قراءة نقدية في رواية..

قراءة نقدية في رواية.. "العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء"

بقلم. الدكتور محمد حسن عبدالله

ثمة جيل من الكاتبات العربيات الشابات، يسهمن الآن بمشاركات بارزة في حقل الرواية العربية. والكاتبة سلوى بكر في روايتها هذه، مناخ السجن كفضاء روائي تحرك فيه بطلات روايتهـا.

لقـد "ذهبت" سلـوى بكر زمنـا محدودا إلى السجن، وخـالطت عددا من السجينـات، وشكلت هذه الرواية الجميلة، دون أن تتبنى - فيما يخص هاته النسوة- موقفا مسبقا، كالحكم بخيرية المجتمع، وشرود الفرد أو شـذوذه، وأنه ضحيـة لهذا التضاد في الأهـداف أو الحركـة، أو عكس هـذا من الاعتقـاد بانحراف القيم الاجتماعية، وسيطرة الفردية، أو سطوة المادة، بما يـؤدي إلى سقـوط الفرد في الجريمة، نتيجـة لهذا. إننا سنجد "كل" أنواع الانحراف، وأسبابه الفردية حتى تلك التي تفتقر إلى سبب حقيقي يتجاوز "الهواية" الشخصية، وكـذلك أسبابه الاجتماعية التي تستند إلى مبررات شتى من الفقـر، والشعـور بـالـدونيـة، والاضطهاد، والقسـوة، والخوف، والجنس الذي يمثل محورا أساسيا من محاور الجريمة في هذه الرواية، بل لعله سبب كـامن وراء دوافع أخـرى معلنة، وسنرى أنـه المدخل، والخط المتسرب في أكثـر حكـايـات نسـاء السجن، وأنه- بهذه الهيمنة، مع تلك العربة الذهبية "الوهمية" التي صنعها خيال شاطح، يقف على حـافة الجنون- هو الـذي قام بدور "الـربط" بين تلك الحكـايات، فخـرج بها من نطاق السرد الحكـائي، إلى البنية الروائيـة، والحبكة الفنيـة، القائمة على تداخل عناصر البناء الفني.

إن إلقـاء اللوم على المجتمع، وأنه الـذي يشكل شخصية المجرم هـو الذي يعطي الرواية، أي رواية، شارة "الواقعية"، فإذا كان "المجرم" طيبا في أعماقه، يملك ضميرا نقيا، لم تواته طبائع الحياة من حـوله على حماية طيبته، ورعاية حقـوق ضميره، فقد اتسع إطار الـرواية، أو ضـاق، لتـدخل في إطـار "الـواقعيـة الاشتراكية، وإذا انطلق الكاتب من شخصية المجرم، في الاتجاه العكسي، ليكشف عن جـذور إجـرامه في آبائه، وسلالته، فقد أخذ بجانب من "الطبيعية"، ولقد جمعت سلـوى بكـر بين كل هـذه المستويـات، بل تعـاطفت مع نماذجها النسائية دون أن تبلغ بإحداهن درجة "غادة الكاميليـا"، وهذا دليل تمرد فنها على أي إطار جاهز سلفا، وحرية رؤيتها، ومن ثم اكتسابها هذه النزعة الإنسانية الشجية، دون ضعف "رومانسي"، الناقدة، دون انحصار "واقعي"، العلمية، دون فظاظة أو جفاف "طبيعي".

خليط من الشخصيات

هذه الحرية الفكرية، الفنية، أتاحت للكاتبة أن تتعامل مع عينة عشوائية عكست المجتمع ومع الطبائع، وجمعت بين قطاعات من المجتمع، ومع اختلاف الطبائع اختلفت الدوافع، وانتهى تعدد القطاعات إلى تصوير عصر أزمة شاملة، وفي هذه الرؤية توحد التشكيل الفني الذي أوشك أن يتفسخ في أكثر من موضع. هناك عزيزة الإسكندرانية التي قتلت عشيقها، هو بذاته زوج أمها، حين فكر في الزواج بعد وفاة الأم المخدوعة، وهذه الجريمة فاقدة السند، وتقدم من خلال شخصية تجردت من الندم، كما تجردت من كثير من القيم، وليست عزيزة المرأة الوحيدة التي قتلت رجلا بدافع الغيرة الجنسية، فهناك العجوز "حنه" التي نلت زوجها بعد عشرة خمسة وأربعين عاما، لأنه مصاب بسعار جنسي لم يوقر شيخوختها، ولم يرحمها، أما عظيمة الطويلة، التي تصل بأنها "مشروع زرافة"، فقد تآمرت لخصاء حبيبها الغادر، والخصاء للرجل أشد من القتل، أما مدام زينب منصور، بنت العز، فقد قتلت عتم ولديها، أمام المحكمة، بالمسدس، حين انتزع منها - بحكم المحكمة- حق الوصاية على ثروة الولدين، بعد أن رفضته زوجا، فراح يجمع أدلة فسادها الخلقي، وسفه إنفاقها للمال (ولم يكن هذا ولا ذاك صحيحا وإن أمكنه إقامة الدليل عليه والانحراف بحكم المحكمة)، فكان حكمهما الخاص، المعلن، بعد دقائق من انتصاره الزائف. وإلى جانب القاتلات الأربع ثلاث محكومات بالسرقة والنشل، وواحدة للتسول (وإن لم تتسول) وواحدة للمتاجرة في المخدرات، وأخرى طبيبة أخطأت في جرعة البنج فقتلت صبيا، وواحدة للحصول على "خلوات" من السكان. إن هذه العينة العشوائية لا تعبر عن درجات انتشار الجريمة في المجتمع، وإنما تعبر عن الأسباب التي من أجلها تساق المرأة إلى السجن، وهنا تظهر الحب، أو الجنس، ظاهرا، وتعليلا خافيا وراء كل هذه الجرائم. والطريف حقا أنه بين هذه النماذج نجد امرأتين حكمتا عن جريمتين لم ترتكباهما: أم الخير، الفلاحة الوحيدة في الرواية، حملت خمس عشرة مرة، فاش لها عشرة من الأبنـاء، انحـرف أحـدهـم (واحـد من عشرة) لتجـارة المخدرات، فحين دهم التفتيش بيتها اعترفت بأنها صاحبة هذه الآفة الملعونة، ليبقى ولدها حراً يرعى أطفاله. لقـد استحقت من المؤلفـة اسما خالدا يضرب بجـذوره في أرض مصر: البقرة السماوية "حتحور" المنقوشة بنجوم السماء، وهي تغـذو "حورس" وتحنو عليه، إننـا لم نعرف كيف كان مـوقف هذا الابن، وهل انتقل إليه المعنى "المقدس" الذي ضحت الأم له، أو أن آفته المريضة أعادته إلى ما كان فيه فضاعت تضحيتها هباء؟! إن هـذا ما كـان من شأن عايدة الصعيدية، الفتاة النقيـة الشحيحة الجـمال، السخيـة بحس الطهارة والنبل، تزوجها ابن عمها الأناني الفظ فأساء عشرتها، كتمت تعـاستهـا، ولكن أخاها الوحيد رآها ذات مرة محقورة مضروبة، فنشب عراك بين الأخ والزوج، انتهى بقتل الزوج. وهنا تدخلت الأم لتدفع ابنتها إلى الاعتراف بأنها التي قتلت ذلك الزوج الطاغية دفاعا عن النفس، وبذلك تفدي أخاهـا الحبيب، وتجنب الأسرة مسلسل الثأر وبحر الـدماء وجميلات الفتاة اليـائسة بأن أسرتها ستسـاندها بـأكبر المحامين، وستحمد لها تضحيتها المكتومة. لكن شيئا من هذا لم يكن، فقد تبرأوا منها، وتركوها لمصيرها، فعانت السجن، والجحود، وهربت إلى الذهول حينا بعد حين.

حكاية عزيزة

إن عزيزة الإسكندرانيـة، عاشقة زوج أمها، التي قضت في السجن زمنا طويلا هي المدخل إلى الموضوع، وحين ارتفع ضغط الـدم وانتقلـت إلى الغيبوبة انتهت الرواية، فمع ارتفاع الضغط ارتفعت عجلات المركبة الـذهبية عن الأرض، وانطلقـت في الفضاء مثقلـة بحمولتها من أهل الألم والعناء من نسـاء السجن بمن فيهن إحـدى السجانات (محروسـة) التي لم تكن أقل بؤسـا من سجيناتها، على أن البؤس والمعـاناة لم يكـونا المرشح الوحيد لاختيار راكبات العربة الذهبية، إن عقل عزيزة الإسكندرانية المضطرب، الذي لم يتمكن أبدا من "تصحيح" الحكم على خيانتها لأمها في زوجها، لم يفقد القدرة على تحديـد دواعي التفضيل، فلا بد أن يتحقق مع البؤس والمعاناة خلق إيجابي، كالتضحية، وصفاء الأخوة، والبذل من أجل الآخرين، ولهذا لم تتسع عربتها لتاجرة مخدرات، أو تاجرة أعراض، في حين اتسعت لقطة كانت تلازم أم الخير (الفلاحة) وقطة أخرى صديقة لها، حتى لا تفرق - في عربتها الذهبية - بين أليفين!!

إن حكاية عزيزة التي قدمت بضمير الغائب، وأسلوب سردي، مثل كل الحكايات، حتى تلك التي تولت أم الخير تقديمها (هي التي روت حكاية عايدة الصعيدية) تضع المتلقي- منذ البدء- أمام مفارقة حادة، هي صدمة، فهذه الطفلة- تقريبا- عزيزة، التي نشأت في رعاية زوج أمها الكهل، تعرضت للملاطفة وإغراء تحول إلى إغراء واعتداء جنسي، وبدلا من أن نجد لدى الطفلة صدمة، أو ذعرا، أو خوفا مقموعا، نجدها مقبلة، راغبة، كأنما أعدت نفسها، تمنت هذا الذي حدث، ثم لأنها تتمادى فيه، وتهيئ وتبرره، حتى ترفض كل عروض الزواج، ويموت ضميرها تجاه الأم المخدوعة، وكانت مكفوفة البصر، جميلة معا، فيصطنع وفاقا مستحيلا بين المرأتين في علاقتهما برجل واحد، هو للأخرى بمثابة الأب، فليس في هذه العلاقة- من جانب الفتاة- شعور بالسرقة أو المنافسة، أو الأنانية، إنها- كما تتصور- تحصل على الحب، وتؤديه في أبهى صوره، وأكمل لذائذه، إن حبيبها هو المعشوق الكامل، لا يتحقق لها وجود إلا بهذا العشق الذي أدمنته، ولم تعرف سواه، ولم تشعر بأنها ترتكب حراما، كما لم تفكر في حق الأمومة، بل لم تعرف لهذه الكلمة معنى إلا متأخرا جدا بعد أعوام طوال في السجن، ولعل هذا كان وراء ضميرها المتبلد الذي لم يعرف معنى الخطيئة، ومن ثم لم تعان آلام الندم. فمن أين تأتي المفارقة الحادة التي تحدث صدمة التلقي؟! إن عزيزة هذه هي التي ابتكر خيالها العربة الذهبية، ولأنها غير متعلمة فإنها لم تستمد أصل صورتها من أساطير الإغريق، وإنما من عربة حقيقية، ملكية، تجرها الخيل، شاهدتها على كورنيش مدينتها إبان طفولتها، غير أنها أضافت للأفراس أجنحة حتى تتمكن من الصعود إلى السماء!! أما ركاب العربة- كما انتقاهم ذهنها المشوش- فلم يتحكم الدين أو الطبقة أو العمر أو النوع في هذا الانتقاء، فقط: الأنوثة، فكلهن إناث، حتى القطة وصديقتهـا، وأنهن ضحايا وإن دخلن السجن جانيات، حتى السجانة ضحية، وكلهن بعيدات عن شبهة إيذاء الغير وفيهن جانب أخلاقي إيجابي محمود. كيف تسنى لعزيزة أن تكون "قاضياً" بهذا القدر من "نزاهة" المعيار ودقته، وهي الغارقة في الجريمة حتى لم تعد تراها جريمة، ولم تفكر في قتل عشيقها إلا حين ظهرت عليه دلائل الميل إلى امرأة سواها، بعد وفاة أمها؟! بل تزعم - إلى النهـاية- أنها لم تقتل ذلك العشيق الأثير الذي لم تعرف الدنيا إلا بين يديه، وأنها إنما أغمدت سكينها في تلك الليلة الشتائية الشنيعة من ليالي النوة الكبرى في صدر رجل آخر، لا تعرفه، اعترض طريق عشقها، وجاء يهدم أحلامها!!

كيف وفقت الكاتبة بين الأمرين المتنافرين؟

لقد أعطت لعزيزة من المساحة، وحق الظهور في الفصول السبعة الأخرى، غير الفصل الأول المخصص لها، ما يتناسب وحجم مشكلتها الأخلاقية، ورسالتها المتخيلة في نصرة المظاليم والصعود بهم إلى السماء، حيث يحصلون على تعويض مكافئ، ضن به قساة الأرض وهذا الامتداد في المساحة، والتشعب في أثناء القصص الأخرى بقدر محاولته تجميل الشر، وتصوير الخطيئة على بشاعتها (الزنا بالمحارم) كأنها لا خطيئة، كان يكشف أقنعة هذه الشخصية المركبة، لتبدو في النهاية على فطرتها الغاوية، وصورتها الفاتنة المنحرفة معا، بحيث لا تأخذ صورة الضحية، ولكنها أيضا ليست في موقع "الخطيئة العمد"- إن صح التعبير، وكأنما إمكاناتها وقدرها معا أن تكون كما كانت، وليس في استطاعتها أن تعدل من صورتها التي شاركت الوراثة، والظروف، والقدرة الذاتية على تأكيدا هذا القعود عن استنهاض إرادة الرفض، أو الثورة على الخطأ فيها. هذا هو الجانب المأسوي (التراجيدي) في بناء شخصية عزيزة الإسكندرانية، ففي قفزة مبكرة، انتقل بها الرجل المجرب من عالم الفتاة (أو الطفلة) الغرة إلى عالم المرأة. وقد أخذ بيدها في دنيا اللذة، وأغدق عليها الهدايا، وإذا ظهرت كلمة "الخوف" منه (ص 18) فإنه لم يكن خوف النفور، أو الألم، وإنما الخوف الذي يقترن بمشاعر الحب والجلال: "كانت لا تزال صغيرة، تخاف ذلك الرجل القوي، الجميل، الذي لا تملك إلا الامتثال لأوامره ونواهيه". وهي إلى هذا شخصية مترددة، لم تكتسب تجربة التعامل مع الآخرين، تعيش طفلة وحيدة، مع أم ضريرة، في بيت واسع، لم تتبادل خبرة الحياة مع أنداد لها، ولهذا فإنها حين أتيحت لها فرصة التعرف إلى رجل آخر (تاجر ذهب ومجوهرات) وعرض عليهـا أن يتقدم لخطبتهـا، وكانت قد استجابت لنظراته، وضعت العراقيل أمامه، وهربت منه، كما تهربت بمعونة عشيقها من كل مشروعات الخطبة، لأن التعلق بآخر يعني نقص ولائهـا لمن افتتحت به عالمها الخاص، وأيضا، لأنها لا تملك القدرة على اتخاذ قرار، أو "التردد، وعدم الحسم" كما تعبر المؤلفة.

وإذا كانت عزيزة لم تشعر بنفور قط من ذلك الذي اغتصبها في ذلك الزمن البعيد "بل كانت الأيام وتراكمها الدائم تزيدها اقترابا منه، وتعلقا به، وهي التي اعتادت عليه منذ أن كانت طفلة صغيرة، باعتباره الراعي لشئونها والمهتم بها، وكذلك لم تشعر بأنها تعتدي على حق من حقوق أمها، "بل إنها لم تجد في أي وقت من الأوقات أدنى غضاضة في أن تشترك وأمها في رجل واحد، إذ كانت تحب أمها حبا كثيرا، وتحنو عليها حين تساعدها على ارتداء ملابسها"، فمن أين جاءتها هذه البلادة الفطرية؟ إن عزيزة التي لم تعرف أبدا معنى "الأمومة" لأنها لم تنجب ولم تعش تجربة الحنو على صغير، تلقت هذا الجفاف الفطري من أمها التي ساعد كف بصرها على قصور عواطفها تجاه ابنتها. تقول الكاتبة تصف هذه العلاقة النادرة: "إن عزيزة ما شعرت بها كأم قط، لأنها ما أخذت أقل مما كانت تأخذه في نفسها (من محبة الزوج/ العشيق، ومن هداياه على السواء)، وما أعطت، أكثر مما كانت تعطيه هي أيضا، بل إنها لم تضح "أي الأم" ذات يوم بشيء، ولم تمتنع عن مطالبة نفسها بمتعة، تميزت بها عزيزة، الأكثر من ذلك أنها لا تشعرها أبدا أنها الامتداد، أو منبع السعادة والطمأنينة في حياتها، أو أمل مفترض لعمياء مثلهـا، حرمت نعمة البصر، فوجدت عزاءها في ابنة لها، تسعى لأن تبصر من خلالها ما عجزت عيناها عن الإبصار به"

ملامح القائدة

إن الكاتبة كما تحشد الظروف التي يمكن أن تجعل من ابنة وحيدة سارقة لعواطف زوج أمها، وهي ظروف لا تخلو من مبالغة تذكرنا بما أحاط به نجيب محفوظ شخصية كامل رؤية لاظ (في رواية السرداب) من عوامل الوراثة إلى ظروف الميلاد والنشأة والاستمرار لينتهي إلى ما انتهى إليه على مذهب "أوديب"، فإن الكاتبة ترد على تساؤل مفترض لا بد أن يداعب فكر القارئ، الذي يعرف بالخبرة أن مكفوف البصر- عادة- نافذ البصيرة، وأنه متحفز الأعصاب شديد التنبه ولكل ما يجري من حوله، فكيف خفي أمر هذا العشق المحرم، الذي يشهد نفسه البيت على وقائعه المثيرة الممتدة لسنوات، حتى لو كان البيت- كما في الرواية- واسعا، مستقلا؟! هنا يبدو الانحراف منغرسا في مشاعر الأم أصلا، وفي الفتاة وراثة، فماذا كانت هذه الأم تعبد ذاتها ولا تشعر بالآخرين، (بابنتها أساسا) فإن البنت ورثت عنهـا هذه العبادة للذات، وتحررت من غفلتها بإغراق أمها في هذه الغفلة، وكان البديل أنها- الفتاة- ظلت "غافلة" عن موقعها الشاذ، ومستقبلها الموءود، وحياتها الدنسة، حتى قادتها جريمتها الأولى، إلى جريمتها الأخرى، فكان.. ما- كان!!

هذه الملامح الأساسية للشخصية "القائدة" للعربة، وللرواية معا، وهي تكشف عن قدرة الكاتبة على الانتقاء للنموذج، والغوص إلى مكامن الأفكار والعواطف والشهوات، وإذا كان حشد ظروف الخطيئة أدى إلى شيء من المبالغة، فإنها ليست المبالغة الوحيدة إن "حنه" العجوز وصلت إلى الاستعانة بطقم أسنان صناعية، ونحل شعرها وارتعشت يدها، وتخشبت مفاصلها، أصبحت كما عايرها زوجها مثل (يد الهون" ومع هذا لا يزال هذا الزوج يملك طاقة القرود في طلب الجماع، ويأبى إلا أن يجردها من ثيابها حين ذاك، وهي فوق الستين!! فإلى أي مدى يمكن أن يمضي الزمن على النساء، ويتوقف- الزمن نفسه- عن إمضاء فعله على الرجال؟ فإذا أضفنا إلى المبالغة في تصوير هذين النموذجين (وهي ليست سمة عامة في تصوير الشخصيات) طريقتها في إطالة الوصف، وسلسلة الأحداث باستخدام الاسم الموصول (التي، الذي.. وغير ذلك) بإسراف، ثم إقحامها شخصيتها كراوية للأحداث، ومعرفة بالشخصيات، وهذا في ذاته لا يمثل عيبا فنيا، ولكنها تدفع إلى السياق بملاحظات، وتعليقات تناسب مستوى إدراكها هي، وتمثل أفكارها، ولا تناسب الشخصية الروائية 4 ولا تنبع منها، إن هذه "الاقتحامات"- وهي ذكية، تقدمية، واعية- كانت مثل "الرقعة" الحرير اللامعة، في ثوب متواضع من الكستور مثلا، إنها لا تزينه، ولا تستر خلله، وخير له أن يتحرر منها، وأن يكون "منه، فيه" كما تقول أمثالنا الشعبية. هذه الجوانب الثلاثة لم تنل كثيرا- على كل حال- من طرافة "العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء" واتساق شكلها، وقدرتها على الإثارة والتشويق، ثم جديتها في الغوص إلى مكامن الشر في النفس الإنسانية، ومواقع الخلل في البنية الاجتماعية.

ملاحظات فنية

ثم نتوقف أخيرا عند التكنيك، أو التشكيل الفني، وقد رأينا أن الشخصيات كلها نسائية، ويقابل هذا أنه لا وجود لرجل في الرواية، مع أن "الرجل" شاغل المرأة، رغبة فيه، أو كراهية له، أو تمردا عليه، أو حلما به.. لكن الكاتبة لم تسمح لرجل بالمثول، ولم نعرف اسم عشيق عزيزة، أو زوج حنه، أو الشاويش الذي تزوج هدى الغجرية وهجرها مع كوم لحم، أو ابن أم الخير الذي افتدته من جريمة الاتجار في المخدرات. إن هذا قد عمق الطابع السردي للرواية، أو كان نتيجة لهذا الأسلوب السردي الذي آثرته الكاتبة، فلم يؤد الحوار وظائفه الفنية المعهودة، لكنه كان إيجابيا في تأصيل التحليل النفسي للمرأة- بوجه عام- فالرجل عندها بصفته الرجولية، أكثر مما هو بشخصه المحدد، وهذا التجهيل يعني أن الرجال سواء، إن أهم ما كان يشغل عقل عزيزة المضطرب أن تفاجأ حين تستعد عربتها الذهبية للإقلاع بمدير السجن، ليس ليحول دون هذا الإقلاع المخالف للوائح، وإنما ليكون بين ركابها!!

وقد أحسنت الكاتبة إعداد المسرح لصنع الحدث وتقبله، فليلة الخطيئة الأولى بين عزيزة وعشيقها كانت الأم في مأتم شاب من الجيران ابتلعه البحر، وكانت عزيزة تطبخ القلقاس، وحين ذهب إليها الرجل في المطبخ كانت تدفع بمكبس موقد الكيروسين بكل ما تملك من قوة لتؤجج شعلة ناره!! كما كانت الحلية الذهبية التي أعجبتها لدى الصائغ طوقا على شكل حية، وبين المرأة والحية علاقة أسطورية ضاربة في الزمن، أما ليلة القتل فارتبطت بالنوة الكبرى. وتتعدد طبقات النفس في أساليب العرض، فنعرف عزيزة، وحنه في ماضيها أكثر مما نراهما في السجن، وهذا عكس "أم الخير" التي نستجلي صورة تضحيتها الماضية في سلوكها الحاضر، وأم الخير هي التي تتولي سرد حكاية عايدة الصعيدية، وتقدم لها بمعادل موضوعي من قصص الحيوان، التي لا تزال تروى في الريف كشروح للأمثال الشائعة، وإذا كانت حادثة القتل بسبب العار أنزلت بفتاة عاشقة، فإن الجنون كان نصيب أختها "شفيقة المتوولة"، وإذا كان حافز القتل الذي أنزلته الأسرة بابنتها قد تدخل فيه عامل الاختلاف في الدين بينها وبين عاشقها، فإن الكاتبة توازن بين المؤشرات بدقة وذكاء، بحيث لا نعرف تماما موقع كل من العاشقين، حتى شفيقة التي هامت على وجهها وذهلت عن كل شيء، كان اسمها قبل ذهولها "تغريد" ولا نعرف كيف اكتسبت هذا الاسم الجديد، إلا أن يكون صفة لها، وقد وضعتها المؤلفة تحت عنوان "حزن العصافير"، فكأن إجمالا شاعريا لمأساة تغريد، أو شفيقة، كما كثفت عناوين الفصول أو الأقسام الثمانية هذه الشاعرية. وقد يكفي في التدليل على مهارة الوصف وإنسانية التحليل ورهافة الشعور لدى الكاتبة أننا نعيش معها تجربة قاسية، ما بين زنازين الحبس الانفرادي، وعنبر الجرب، وعنبر العجائز، فتتحرك فينا الضمائر والمشاعر، دون احتقار أو استعلاء أو قرف، فمن كان بلا خطيئة فليرمهـا بحجر!!

على أن سلوى بكر لا تزال - فيما أرى - تحتفظ بصفحة خفية عن علاقة عزيزة بأمها، قذفت في سياق روايتها البديعة بلمحة بارقة تشير، أو قد تشير إليها، (ص 210) فهل كانت الأم تشعر بما كان بين ابنتها وزوجها، وأنها آثرت التغافل لأسباب يصعب قبولها، كما يصعب الإفضاء بها ؟!

 

سلوى بكر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات