قالوا

اللغة حياة.. طبيعة اللغة تتقدّم على قواعد الصرف

سألتُ طالبة أُشرف على إعداد أطروحتها للدكتوراه: لماذا ضممتِ ميم «مدخل» في أوّل أطروحتك؟ فأجابتني وكأنّها تريد أن تفحمني: لأنّها وردت هكذا في القرآن الكريم! لعلّها حسبتني غريباً عن الإسلام، فعاتبتها برفق، وبينّتُ تكلّفها.

والحقّ أنّ هناك ميلاً واضحاً عند بعضهم لتكلّف الاشتقاق، وجعل اللغة خادماً للقواعد، وليس العكس. ومن القواعد المعروفة أنّ اسم المكان من غير الثلاثيّ المجرّد يصاغ على وزن اسم المفعول، مثل مُدَحرَج ومُمزَّق، وهذا يحمل الكثيرين على التفنّن في اشتقاق أسماء المكان من الثلاثيّ المزيد ومن الرباعيّ والخماسيّ، ويفوتهم أنّ ثمّة ما هو أقوى من القاعدة، وهو طبيعة اللغة. ولذلك لاحظ ابن جِنّيّ أنّ اسم المكان من الرباعي قليل، ولم يذكر الخماسيّ لأنّه أقلّ. ونزعم نحن أنّ اسمي المكان والزمان من الثلاثي المزيد بالهمزة يُردّ غالباً إلى المجرّد.

أمّا قلّة أسماء المكان المشتقّة من غير الثلاثي المجرّد فسببها الأوّل هو الاقتصاد اللفظيّ، وكراهية التطويل، الذي تميل العرب إلى تركه في غير الضرورة؛ ولذلك تلجأ إلى اسم المصدر، أحياناً، بدلاً من المصدر، لأنّه أقصر، فتقول: توضّأ وضوءاً (لا توضُّؤاً)، وكذلك إلى ضروب الإيجاز بالحذف وما أشبه ذلك. وسببها الثاني تحاشي اللبس، فاسم المكان من غير الثلاثي المجرّد يلتبس باثنين: اسم المفعول والمصدر الميميّ، ولذلك وجدنا اللغويّين يختلفون في الأَسماء المشتقّة من الثلاثيّ المزيد على وزن اسم المفعول: أهي مصادر أم أسماء مكان، مثل: مُخرَج، ومُدخَل، ويرجّحون المصدريّة على المكانيّة. على حين أنّ اسم المكان من الثلاثيّ المجرّد لا يكاد يلتبس إلاّ بالمصدر الميميّ، لكون كليهما على وزن مَفْعَل، غالباً، وعلى وزن مفعِل، أحياناً. وهما مع ذلك يختلفان: فالمصدر الميميّ لا يكون على وزن مفعِل إلاّ إذا كان مثالاً واويّا نحو: وَعَدَ، على حين أنّ اسم المكان يكون على ذلك الوزن إذا كان مضارعُ فعلِه مكسور العين، سواء كان صحيحاً أو معتلاًّ، واويّاً أو غير واويّ.

أمّا زعمنا أنّ الثلاثيّ المزيد بهمزة يُردّ، غالباً، إلى المجرّد ولو كان المجرّد افتراضيّاً، أو كانت صلته المعنويّة بالمزيد ضعيفة، فالشواهد عليه كثيرة. فالعرب تقول مَقام، لمكان الإقامة وهو مَفْعَل من «قامَ» وليس من «أَقامَ»، والقيام غير الإقامة. أمّا المُقام (بضمّ الميم) فمصدر ميميّ، بمعنى الإقامة، وليس اسم مكان. والمَنار والمَنارة اسما مكان من نارَ، الذي لا دليل على وجوده في العربيّة، وإن ذَكَرتْه المعاجم، والمستعمل هو فعل أَنارَ، ولم يشتقّوا منه كلمة مُنار اسماً للمكان قطّ. ومَضجع اسم مكان لفعل ضَجَعَ غير المستعمل، والمستعمل هو اضطجع وأَضْجَع وضاجع، لكنّهم لم يقولوا مضطجَع، ولا مُضْجَع، ولا مُضاجَع.

أما إذا كان الأصل الثلاثيّ مستعملاً، فالعرب تشتقّ منه اسم المكان وتجعله يشمل المزيد، ولو على التوسّع، ولاسيّما المزيد بالهمزة. فهم يشتقّون من «لَعِبَ» اسم المَلعب، وهو مكان اللعب ومكان المُلاعبة أيضاً، لأنّ اللعب يقتضي المشاركة في أكثر الأحيان، لكنّهم لم يشتقّوا قطّ من «لاعَبَ» اسم المكان مُلاعَب، بل قالوا مَلْعب في كلّ حال. ومثل ذلك المَدْخل؛ فهو اسم المكان من دَخَل، فإذا كان هناك إدخال، جعلوا المَدخل اسم مكان له أيضاً، على التوسّع، فقالوا، مثلاً، مَدْخَل المدرسة، ولو أُدخل التلاميذ إلى المدرسة بالإكراه. أما المُدخل والمُخرج والمُنزَل في قول القرآن الكريم : وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وقوله وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا وقوله وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا ، فمصادر ميميّة، بمعنى إدخال وإخراج وإنزال.

هذا بالطبع غير زيادة التضعيف، لاسيّما إذا لم يكن الأصل الثلاثيّ مستعملاً، ولا حتّى مفترضًا، ومثال المضعّف فعل: صَلّى، الذي يخضع لقاعدة الاشتقاق من غير الثلاثيّ، فيقال لاسم المكان منه: مُصلّى، على وزن اسم المفعول. وكذلك الأمر في زيادة الاستفعال، فيقال مثلاً: مستقَرّ. ومثلها زيادة الانفعال والافتعال والتفعّل.. الخ. إلاّ أنّ اشتقاق أسماء المكان من هذه قليل.

وثمّة لطيفة لعلّها بِكر، وهي أنّ العرب ربّما اشتقت من الثلاثيّ المزيد بالهمزة، اسم مكان على وزن مَفعِل، وكأنّهم يراعون كسرة عينه في المضارع، مع إبقاء الميم مفتوحة مراعاة للثلاثيّ المجرّد، ومن ذلك: المَشْرِق، من أَشْرَقَ يُشرِقُ؛ والمَوْقِد، من أَوْقَدَ يوقِد؛ ولا دليل على زعم المعاجم وجود فعل شَرَق بمعنى أَشْرَقَ، ولا على وجود فِعل وَقَد بمعنى أَوْقَد. بل لعلّ العرب لجأت إلى لمح عين المضارع المكسورة لتمييز مثل يُشْرِقَ (بمعنى يَظهر ويبرز نُورُه)، عن مثل يَشرَق (بمعنى يغصّ بريقه).

ومعروف، أخيراً، أنّ اسم المكان قد يُشتقّ من أسماء الأعيان، وليس من الأفعال المشْبهة للفظها أو المأخوذة منها. ومثال ذلك المَشْجَر، أي المكان الكثير الأشجار، وهو مشتقّ من الشَجَر، وليس من فعل شَجَرَ؛ والمأسدة، المشتقّة من الأسد، وليس من فعل أسِد؛ والمَقْهى، في لغتنا الحديثة، من القهوة، ولا فعل لها. ومثال ذلك أيضاً المِجمر، وهو وعاء الجمر، فهو اسم مكان بصيغة اسم الآلة، مأخوذ من الجَمْر، ولا فعل له، على ما يؤكّده «اللسان»؛ أمّا المُجمَر، من أَجْمَر، فهو الثوب المُبخَّر. وهذا يشبه، في مجال آخر، النسبة بغير الياء في نحو: رَمّال ونَحّاس، أي بائع الرمل ومعالج النُحاس، فهما مشتقّتان من الرمل والنُحاس، وليس من فعلي رَمَلَ ونَحَسَ؛ وكذلك نحو: تامِر ولابِن المشتقّين من التمر واللَّبَن.

ونقيس على ذلك لفظ المَتحف، فهو من التُحفة، وأصلها، عندهم، وُحْفة فقلبت الواو تاء، وينبغي أن يكون فعلها هو وَحَف، لكن لا وجود لهذا الفعل بمعنى: أهدى طُرفة. فالقياس يقضي، على كل حال، بأن يكون اسم المكان هو مَتحف، سواء رددناه إلى الفعل المذكور أو إلى الاسم. ولا يصحّ تكلّف الاشتقاق بصيغة مُتحف، لمخالفته العادة اللغويّة الغالبة، ولأنّ ما يمكن اشتقاقه من الثلاثي المجرّد، ولو غير مستعمل، يحسن عدم اشتقاقه من المزيد؛ وقد أقرّ المجمع فتح ميم الكلمة، ولم يشأ أن يشير إلى جمعها على متاحف، وهو الصحيح، لعلّه عدّ ذلك مسلّمة.

والخلاصة أنّ العرب قلّما تشتق اسم المكان أو الزمان من الثلاثيّ المزيد بالهمزة، وممّا فوق الثلاثيّ، وهي غالباً ما تردّه إلى الأصل الثلاثيّ ولو مفترضاً، أو تقيس على الثلاثيّ ما يُشتقّ من أسماء الأعيان؛ ولهذا يحسن أن يقال مَدخل، مداخل؛ ومَتحف، متاحف؛ لا مُدخل، مدخلات؛ ولا مُتحف، مُتحفات، وألاّ تُضمّ الميم في ذلك إلاّ عند إرادة المصدر الميميّ.

 

 

 

مصطفى علي الجوزو