جراحة ثقب المفتاح صيحة جديدة في عالم الطب أنيس فهمي

جراحة ثقب المفتاح صيحة جديدة في عالم الطب

كما في الحياة، لا بد أن يكون هناك موقف نقدي، للأخذ بما يناسب. لهذا تقتضي الأمانة- خاصة في مواضيع العلم، وعلى الأخص فيما يمس الجسد البشري- أن تكون ساحة العرض مفتوحة للرأي والرأي الآخر. وفيما يلي مقالان في موضوع واحد هو الجراحة من خلال ثقب المفتاح. أولهما يحتفي بهذا الإنجاز الحديث، وثانيهما يتحفظ عليه. وإذا كنا نكسر قاعدة تقليدية في نشر الموضوع الواحد بقلم كاتب واحد، فإننا نؤسس لما هو أوجب.. الرأي والرأي الآخر، حتى في العلم.

المنظر في غرفـة العمليـات بأحد المستشفيـات الكبيرة يصيب المرء بـالـذهـول. الجراح لا يستخدم المبضع في عمل جروح كبيرة، ولا توجد جروح تنزف دما. لا توجد إبر كبـيرة للخياطة ولا جفوت شريـانية ولا فوط لتجفيف الـدم. كل مـا هنـاك أن الجراح يفتح فتحة صغيرة عنـد سرة البطن لا يتعدى قطـرها أربعـة ملليمترات بينما يرقد المريض على منضدة العمليات وهو يتنفس بهدوء تحت تأثير المخـدر العـام. يـدخل الجراح أنبـوبة من خـلال الفتحة عند السرة لكي يحقن من خـلالها غـاز ثاني أكسيـد الكـربـون المعقم الـذي يمـلأ البطن بالتـدريج. ومن خـلال ثلاث فتحـات إضافية يدخل الجراح ثلاثة مسابر في داخل التجويف البطني.. وظيفـة المسبر الأول أنه يوجه منظارا ضوئيا متصلا بآلة تصوير فيديو وفي نفس الـوقت يعمل كمصدر للضوء لإنـارة المنطقة المخفيـة التي تجري فيهـا العملية. وفي هذه الأثناء تكون عيون الجراح ومساعـديه موجهة إلى الشاشة التليفزيونيـة الموجودة أمامهم لمراقبـة سير العملية. وبعـد إزاحـة لفتين من لفائف الأمعـاء الدقيقة جانبا يظهر الكبد فجأة بلـونه الأحمر البني، وفي الحال تعكـس آلـة التصـويـر التليفزيونية على الشاشة صورة مكـبرة ست مرات لكيس المرارة ذي اللون الأخضر اللامـع. يستخدم الجراح بعد ذلك آلات طـويلة دقيقة ليخلـص كيس المرارة من الأعضاء التي حوله ويستعين أيضـا بمقصات دقيقة جدا تحت رقـابة تليفزيونية مستمرة. ونظرا لاستخدام مبضع كهـربـائي يجمد الـدم في الشرايين التي يجري تشريحها فإنه لا يحدث أي نزيف يذكر. بعد ذلك تغلق قناة المرارة والشريان المراري بكلبسات دقيقة بواسطة آلة تشبه الدباسة. وفي النهاية يمسك الجراح كيس المرارة بواسطة ملقاط معين ويسحبـه مع مسبر الفيديو من خلال فتحة السرة. وبعد استخراج كيس المرارة يضعه الجراح في إناء من الصلب، ويقوم بشفط ثاني أكسيد الكربون الـذي سبق أن أدخله في تجويف البطن في بدايـة العمليـة، ثم يقفل الفتحـات الأربع الصغيرة بخيوط دقيقة تحت الجلد تذوب بعـد فترة زمنية قصيرة ولا تترك أثرا إلا ما يشبه قرصة الناموسة.

وتستغرق هذه العملية من ساعة إلى ساعتين تقريبا. وفي نفس المسـاء يستطيع المريض الوقوف فترة من الزمن، وإذا جري كل شيء في مجراه الطبيعي يستطيع المريض أن يعود في منزله في ظرف يومين اثنين.

هذه باختصـار طريقة استخدام المنظار الضوئي في استئصال كيس المرارة.

بالإضافة إلى ذلك فقد استخدم المنظار في المدة الأخيرة لإصلاح الفتق الأربي وفتق الفخذ.

إن الأمور لم تصبح بهذه السهولـة إلا بعد أن اخترع هرشوتز وزملاؤه منذ ثلاثين عاما أول منظار يستخدم الألياف الضوئية بعد أن كـانت المنـاظير عبارة عن ماسورة من الصلب. وفكرة المنظار الضوئي الليفي بسيطة جـدا فهي تعتمد على إرسال الضـوء عبر ألياف معينة إلى العضو المراد فحصه حيث يصور العضو بآلة التصوير التليفزيونية ثم ترجع الصورة بوضوح إلى عين الطبيب وفي الوقت نفسه تظهـر الصورة على شاشة تليفزيونية أمامه. والمنظار مزود بمعدات حديثة تسمح للطبيب بتحريك نهايته بحرية ويمكنه ضخ ماء أو هواء أو شفط الإفرازات أو قص جزء من الأنسجة أو القيام بعملية التقطيع أو الخياطة.. إلخ. وبالطبع فإن لكل حالة، المنظار الخاص بها.

الاستخدامات المتعددة للمناظير

ظل استخدام المناظير لمدة طويلة مقصورا على الإخصائيين في الأمراض الباطنة، ولكن سرعان ما دخل الميدان الإخصائيون في أمراض النساء والجهاز الهضمي والمسالك البولية الذين بدأوا في استخدام مناظير خاصة بهم. وقد أمكن أيضا باستخدام الآلات المناسبة أن تجرى عمليات صغيرة خلال جدار البطن مع الانتفاع بتقنية المناظير، مثل استخراج عينات من الأنسجة المريضة لفحصها من الناحية الباثولوجية حتى يستطيع الطبيب التشخيص المبكر للسرطان. ومنذ التطور السريع الذي حدث في تقنية الفيديو مما أمكن معه تكبير الصورة التي يحصل عليها المنظار عدة مرات وإظهارها على الشاشة بألوان دقيقة وبتفاصيل مذهلة، فوق جراحي العظام دخلوا الميدان أخيرا وأصبحوا يستخدمون المناظير في علاج المفاصل المريضة وخاصة مفصل الركبة.

وفي السنوات الأخيرة لجأ جراحو المخ والجهـاز العصبي إلى استخدام المناظير داخل العمود الفقري وفراغات الرأس لإجراء جراحاتهم في هذه المناطق.

استئصال الزائدة الدودية

من الأشياء الطريفة التي حدثت أن إخصائيا ألمانياً في أمراض النساء يدعى كورت زيم اكتشف بالمصادفة حالة التهاب حادة بالزائدة الدودية أثناء فحص إحدى مريضاته بالمنظار في عام 1980 فلم يتوان عن استئصال الزائدة باستخدام مسبرين. وكانت هذه أول عملية في العالم لاستئصال الزائدة الدودية من خلال "ثقب المفتاح". وقد نجحت العملية نجاحا كاملا وعادت المريضة إلى منزلها بقطعة صغيرة من المشمع اللاصق على الجزء الأيمن الأسفل من بطنها! ومما ساعد كورت زيم على إجراء هذه الجراحة الرائدة أنه كان قد تدرب في شبابه المبكر على الأعمال الدقيقة في الهندسة الميكانيكية وأصبح قادرا على أن يصنع بنفسه معظم الآلات الدقيقة التي يستخدمها في جراحاته.

وقد أصبح الإخصائيون في أمراض النساء يستخدمون المناظير حاليا في إزالة أورام الرحم والمبيض وتسليك الأنابيب وفك الالتصاقات، كما أصبح جراحو المسالك البولية يستخدمون المناظير في استئصال أورام البروستاتا وأورام المثانة واستخراج حصوات المسالك البولية.

الصورة ذات الأبعاد الثلاثة

لم يقنع العلماء الألمان بالحصول على صورة ذات بعدين لأعضاء جسم الإنسان على الشاشة التليفزيونية أثناء استخدام المناظير، فاتفقوا مع إحدى الشركات المتخصصة على تطوير آلات التصوير المستخدمة في هذا المجال، وفعلا اخترع أول جهاز فيديو صغير جداً يحقق حلم الجراحين بالحصول على صورة ثلاثية الأبعاد على الشاشة التليفزيونية. ويحتوي هذا الجهاز على آلتي تصوير دقيقتين تقلدان أفق الرؤية للعين الإنسانية داخل جسم المريض. والصورة المنبعثة من هاتين الآلتين تعكسان بالتبادل على الشاشة التليفزيونية بمعدل خمسين مرة في الثانية. وباستخدام نوع معين من النظارات يستطيع الجراح أن يرى صورة ثلاثية الأبعاد كاملة الوضوح دون أي اهتزازات.

والآن فإن أعضاء الفريق الذي نجح في تحقيق الصورة ذات الأبعاد الثلاثة يحلمون باختراع مجسات ذات حساسية إلكترونية لكي تعوض الجراح عن عدم استخدام حساسية يديه أثناء إجراء العمليات بالمنظار، كما يحلمون أيضا باختراع إنسان آلي (روبوت) يمكن تحريك رأسه خلال ثلاثة محاور مع الآلات الدقيقة المستخدمة. إن هذه الآلة التي يمكن تشغيلها من بعد "بالريموت كونترول" يمكنها أن تشفط وتنظف، وتقطع، وتدبس وتخيط عن طريق المنظار تبعا لإرادة الجراح.

إن العلم والتكنولوجيا يتقدمان بطريقة القفز العالي الطويل ولا شك أن السنوات القادمة ستتحفنا بكل غريب ومذهل في ميدان الطب والعلاج للتخفيف من عذابات الإنسان وآلامه.

 

أنيس فهمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





صورة عبر عدسة المنظار لعملية استئصال غدد ليمفاوية بالحوض