جمال العربية

جمال العربية

شوقي بغدادي: شاعرًا للفرح

من أين يواتينا الفرح؟ وكيف؟
وكلُّ ما يعيش فيه المبدع ويلقاه، مثير لأقصى درجات الجنون فهي الحالة الوحيدة التي تليق بصاحبها حين يرى أنه يكذب على نفسه وعلى الآخرين، وأنه يطالب الآخرين بما لا يطالب به نفسه، فكيف إذن يرقص في المآتم، ويغني في الجنازات، ويتغاضى عن الجلادين؟ ولماذا ينشغل المبدع دومًا، بمطاردة الألم العبقري، ومواكب المتاعب والإحباطات، علّها تمنحه شرارة الإبداع، وتفجّر فيه أروع ما يستطيعه من فكر وفن وكتابة؟

لماذا لا نعانق الفرح؟ ولماذا لا ندعو له؟ يقول شوقي بغدادي الحلقة الأخيرة في شجرة السلالة الشعرية الشامية الكبرى التي أنجبت بدوي الجبل وعمر أبو ريشة ونزار قباني وأمثالهم وهو يُقدم لأحدث دواوينه «ديوان الفرح»: «مادمنا على قيد الحياة وفي صحةٍ جيدة، وحريصين كلّ الحرص على أن نمدّ في بقائنا- حتى مع أوجاع الأمراض المستعْصية التي لا تطاق فهذا معناه أن معجزة الحياة بحدّ ذاتها جديرة بأن تمنحنا مسرّات لا حدود لتنوُّعها ووفرتها وما علينا سوى الانتباه لها».

شوقي بغدادي في هذا الديوان يستعيد عافيته الشعرية، ويكشف عن عمق انتمائه للقصيدة الشعرية الجديدة، باعتباره واحدًا من روادها الكبار، ويصعد بروحه في معراج شعري باذخ، إلى فضاءٍ تلتمع فيه نجوم الفرح وكواكبه، وهذا المعراج الشعري فيه ما يشبه المعجزة، وقد حقق الشاعر معجزته في قصائد هذا الديوان الذي يمثل ديوانه الرابع عشر، في سلسلة متواصلة، في مسيرة الإبداع بدأت بديوانه الأول «أكثر من قلب واحد» وبعده: «لكل حب قصة»، و«أشعار لا تُحبّ»، و«بين الوسادة والعنق»، و«صوت بحجم الفم»، و«ليلى بلا عشاق»، و«قصص شعرية قصيرة جدًّا»، و«من كل بستان»، و«عودة الطفل الجميل»، و«رؤيا يوحنا الدمشقي»، و«شيء يخصّ الروح»، و«البحث عن دمشق»، و«حدائق قديمة». وفي كل هذه الدواوين، لغة شوقي بغدادي لغة المدرس والأستاذ والمعلم - وطاقته الشعرية التي يشحب عطاؤها لعدة سنوات، فيظُن أن النبع قد توقف أو أدركه الجفاف، فإذا بهذه الطاقة تفاجئ بعد سنوات الصمت: خمس سنوات أو ستّ، بما يؤكد حيوية الشعر الجميل. وانسيابه في رهافة حينًا وفي تدفق وجيشان حينًا آخر.

وفي شعره أيضًا هذا التأثر الجميل بما أبدعه في فن القصة القصيرة وله فيه خمس مجموعات قصصية أولاها وهي «درب إلى القمة» بالاشتراك مع الآخرين، وله رواية واحدة عنوانها «المسافرة»، هذا الإبداع القصصي جعله معنيًّا بالتفاصيل والمكان والحسّ السردي، واستلهام بعض سمات الطابع القصصي في كثير من قصائده.

وابتعدت قصائده في دواوينه الأخيرة عن بعض ما شاب شعره في شبابه من نزعة إيديولوجية ضاغطة، فأصبح هذا الشعر خالصًا للنَّفَس الإنساني والوجداني، بعيدًا عن شعر الضرورة، متغنيًّا بأُفقه الحرّ، ورؤاه الروحية والكونية.

يقول شوقي بغدادي فيما يشبه المقدمة هكذا أسماها لديوانه:

كيف تُفسّر هذه المعجزة؟
أنت وحدك في شرفة دارك المقابلة للأفق الشرقي
وفي الهزيع الأخير
لا تصنع شيئًا سوى الاسترخاء وتأمل الأضواء
النائية، لمدينتك النائمة.
وبحر النجوم فوق رأسك يُمطرك بالأسرار
جسدك متماسك ومستسلم
القلب لا تُحسّ بضرباته ولكنك تثق به
وبأنك متصالح مع عضلاتك وأعصابك
عيناك في أحسن طاقاتهما على الرؤية
كلّ أجهزتك متفاهمة معك
وأنت في هذه الخلوة الخارقة مع الكون
مستغرق في عالمك الداخليّ
كما في المشهد المفتوح أمامك
وإذ بمتعة لا تُصدّق
تأخذك فُجأةً. أنّك مشارك في الاحتفال الكونيْ
لا شيء سوى أن صحتك جيدة
وأنّ معجزة الحياة في متناول وعيك السليم
وأنْ لا نازلة ولا وسواس
لا شيء على الإطلاق
قادر في مثل هذه اللحظات
أن يفسد عليك مشاركتك هذه!

ويقول شوقي بغدادي في مقدمته الشعرية الروح التي تتوهج بإيقاعها الداخلي:

كيف تصنع مع ولدٍ ضال عاد؟
وصديق مريضٍِ شُفيَ؟
ومع أصداء موسيقى ساحرة
تداعب سمعك من بعيد؟
ومع غرسة وردة ذابلة، زرعتها ولم تستجب
لعنايتك المديدة، وإذ في ذات صباح
ربيعي منعش، اكتشفت أنها تستعيد عافيتها،
وأن مشروع برعم يتشكل على أحد فروعها، كأنه
جنين يتلامح وراء بطن أمه؟
ماذا تصنع مع عشراتٍ، بل مئات من هذه
الأحداث السعيدة، صغيرة كانت أم كبيرة، تعترض
درب متاعبك وآلامك؟ هل تتجاهلها مستخفًّا
بها احتراما للألم «العبقري» أم تفرح بها،
ولماذا لا يكون للفرح كما للألم نصيب في صنع هويّتك!

وأكاد أُحسّ وأنا أطالع هذه السطور لشوقي بغدادي أنه يُلمّح إلى بيت أحمد شوقي الشهير:

تفرّدْتَ «بالألم العبقريِّ»
وأنبغ ما في الحياة الألم

وقد جاء البيت على لسان صاحب قيس في مسرحية شوقي الشعرية مجنون ليلى. وشوقي بغدادي حين يتكلم عن الألم العبقري لا يكتفي بأن يلمح إلى البيت بل هو يجهر به مصرّحًا على سبيل المعارضة!

يقول شوقي بغدادي في أولى قصائد ديوانه الجديد، وهي بعنوان «اعتذار غير متأخر»:

في غابتي
وأنا أفتش عن غزالي
هبّت روائحهُ
ومن كلّ الجهاتِ أتتْ
وحين عجزتُ أنجدني خيالي
أبصرتُه يرعى
وحين لمسْتهُ فرَّ الحريرُ
وذاب لحمٌ خائفٌ
فقنعتُ أن أصابعي مسحورة أبدًا
بغمز رشاقةٍ نَفرتْ
وذوْب نعومةٍ غاضتْ
وطيف جمال

***

في الليل،
غيرتُ الفراش، فلم أَنمْ
فشكوتُ من أرقٍ جميلٍ
كان يُلهمني
ولم أعبأ بما في الليل
من طُرقٍ، ومن ترحال
حاصرتُ نفسي بالظلام وبالعمى
وغفلت عن قبسٍ أضاء حيالي
وعن الذين تجمّعوا لمسرَّتي
وأنا أُبادلهم بسُخْفِ مِطالي
حتى إذا غبر الزمانُ وجدْتُني
لا أستعيد سواهمو في بالي
ومن الليالي كُلّها لم يبْقَ لي
إلا مجالسهُم، وبضعُ ليالي

***

في الحبّ
لم أبحث عن امرأةٍ
إذا لاقيتُها يومًا
إذن لعرفْتها
حتى إذا صادفْتُها لم أنتبهْ
فنسبْتها لسوايَ
ثم فقدْتُها
لفّقْتُ أحيانا عيوبًا
لم تكن فيها
وحين محوْتها أكّدْتُها
ومحاسنًا أُوهمْتُها
فتشكَّلَتْ
حتى إذا أنجزتُها
صدَّقْتُها
وبكيتُ حتى ظُنَّ أني عاشقٌ
وهي الدموع جميلة
فعشقتُها
آهٍ على دنيا كسرْتُ زُجاجَها
جهلاً
ولو خُيّرْتُ لاسترجعْتُها
وبنيْتُ من ذاك الحطامِ مدينةً
أو قريةً
أو غرفةً
وسكنْتُها
واليوم كلُّ سعادتي في دُميةٍ
لا تستجيبُ
فكيف لو حرَّكْتُها
والآن،
في كلِّ المآدبِ
في المعارضِ
في البساتين الثريّةِ
لا أقارنُ بين فاكهةٍ وفاكهةٍ
إذا اتفقت مواسمُها جميعا
وإذا عشقتُ
فلا أُسوّغُ شهوتي
أو عفّتي
وإذا امتنْعتُ فلن أجوعا
جسدي ذكيٌّ
حين أُطلقه يُحذّرني سريعا
والعقل، آهٍ منهُ
ما أذكاهُ منطلقًا
وما أغباهُ هيّابا جزوعا
فلأعتذر للفجرِ
لم أنهض على إيقاعهِ
متجدّدًا، مُتحوّلا
والشمس تُولدُ
لم أكنْ في حفلة الميلادِ
طائرَها الخفيفَ الأوّلا
ولديمةٍ لم أمْشِ تحت رذاذها متمهلا
ولكلّ عصفورٍ تبلّلَ
فاحتمى بنوافذٍ أغلقْتُها
لم أعترفْ بشبابها الباقي
ولا جمّلْتُها
ولأطلب الغفرانَ
من عُشب طريٍّ لم أُقبّلْهُ
ومن نبع شجيٍّ لم أُمجّدْهُ
ومن طفلٍ وحيدٍ لم أُلاعبْهُ
ومن فرْخٍ صأى في عُشّه ذُعرًا
ولم أُصبح له أمًّا
ومن أغراس لوْزٍ
شدّها من شَعْرها وحشٌ
ولم أضربْ على يدهِ
ومن بلدٍ أمينٍ
يُستبدُّ به
ولم أقرعْ له جرسًا

***

فهل فات الأوانُ على اعتذاري
أم أنّ في صُلْب الحكايةِ
أن أضلَّ وأهتدي
فأرى الهزيمة في انتصاري
وأرى انتصاري في انكساري!
هي فوق إدراكي، بلى..
لكنني من دون أن أدري
شريك في الحوارِ
وأنا الذي أضعُ التفاصيل الصغيرةَ
والجميلةَ
في كتاب الانتظارِ!

***

وفي هذه القصيدة سمات شوقي بغدادي الشعرية وملامحه: لغة تتكئ على موروث شعري قديم وجديد، وولع بالتفاصيل الصغيرة، والدقيقة، التي تنتظم فتصنع كونًا أكبر من الوعي والإحساس بالحياة والوجود، والطابع القصصي السرديّ الذي يضفي عليها بُعْدًا دراميًّا، يتكسّر في وقفاتها التي تتّسع لمونولوجات البوْح والنجوى، والإيقاع المتدفق بموسيقى الشعر والنفس معًا.

وفي قصيدة عنوانها «سجا الليل» يقول شوقي بغدادي:

سجا الليل إلا هديري
وأرجوحة في أواخر عيدي الكبيرِ
أحاول إنزال رُوحي
فيهبط منِّيَ شِلْوٌ
ولا أتناثرُ
أبقى أنا في الهزيع الأخيرِ
سأغسلُ وجهي لأصحو
ولكنني لا أكرّرُ إلا انتباه المُسافرِ
يقرأ مستعجلاً لوحةًَ في الظلامِ
تمرُّ انخطافًا
وحين يُملُّ
يميلُ إلى الخلْفِ
ثم ينامُ على مقعدٍ من حريرِ
سيحضرُ وجهُكِ
تحضرُ عيناكِ في أول الأمرِ
ثم سيفترُّ ثغرُكِ
ثم تغيبين
هل قُرِع البابُ حقًّا
وهل دخَلتْ منه سيدةٌ واختفتْ
أم يُخيّلُ لي
هل وصلْتُ
وهل هذه بلدتي
وأولئك أهلي
وهل ذلك الضوءُ بيتي
وهل هذه الشاهداتُ قُبوري
خُذي بيدي
أغلقي البابَ إن شئْتِ
أرخي الستائرَ
رُدِّي عليكِ الحجابَ
ولا تظهري
سوف يكفي نداكِ
ورائحةٌ لا تُخيّبُ ظني
وبعض الكلام الخفيفِ
وبعض النُّعاسِ
ونصفُ السّرير
سأتبعُ هذا الممرَّ الطويلَ
إلى آخرِ الشوطِ
حتى أشمَّ الأريجَ الذي سال منكِ
فَدلَّ على موسمٍ غابرٍ
لربيع قصير
سأسألُ كلَّ الذين يمرّون بي
هل رأيتم خيالا لسيدةٍ قفزت من هنا
أو هناك
وقد يسخرون
فأسخر مثلهمو من ضلالي العسير
وأرجعُ من حيثُ جئتُ
إلى مقعدٍ لم يزلْ ساخنًا
وإلى زمنٍ لم يزلْ ممكنا
لارتقائيَ آخر مقصورةٍ في الزمانِ الأخير

وصولاً إلى قوله في ختام القصيدة:

ألا إنّ هذا الصباحَ اختياري
هنا للدموع فضاءُ المآذن باذخة في السماءِ
وللضحكات بساتين غوطتنا النائمة
سجا الليلُ
ما أرحمَ الليْلَ
يغفرُ لي
ثم يمنحني كلَّ يومٍ
بطاقة رحلته الدائمة!

***

وهكذا تمضي بنا تجليات شوقي بغدادي الشعرية في أحدث دواوينه «ديوان الفرح».

 

 

فاروق شوشة