراقي أن تحول إلى "تحقيق عن الشرق". منذ عام 1870, لم يعد الفن الاستشراقي مقصوراً على الفرنسيين والبريطانيين فحسب, فعقب الحرب ضد بروسيا, استقبلت باريس عدداً كبيراً من الفنانين الأوربيين والأمريكان.. والبعض منهم كان قد حقق شيئاً من الشهرة في بلاده. وأكثر هؤلاء, قد سجلوا أنفسهم في: "مدرسة الفنون الجميلة بباريس ـ لدى الرحالة والفنان العظيم: "جان ليون جيروم"

لقد اجتذبتهم باريس أكثر من مدرسة الأكاديمية الملكية بلندن, التي كانت تفتقد مراسم يديرها أستاذ ذائع الصيت, كما هي الحال في فرنسا, أضف إلى ذلك, عدم وجود نظام للمكافآت وضعف احتمالات الانطلاق إلى آفاق الشهرة, خاصة للطلبة الموهوبين, وفي واقع الأمر, لم تكن شهرة الفنانين البريطانيين, تتجاوز الأوساط الفنية الأوربية, ولم يكن كل المستشرقين قد تأسسوا في باريس أو لندن, فالنمساوي: "ليوبولد كارل مولر L. Carl Muller كان يشجع مواطنيه على الرحيل إلى مصر, وتسجيل مشاهداتهم هناك.. والإسباني: ماريانو فورتوني مارسال كان الداعي الأول في إيطاليا, للأهمية المتجددة للشرق.

وفنانون من سويسرا وألمانيا وبلجيكا والدول الإسكندنافية, توجهوا إلى الشرق ـ مصر خاصة ـ وكانوا يعرضون أعمالهم في بلادهم.

والخلفية التوراتية وصلتها العميقة بالشرق, كانت واضحة في أعمال الفنانين الفيكتوريين, أمثال: "دافيد ويلكي" و "هولمان هنت" و "فردريك جودول" كما تجلت أيضا في أعمال الفرنسيين: "جيمس تيسو" و "هوارس فيرنيه"

فكانوا يرتحلون بحثاً عن "الديكورات الحقيقية" للموضوعات الدينية خاصة, مع قناعة تامة بأن تصوير تلك المواقف والمشاهد, هي بمنزلة بعث للأزمنة الغابرة. وتجددت النوازع الروحية في إنجلترا الفيكتورية بتأثير نجاح المناظر التوراتية التي أبدعت في ديكورات فرعونية. وكانت الموضوعات التاريخية في أعمال: "إدوارد بوينتر" و "سير لورانس ألما ـ تيدما" و "ادوين لونج" تكاد تشبه الإنجازات الأولى لهوليوود! وعندما أصبح الفن الاستشراقي "موضة العصر".. حظي أيضا باهتمام فنانين لم يذهبوا إطلاقا إلى الشرق وكان أشهرهم الكلاسيكي: جان أوجست دومينيك انجرس, في عام 1814 كان قد أبدع لوحته: "المحظية" وفي عام 9391, أنجز لوحته الشهيرة: "الجارية والعبد" ثم في عام 1962, أبدع لوحته الأشهر: "الحمام التركي" وقد أدت حرب القرم 1854 ـ 1855, وافتتاح قناة السويس عام 1869 إلى وضع منطقة الشرق الأوسط من جديد على رأس الأحداث, فقد أرسل عدد من الفنانين لتسجيل تلك الأحداث, وكثير من بينهم اهتموا بتسجيل مشاهد من الحياة اليومية في الشرق.

وبينما تزايدت الأفواج السياحية, بإشراف شركة "توماس كوك".. مزودين بآلات التصوير الفوتوغرافي, نجد أن أساليب الحياة والأزياء الأوربية, قد تسللت إلى الأوساط الحكومية في القاهرة وتركيا, وسيدات المجتمع قد هجرن ملابسهن التقليدية, ليرتدين "الكرينول" من بيت أزياء "وورث" والفنانون أنفسهم يحاولون الابتعاد عن كل المظاهر الأوربية.

وقد اشتملت روائع الفنانين الأوربيين في أكثرها على: المآذن الباسقة البيضاء, التي تسبغ الاتزان على التكوين الفني, خاصة في أعمال: شارلز روبرتسون. كرابليه, ووالتر تيندال, باسكال كوست, روبرتس, ماريلا, توماس آلوم, ادوارد لير, وسجل جان ليون جيروم مشهداً للمؤذن ينادي للصلاة بينما تتراءى مآذن القاهرة المملوكية, تمتد رشيقة في أفق تغشاه حمرة الغسق, وتتجلى براعة المصورين البريطانيين: دافيد روبرتس وجون فردريك لويس ـ بوجه خاص ـ في تصوير روائع العمارة الإسلامية في إطار من مسحة رومانسية! أما رائد التصوير البريطاني "وليام بارتليت" الذي قام بخمس رحلات إلى الشرق, فقد كانت فلسطين ـ الأرض المقدسة ـ محور اهتمامه لشغفه بالشخصيات والمواقع التي وردت في الكتاب المقدس.

القاهرة الإسلامية

كثير من الأدباء والفنانين الذين رحلوا إلى مصر, كانوا مزودين بقراءاتهم عنها في الآداب الكلاسيكية والمعاصرة ودراسات الاستشراق الأكاديمي, إلا أن الناحية الجمالية البحتة هي التي استأثرت باهتماماتهم, اجتذبهم سحر حياة الشرق في القاهرة, فعايشوها واندمجوا فيها, حريصون على أن يلزموا أنفسهم ما توحي به مشاعرهم وأحلامهم, فلم يحفلوا بلغة الاستشراق المعهودة عن سيطرة الغرب على الشرق, ولم يبالوا بأن يكون إنتاجهم وإبداعهم يتفق وتوجهات حكوماتهم الاستعمارية.

ومع بداية العصر الفيكتوري, اجتذبت فنون العمارة الإسلامية, وصخب الحياة اليومية لأهل القاهرة ـ بأدق تفاصيلها ـ الكثير من الفنانين الأوربيين, ومنهم من أقام بها لعدة شهور, ومنهم من راقت له الحياة, فامتدت إقامته لعدة سنوات. من بين هؤلاء: جون فردريك لويس, دافيد روبرتس, هنري والسن, كارل مولر, جون فارلي, لودفيج دويتس , ماريلا, جيروم, ماكوفسكي.

الفنان "لويس" أبرع وأشهر المستشرقين البريطانيين, عاش بالقاهرة من عام 1842 إلى عام 1851, يحيا حياة "آكلي اللوتس" كما أشار صديقه "ثاكراي" معرضا بقصيدة "كوليردج" التي تصف هؤلاء الذين يجدون النسيان في أكل بذور زهرة اللوتس. بدأ لويس حياته: رساماً بالألوان المائية, وقد حقق نجاحاً باهراً في صالون: "جمعية الألوان المائية" في عام 1850 بلوحته الشهيرة "الحريم".

وقد تميزت لوحات لويس المتناهية, وثراء ووضوح التفاصيل والتجديد في اختيار موضوعاته, بعيداً عن "الاستعراضات الرومانسية" أو الكليشيهات التقليدية عن الشرق كأسواق العبيد, والآثار, والحريم, فقد كان ينظر بعين واقعية إلى كل مايحيط به من مشاهد لحياة القاهرة, مبتكراً "لوحات هادئة" مستلهمة من صميم الحياة اليومية محافظاَ على تقاليد العصر الأيقونية, حتى وهو يبدع مشهداً شرقياً شعبياً, مثل كاتب الرسائل في السوق.

ومن الأهمية أن نعرض لبعض انطباعات هذا الفنان العظيم, التي دونها في مذكراته, ومشاهد أثارت خياله في شوارع القاهرة, فيصف: بعض النساء المصريات اللائي تحجبن تماماً, ما عدا وجوههن الرقيقة و "سيدات تركيات قد ارتدين عباءاتهن السوداء, يسارع في خدمتهن عبيد في ملابس ملونة بألوان قوس قزح!" ويصف "سوق العبيد" فيقول: أحد الأماكن التي أفضلها, مع أنني لم أكن رسام أشخاص. كان السوق قائماً في فناء مفتوح, محاطاً بالأروقة على الطريقة الرومانية, والعبيد معروضين للبيع في وسط هذا الفناء, وكان عددهم نحو الأربعين معظمهم من الشباب, وبعضهم أطفال, كان مشهداً مثيراً.. بالرغم من أنني لم أكن شاهداً عليه.. كما كنت أتخيله دائماً مشهداً يبعث على الأسى والحزن.. والجواري الجميلات, يلزمن غرفة أعلى الفناء: بصفة عامة كن قوقازيات وحبشيات.

وعندما يتقدم أحد المشترين, أرى التاجر يرفع رداءَ سميكاً من الصوف يغطي أجسادهن, ليعرضهن على من يبغي الشراء.

بعض هؤلاء الفتيات, كن يتمتعن بقدر فائق من الجمال, قوام ممشوق وصدور ناهدة, وقسمات دقيقة, وعيون رائعة تنطق بمكنون مشاعرهن!.. وتلك الأوقات التي قضيتها في القاهرة, هي أحلى ما عشت من عمري, فهذه التجمعات, والمشاهد الغريبة والأزياء والعادات العجيبة, لايمكنها أن تخاطب أقاموا في الأحياء الشعبية, واقتنوا الجواري والعبيد, ودخنوا الحشيش, فقد ضاقوا ذرعاً من تزمت العهد الفيكتوري, ولاشك أن فكرة "الحريم" كانت تعابث خيال الأوربي كلما تذكر الشرق.

أسواق الشرق

ولوحات روبرتس التي ضمنها كتابه الضخم "الأراضي المقدسة ومصر والنوبة" حققت له شهرة واسعة, جعلت منه ألمع الفنانين الأوربيين الذين زاروا الشرق, وقد سرد انطباعاته ونشاطه الفني في يوميات رحلته في مصر, وفيها يصف القاهرة, بأنها مدينة لاتماثلها مدينة أخرى, مناظر شوارعها وأسواقها العامرة وتنوع طرزها المعمارية, بالرغم من بعض المعوقات التي أشار إليها في مذكراته, مثل ضيق الشوارع واكتظاظ الأسواق وفضول الناس, فكتب قائلاً: "أخشى أن تطأني الإبل بأثقالها فأتحول إلى مومياء, فمشهد الإبل على مافيه من جمال قد يكلفك حياتك, يالها من أسواق تختلط فيها شعوب الشرق جميعاً, أتراك ويونان في أزياء غريبة, وأخلاط متنافرة من البدو المسلحين, وصعاليك مشردون ونساء محجبات يمتطين الحمير أو البغال, يحرسهن عبيد أشداء, وسقاءون بقربهم الجلدية المميزة, وأسواق تتنوع معروضاتها بسلع شرقية وأوربية, وأصحاب الحوانيت في وقارهم, لاينزعون مباسم الشبك من أفواههم, ولا أعتقد أن التدخين في مصر مقصور على الرجال وحدهم, بل إن بعض النساء المصريات يدخن في بيوتهن, ويستخدمن نرجيلات فخمة ثمينة, كل ذلك يشكل أمامي لوحات ماكنت أحلم بها, ولا أستطيع أن أمنع نفسي من الصياح متعجباً أمام هذه المشاهد المتنوعة: "ياله من جمال", "يا له من سحر آسر" "يا لها من ملابس", خشيت أن يعتقد دليلي "الترجمان" أنه أصابني مس من الجنون. الحقيقة أني كنت مذهولاً من كل ماهو مدهش وجديد أمامي, ومقتنعاً أني وجدت نفسي على أرض بكر, وبأن هؤلاء الناس لم يسبق أن رسمهم أحد". وقد برع روبرتس في استخدام الضوء والظل ـ استخداماً درامياً ـ في تصوير أطلال مصر القديمة, إبداع انطوى على لمحات شجية على اندثار أعظم ما خلقته العبقرية الإنسانية. وكان الفنان "هنري والسن" مبدع اللوحة الشهيرة: "موت شاترتون" قد جلب معه بعض لوحات عن شوارع القاهرة, ولكنها ليست في حيوية لوحات روبرتس أو لويس. وقد ألهمت القاهرة الإسلامية, وطقوس الحياة الشعبية, أبرع الفنانين المستشرقين النمساويين: "ليوبولد كارل مولر" الذي أقام بمصر عدة سنوات, وكانت أشهر لوحاته: "السوق على أبواب القاهرة" التي تميزت بالدقة وثراء التفاصيل وروعة الألوان, جعلها تلقى كثي راً من الشهرة الواسعة والإقبال, خاصة في إنجلترا. وتمكن مولر من اجتذاب اثنين من أشهر الرسامين النمساويين "لينباخ" "هانز ماكارت" وبالفعل زار ماكارت مصر عام 1872, مع مجموعة من الأمراء, وكان شديد الاعتداد بعبقريته, معتقداً أنها تضارع عبقرية "روبنز" النمسوي, وتميزت لوحاته بالأبهة والفخامة, أشهرها لوحته الخالدة "كليوباترا".

والفنان الفرنسي "بروسبير ماريلا" الذي اصطحبه عالم النباتات الألماني "فون هجيل" إلى الشرق عام 1831 لمدة عامين فتحقق حلمه بزيارة مصر وسوريا ولبنان وفلسطين, وأبدع في تصوير أنماط الحياة الشرقية, وبلغ ذروة فكره الجمالي في لوحة "مشهد من ميدان في القاهرة" وأبرز فيها شاعرية حياة المدينة وواقعها اليومي.

ولقد توغل "ماريلا" في روح مصر, وفي مملكة الضوء واللون, حتى اشتهر باسم: "ماريلا المصري", ومشاعره الذاتية أضفت على الفن الاستشراقي مسحة رومانسية جذابة ومؤثرة, وشكلت أشجار النخيل الباسقة والظلال الوارفة ومياه النيل المتألقة والرمال الذهبية منائر المساجد وأشكال البشر والأزياء الشرقية والإبل وألوان السماء: مادة أحلامه المنشودة وحياته المثالية!

وفي تقويمه لصالون عام 1934, كتب "تيوفيل جوتييه" "لقد حققت لوحات "ماريلا" صورة أحلامي عن الشرق, ففي لوحاته أحسست بأنني قد وجدت وطني الحقيقي, وحين أشحت بوجهي عن هذه اللوحات, انتابني حنين شديد إلى الشرق.

ومن أشهر لوحات "ماريلا" التي اكتسبت سحراً خاصاً وشاعرية دافقة, "ساحة الأزبكية في القاهرة", "منظر من بولاق", "أطلال مسجد الحاكم", "ضفة النيل", "مسجد باب الوزير", "مقهى في بولاق", "منظر مصري". كذلك استقبلت القاهرة, الفنان "ليون أوجست بيلي" تلميذ ماريلا في عام 1850, وكانت أشهر لوحاته "الحجيج في طريقهم إلى مكة" والتي حظيت بنجاح هائل في صالون باريس عام 1861.

الحريم في الفن الاستشراقي

للشرق جاذبيته الخاصة بوصفه عالم أساطير شهر زاد وألف ليلة وليلة والجزء المحرم من حياة الشرقي, هو في ذاته يفسر العلاقة الرومانسية بالمرأة, تلك العلاقة المضطربة والمتناقضة, وفي عالم المرأة قدس أقداس مملكة الروح والجسد, تتداخل شتى المقولات الرومانسية, الجمال, المتعة, الحلم, الإثارة, الشغف, والضعف. وجاذبية صورة المرأة بالنسبة للفنان هي رافد جمالي مثير للإبداع, ومما لاشك فيه أن فكرة "الحريم" كانت تعابث خيال الفنان الأوربي كلما تذكر الشرق, وتجعله أسير حلم يرى نفسه فيه سلطاناً محاطا بعدد من الغيد الحسان. وكان لبعض هؤلاء الفنانين محاولتهم للتغلغل إلى عمق ظاهرة الحريم.. وتعرية هذا العالم المقدس للوصول إلى الحقيقة, إلى سر الخدر, والبيوت المغلقة من الخارج, المفتوحة على إيوان تطل منه السماء من الداخل , ولقد حاول ديلا كروا "الرومانسي" الارتقاء بصورة المرأة الشرقية إلهة كل الفنون, والنموذج الإنساني الذي مازال يحتفظ بلهبه التاريخي, تخير موضوع "الجواري" المتعة الغامضة, فالمرأة الشرقية المحجبة, أسيرة "الحريم" تجسد بعداً خفياً عسيراً على الإدراك, لكنها تمثل جاذبية خاصة. وتتميز لوحته "جارية مستلقية على الأريكة" 1825, "متحف فيتس وليام كامبريدج", بثراء الألوان, وعناصر الديكور الشرقي في بناء اللوحة: الأزياء الفاخرة, الستائر الزاهية, السجاد, الأثاثات الخشبية المطعمة بالصدف, الأواني النحاسية, حيوانات مستأنسة, شكل رومانسي حالم, فهو لايريد مجرد تصوير امرأة عارية, وإنما يريد تصوير امرأة شرقية على وجه التحديد وبكل ما تمثله من دلالات جمالية واجتماعية. وإذا كان بعض هؤلاء الفنانين قد حاولوا "فك رموز" الحريم الشرقي, المحرم عليهم رؤيته ومعايشته, إلا أن "ديلا كروا" كان الوحيد الذي وافته ـ الفرصة التاريخية ـ لرؤية "الحرملك" بالجزائر, وهو الذي فشل في إقناع المغاربة بتصوير نسائهم حتى بالرغم من إغرائهم بالمال, وهذه الحالة الاستثنائية لم تتح لأحد غيره من الفنانين. وأدرك "ديلا كروا" ماهية الشرق الحقيقي في أكثر عناصره غموضاً وسحراً, وفور عودته إلى فرنسا, شرع في رسم لوحته "نساء الجزائر" معتمداً على الذاكرة والاسكتشات التمهيدية, وقد جسد في بطلات لوحته ماكان ينبغي رؤيته, فشخصية المرأة الشرقية تنضح شاعرية ورهافة ورخاء شرقيا يذكرنا بعالم ألف ليلة وليلة, العيون الرائعة الجمال كعيون المها والشفاه المكتنزة والأجساد الناعمة البضة, الشعر المخضب بالحناء, عقود الياسمين التي تزين الأعناق ثم بعض مظاهر الحياة اليومية طبق الفاكهة, النارجيلة, ديكور شرقي, وعنها كتب ديلاكروا: "إن الانسجام السحري الذي يسيطر على مشاهد اللوحة, منذ الوهلة الأولى, إنما يتكون بفعل أسلوب توزيع الألوان, والتلاعب بالضوء والظل, وخلاصة القول بما يمكن أن نسميه موسيقى اللوحة". وقد أبدع كثير من الفنانين الأوربيين في رسم "الحريم" منهم لودفيج دويتش, كارل هاج, هولمان هنت, أنجر ومجموعته الشهيرة عن حمامات النساء, رودلف أرنست, فريدريكو بارتولين, ألبرتو باسيني, وجون فردريك لويس الذي هزت مجموعة لوحاته عن الحريم الأوساط الفنية في أوربا, بما تميزت به من دقة التفاصيل, وتألق الألوان في تبادل رائع بين الضوء والظلال. وفي كتابه "رحلة إلى الشرق" عرض الفرنسي "جيرار دي نيرفال" لما حظيت به المرأة المسلمة من تقدير في جميع المجالات الاجتماعية والدينية, مؤكداً أنها لم تنل في الإنجيل أو في التوراة مكانتها الرفيعة في القرآن, مستشهداً بقوله تعالىسورة الروم آية 21 ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة كما سمح لها بارتياد المساجد, وطالب دي نيرفال أقرانه من الأوربيين بأن يتخلوا عن أفكارهم الظالمة الشائعة بينهم عن الإسلام, وما يرددونه من أن المسلمين يتوقون إلى ما وعدوا به من جنة تحتشد بالحور العين من الحسان المتجددات العذرية, داحضاً مزاعم "مونتسكيو" في كتابه "رسائل فارسية", فهي في نظره أساس كل الآراء الخاطئة الشائعة في أوربا عن حريم الشرق.

 

عرفة عبده علي