"العربي" تقتحم بحار الجليد من أوربا إلى اليابان

   هذه رحلة نادرة تقوم بها "العربي" للمرة الأولى.إنها تأخذ قارئها إلى مجاهل القطب الشمالي حيث تنفرد بتصوير هذه الرحلة التي قامت بها إحدى سفن الأبحاث كي تعيد اكتشاف الطريق الذي كان مجهولا في أعماق الجليد، والذي أغلقته السلطات السوفييتية لمدة 66 عاما.إن قائد السفينة يروي هذه المغامرة التي بدأت من أحد الموانئ الأوربية في رحلة إلى اليابان تقل 13 يوما عن الطريق التقليدي عبر قناة السويس.

خريطة الرحلة

بدأت الرحلة من مدينة لوهافر الفرنسية. وكانت مدينة "مورنسك" هي أول مدينة سوفييتية تصل إليها الإسطرلاب. ثم واصلت رحلتها إلى مدينة إيغاركا بالقرب من القطب المتجمد ثم خاضت في مجاهل ألاسكا حتى مدينة هاكودات اليابانية حيث نهاية الرحلة. وعلى اليسار نرى سفينة الإسطرلاب وهي تخترق بحار الجليد.

صبيحة السابع والعشرين من يوليو (تموز) الماضي أبحرت من ميناء مدينة لوهافر الفرنسية السفينة القطبية "الإسطرلاب" ووجهتها ميناء مورمونسك.المحطة الأولى على طريق الشمال الجليدي في محيط القطب الشمالي السوفييتي، حيث تتوالى وتتداخل بحور من مياه وأخرى من جليد ومصبات أنهار تنبع من العمق السيبيري لتمتد في المحيط المالح ألسنة من ماء عذب.

وراء الدفة القبطان ألكسندر فايزر يديرها الهوينى في الأطلسي الذي كان هادئا منبسطا هذا الصباح الصيفي تتراقص على صفحته المتموجة أشعة فضية كأنها تنعكس على ملايين المرايا المهشمة على خلفية الأزرق الداكن منبعثة من شمس كأنما تشرق من قاع لا يعرف منتهاه.والقبطان الذي اعتاد أن يمخر جليد القطب الجنوبي يعرف أن أياما صعبة تنتظر "الإسطرلاب" بعد أيام، حين يلتقي الماء بركام لامتناه من جليد شمالي أشد صلابة وأضخم أطوافا من الجليد الجنوبي، ويعرف أن غيره يمسك بالدفة حينذاك. ومع ذلك يشعر القبطان الفرنسي بغبطة المقدم على استكشاف لم يسبق إليه.. ألن تكون "الإسطرلاب" أول سفينة غربية تعبر طريق الشمال الجليدي هذا الموصل بين أوربا واليابان للمرة الأولى منذ 66 عاما؟.

على متن "الإسطرلاب" بعض من طاقمها وستة يابانيين من تلفزيون "أساهي" طوكيو وسيمبون، وفرنسيان أحدهما مصور ونحات والآخر مصور تلفزيوني، وصحفية ستكون أول امرأة فرنسية تعبر طريق الشمال السيبيري هي ناتالي غوران.

وسط هذا الجمع رجل في الحادية والثلاثين يكاد لا يتمالك تنقلا وأحاديث كأنما يبحث عبر الحركة الدائبة عن توازن خارجي لما يضطرب في داخله من مشاعر الظفر والترقب والتشوق إلى اكتمال هذه الرحلة الحلم، التي راودته منذ أشهر وها هي ترتسم.

حقيقة لا تني تتشكل على صفحة الأطلسي التي تنطوي طيا لينا حاسما، تقدمت الإسطرلاب ميلا نحو مورمونسك حيث تبدأ المغامرة الكبرى.

هذا الرجل بيار سوفاديه رئيس جمعية بحار مغناطيسية وقائد هذه البعثة والمخطط لها. والحالم الشاب بالإبحار في محيط القطب الشمالي تدفعه إلى حس المغامرة غاية شد ما يتعلق بها أمثاله من أنصار حماية البيئة وهي استكشاف مدى التلوث في جليد هذا القطب الذي سيشكل ونظيره الجنوبي رئتي العالم البيضاوين. وبات هذا الحلم أيسر منالا منذ أعلن الرئيس ميخائيل غورباتشوف في عام 1987 أن طريق الشمال القطبي هذا الموصل بين أوربا والشرق الأقصى والذي أغلق عام 1922 سوف يفتح أمام الملاحة الدولية عندما تتحسن ظروف العلاقات السوفييتية مع الغرب.

وراء هذا الحلم سعى بيار سوفاديه لتوفير الإمكانات المادية المطلوبة والحصول على إذن من السلطات السوفييتية بالعبور، فكان أن وفق في ذلك كله بعد جهد وصبر طويلين. وفي صبيحة الثاني من سبتمبر (أيلول) الماضي كانت "الإسطرلاب" ترسو في ميناء هاكودات الياباني على شواطئ الهادي حيث أعد لركبها استقبال يليق بأبطال الرحلات الاستكشافية البحرية في الماضي.

لدى عودة بيار سوفاديه إلى فرنسا كانت "العربي" تنتظره على موعد في باريس ليروي وقائع هذه الرحلة الفريدة، والأهداف الكامنة وراءها وحصيلتها. وكان اللقاء في حضور ناتالي غوران أول فرنسية تعبر طريق الشمال القطبي.

في البدء، يقول سوفاديه: كنت من هواة الإبحار في المراكب الشراعية، وكنت قد تخرجت للتو في مدرسة الفنون الجميلة رساما. ثم كان الميل إلى المحافظة على البيئة تذكيه رحلات ودراسات نظرية وميدانية حتى انصرفت إليه كلية مختصا في مجال المحيطات. ولقد قادني الترحال إلى اليابان حيث التقيت في جامعة أوكايدو أساتذة وباحثين في علوم المحيطات وبالتعاون معهم أنشأت جمعية "بحار مغناطيسية" لتشجيع الرحلات إلى القطب الشمالي. وفي مطلع العام الماضي بدأنا وضع دراسات لتصميم سفينة جديدة تعمل بالأشرعة وبمحرك عادي في آن. لماذا؟ لأن البحث في القطب الشمالي عن مدى التلوث البيئي يفترض الحفاظ على نقاوة الأجواء هناك، إذ إن أي مادة ملوثة تصدر عن سفينة عادية أو نووية تؤثر مباشرة في العينات الجليدية أو المائية موضع الاختبار! وكنت في صدد البحث عن تمويل لصنع تلك السفينة عندما طرأت فكرة القيام أولا برحلة استكشافية إلى القطب الشمالي وخصوصا في أجزائه السوفييتية المحجوبة عن العالم الخارجي منذ عشرات السنين. فكان أن طرحت الفكرة على مجمع صحفي وتلفزيوني ياباني هو "أساهي" فوافق المسئولون على دعم الرحلة وقدموا مليوني فرنك لهذا الغرض في مقابل اصطحاب فريق تلفزيوني لتصوير أفلام وثائقية عن القطب الشمالي.وفي باريس سعيت إلى استكمال تكلفة الرحلة ووجدته لدى الشركة الوطنية للملاحة التي أسهمت بمليون و 400 ألف فرنك، وقدمت لنا "الإسطرلاب" إحدى سفنها العاملة على تزويد القواعد الفرنسية في القطب الجنوبي.

منافسة طريق السويس

في غضون ذلك التقيت الباحث الفرنسي "لولي جولي" المختص في جيولوجيا القطب الشمالي وكان يجري دراسة عن المردودية الاقتصادية للملاحة الدولية من أوربا إلى اليابان عبر الطريق الشمالي الشرقي المار في الأجزاء السوفييتية من محيط القطب الشمالي. كان جولي يعتقد أن هذا الطريق قد يصبح منافسا لطريق قناة السويس لأنه يختصر المسافة الزمنية للرحلة من أوربا إلى اليابان بنحو 13 يوما. ولقد ذكرت له أن النرويجيين وغيرهم أجروا دراسات من هذا النوع وتبين لهم أن المنافسة مستحيلة، لكن أحدا لم يختبر الطريق القطبي عمليا، وانتهيت إلى إقناعه بالاشتراك في الرحلة لكي يتحقق ميدانيا من جدوى مشروعه، وهكذا كان.

الضوء الأخضر

بقي الحصول على إذن السلطات السوفييتية لإنجاز الرحلة. مهمة شاقة تطلبت قيام "بيار سوفاديه" برحلات عدة إلى موسكو ومورمونسك بدأت في إبريل (نيسان) وتخللتها مفاوضات ومداخلات كثيرة لإقناع المسئولين السوفييت الذين أبدوا الكثير من الحذر والشكوك حيال الأهداف الحقيقية لهؤلاء الأجانب الذين يبدون هذا الإلحاح الشديد على اختراق منطقة محظورة على العالم الخارجي منذ عام 1922.

وكان أشد ما يقلق السوفييت احتمال قيام البعثة بتصوير مواقع عسكرية حساسة تنتشر على طول السواحل السيبيرية القطبية، وإجراء بحوث علمية حول الثروات التي تختزنها مناطق الشمال القطبي، إلى جانب مخاوف أخرى كان لا بد أن تمضي أشهر أربعة لتبديدها بعد طول تحر واستقصاء. ويذكر سوفاديه أن السوفييت رفضوا في هذه الأثناء السماح لسفينتين قطبيتين بالمرور عبر طريق الشمال إحداهما سويدية والأخرى كاسحة جليد ألمانية.

وفي مطلع يوليو (تموز) جاء الإذن السوفييتي إلى "الإسطرلاب" التي كانت تنتظر الضوء الأخضر في ميناء لوهافر. وفي السابع والعشرين منه كانت الاستعدادات قد اكتملت على متن السفينة القطبية واستقر عليها فريق التلفزة الياباني وأعضاء البعثة الفرنسية، وتم تجهيزها بسار ومعدات خاصة للاتصال بالقمر الاصطناعي الأوربي (آر.سي.1) المخصص لجمع المعلومات عن القطب الشمالي والذي لم تمض سوى أيام قليلة على إطلاقه.

في مورمونسك

الطريق إلى مورمونسك كانت هادئة ومريحة، يقول سوفاديه: عرجت في أثنائها "الإسطرلاب" على ميناء ترومسو لكي ينضم إلى ركبها نرويجيان أحدهما صحفي والآخر باحث يعملان مع لوي جولي الذي طار إلى مورمونسك ليلتحق بالبعثة لدى وصولها إلى ميناء هذه المدينة السوفييتية الواقعة عند الطرف الجنوبي للمحيط السيبيري في الثالث من أغسطس (آب) صباحا.

في مورمونسك توقفت الإسطرلاب ثلاثة أيام لإجراء المفاوضات الأخيرة مع السلطات العسكرية السوفييتية قبل السماح لها بالاندفاع نحو الخضم الجليدي. وقد وافقت البعثة على جملة شروط وضعتها تلك السلطات تقضي بعدم القيام بأي بحوث علمية في المنطقة القطبية، وتحديد مسار معين للرحلة لا ينبغي الخروج عنه، والامتناع عن التصوير إلا في مناطق محددة سلفا.

ويروي بيار سوفاديه أن سلطات المدينة فرضت على البعثة استئجار طائرة مروحية مع قائدها واثنين من فني الصيانة لكي يستخدمها فريق التلفزيون الياباني لتصوير الإسطرلاب في أثناء الرحلة، كذلك انضم إلى الفريق أربعة سوفييت آخرون هم مسئول في إدارة طريق الشمال البحري، وقبطانان مختصان بالملاحة في الجليد، ومترجمة.

وما عدا ذلك - يضيف سوفاديه - فقد لقينا استقبالا طيبا في مورمونسك حيث أعدت السلطات مؤتمرا صحفيا تدليلا على الرغبة في الانفتاح على الغرب، وأبدى المعنيون السوفييت اهتماما كبيرا بوجود صحفيين من جنسيات مختلفة في عداد البعثة، وأظهروا إرادة فعلية لفتح طريق الشمال القطبي أمام الملاحة الدولية خلال أربعة أشهر في السنة تكون الملاحة أثناءها أسهل حيث تقل البرودة إلى ما بين درجتين وثلاث درجات تحت الصفر وتذوب أجزاء كثيرة من الكتل الجليدية، على حين تنخفض الحرارة إلى 40 درجة تحت الصفر في الفصل الشتائي ويغطي الجليد معظم البحار ويقسو ويتكاثف بحيث يتعذر اختراقه إلا بالكاسحات العملاقة العاملة بالطاقة النووية، وبعد ثلاثة أيام تخللتها زيارات سياحية للمدينة وجوارها، أقلعت الإسطرلاب مساء السادس من أغسطس (آب) في اتجاه ايغاركا.

فضاء رصاصي رتيب

من مورمومنسك - يتابع سوفاديه - بدأت الرحلة الطويلة إلى مدينة إيغاركا على بعد 800 كيلو متر داخل العمق السيبيري. وعلى مسافة 500 ميل في بحر بارنيتس كانت تتوالى مشاهد في غاية الرتابة، السماء محجوبة بضباب لا يريم، والبحر محفوفة أطرافه بحاشية من أشعة تنبعث في حواف الأفق مصدرة التماعات فضية تغطي صفحة الماء التي تعكسها متشابهة على وتيرة بطيئة لا تتغير، لا نسمة ولا موجة، بل سكون خالص في فضاء رصاصي مطبق.

ولم يظهر الجليد إلا عند مضيق كارا تحت هلال جزيرة زامبي الجديدة، لكنه سرعان ما يتلاشى قرب مصب نهر "أوب" حيث يدفع مياهه الحارة في بحر قارا. وفي صعوبة وبطء تأخذ "الإسطرلاب" يقودها بالتناوب القبطانان السوفييتيان صعدا في مصب نهر "ينيساي" قاصدة حوض إيغاركا، وعلى مد النظر من الجانبين يمتد سهب مسطح حقيقي أجرد إلا مما يظهر فيه متفرقا من نبات صخري نزر.

على الضفاف، تقول ناتالي غوران، تظهر من حين إلى حين معسكرات كئيبة كأنما تقوم من فراغ، وتجمعات من أكواخ بائسة لا يزال يسكنها أبناء المنفيين المحكومين في عهد ستالين، كما قيل لنا في إيغاركا. هؤلاء يعيشون من تجارة بخسة مع المراكب العابرة ومن صيد الأسماك وقنص الطيور والحيوانات في البر. في مناخ قاس متفاوت البرودة على نحو مفاجئ حين تبذل فصلي الصيف، حيث الحرارة بين 3، 4 درجات تحت الصفر وقت الرحلة، والشتاء إذ تنحدر حتى الأربعين تحت الصفر. وهذا التبدل الحاد يحدث في الصيف من ذوبان الجليد مكونا مستنقعات كبيرة تتوالد فيها أصناف البعوض.

وفي 12 آب (أغسطس) ألقت الإسطرلاب المراسي في حوض إيغاركا التي انتقلنا إليها بالمراكب إذ لا ميناء لها.

مدينة المنفيين وأحفادهم

ويكمل سوفاديه: ياله من مشهد كئيب ومن مدينة تبعث على الأسى والنفور، أبنيتها المبنية طبقات من "باطون"، متآكلة، كل شيء فيها يحكي مآسي المنفيين إليها منذ أيام ستالين الذين بنوها بأنفسهم ومارسوا كل أنواع السخرة في هذا الصقيع النائي في عمق سيبيريا، 90 ألفا من هؤلاء قضوا في إيغاركا بالإضافة إلى 120 معتقلا في عهد ستالين.

ولا تزال مدافن هؤلاء قائمة على أطراف إيغاركا ذكرى ماض مدلهم لا يزال يجثم على المدينة الكئيبة شبحا من تعاسة تقرأ على الجدران وفي الشوارع المهملة وفي عيون الناس وسلوكهم وأحاديثهم. وفي تلك المدافن يرقد آلاف المسخرين في بناء "قطار الموت" ذاك الذي أريد له أن يربط إيغاركا بساليخار عند مصب الأوب ولم يستخدم قط. أبناء هؤلاء الضحايا وأحفادهم هم الذين يسكنون اليوم مدينة البؤس والخراب هذه المتروكة لمصيرها من قبل السلطات المركزية النائية في موسكو.

كان في استقبالنا حشد من شخصيات إيغاركا وموظفيها تتقدمهم رئيسة البلدية التي رحبت بنا باسم الحكومة السوفييتية. والحق أن الترحيب كان حارا - يؤكد سوفاديه - وكذلك الدهشة ومشاعر الفرح برؤية أول مجموعة من الأجانب تدخل إيغاركا منذ عام 1962 عندما رست قبالتها سفينة شحن ألمانية جاءت لتنقل كمية من خشب المنطقة لاستعماله حطبا. قمنا بجولة في المدينة التي تضم 25 ألف نسمة يقيمون في مبان من بضع طبقات على الطريق الستالينية المعروفة، متشابهة تماما في هندستها واهتراء ألوانها وبرودة باطونها وألوانها الباهتة المهترئة طينا وجدرانا وأبوابا ونوافذ، وهناك الكثير من البيوت الأكواخ. وصادفنا صبية في بعض لهوهم ورأينا الدهشة في عيونهم إذ ينظرون إلينا كأننا كائنات من عالم آخر.

حدثنا مستقبلونا عن تطلعاتهم إلى الانفتاح على العالم الخارجي بفضل البيريسترويكا، هذا العالم الذي يأملون أن تصلهم به طريق الشمال عندما تقرر السلطات السوفييتية فتحها أمام الملاحة الأجنبية.وشرحت لنا رئيسة البلدية بعض المشاريع التي تعتزم البلدية تنفيذها لاستقبال السياح والمسافرين. وعرضت علينا القيام برحلة في الهليوكبتر لكي نتعرف على المناطق الداخلية.

استغرقت الرحلة نحو ساعتين، تقول ناتالي غوران، وتوغلت الهليوكبتر حتى مسافة 250 كيلو مترا في الداخل، توقفنا خلالها مرتين.المناظر متنوعة إلى حد ما، إذ تتخلل تلك المناطق سهوب وغابات التوندرا وهضاب وأودية رأينا فيها بحيرات، ومستنقعات متولدة من ذوبان الجليد، وقرى صغيرة متناثرة يقطنها صيادون.

ورأينا قطعانا من الرنة تربيها وترعاها قبائل متنقلة، غير أننا لم نتبادل معهم الأحاديث، وزرنا سلسلة من الشلالات مدهشة، قال لنا مرافقونا إنهم يأملون أن تكون متنزها سياحيا ذات يوم.

أمضينا 36 ساعة في إيغاركا- يقول بيار سوفاديه- وغادرنا هذه المدينة التي تحلم للمرة الأولى بالتخلص ولو قليلا من وطأة ماضيها الثقيل مساء الثالث عشر من أغسطس (آب) ووجهتنا مدينة بروفيدانيا في أقصى المحيط القطبي السوفييتي، أخذنا مرة ثانية في مصب "ينيساي" حيث طالعنا أوائل الأطواف الجليدية وقبالة جزيرة ديكسون في بحر كارا بدأت الصعوبات.. وهناك كانت تنتظر "الإسطرلاب" كاسحة الجليد السوفييتية المسماة "كابتن دراينتسين" التي تعمل بمحركات ديزل تقليدية بقوة 225 ألف حصان وقد أرسلتها شركة "مورمونسك سينغ" التي تسيطر على أسطول كاسحات الجليد في القسم الغربي من القطب الشمالي السوفييتي. ومنذ تلك اللحظة بدأ الدخول الصعب في المحيط الجليدي، وأخذت الكاسحة تشق الجليد محدثة ممرا ضيقا لا يكاد يتجاوز عرض "الإسطرلاب" في مسير بطيء تراوح سرعته ما ببن ثلاث وثماني عقد بحسب الظروف، وصبيحة 16 أغسطس (آب) لحقت بالإسطرلاب سفينة سوفييتية لنقل غاز الميثان منتهزة الفرصة لتسير في المجرى الذي شقته "الكابتن دراينتسين"، وفي تلك الأثناء كانت تتعاقب أطواف الجليد والفتحات المائية إلى أن تفاقم الجليد وطغى. وحدث أن جنحت ناقلة الميثان عن المجرى وحوصرت بين أطواف الجليد وكان لا بد من نجدة. وفي الحال تم الاتصال بالشركة السوفييتية التي أرسلت الكاسحة "روسيا" التي تسير بالطاقة النووية بقوة 75 ألف حصان فحررت الناقلة وانضمت بدورها إلى قيادة القافلة في صحراء الجليد الذي ازداد قساوة عند بلوغ مضيق "تشليوسكين" المفضي إلى بحر لابتيف. وفي وقت لاحق انضمت إلى طليعة القافلة كاسحة جليد ثالثة هي "أركتيكا" العاملة بالطاقة النووية وأقوى كاسحات شركة مورمونسك، وفي أثر الكاسحات الثلاث وبسرعة 10 إلى 11 عقدة سارت "الإسطرلاب" مطمئنة.

كان هذا استعراضا بليغا للقوة، يوضح بيار سوفاديه، ورسالة من السوفييت واضحة أبلغونا إياها لنبلغها (طبعا) إلى غيرنا، وهنا ينبغي أن نفهم جيدا ماذا يعني طريق الشمال القطبي في نفسية السوفييت الذين يريدون فتحها أمام الملاحة الدولية. إنها طريق مرسومة منذ زمن بعيد ومدونة بوضوح في الخرائط الملاحية وهي سالكة على ما يرام.. للسوفييت وحدهم وحتى إشعار آخر ما على الراغب في اجتياز هذا الطريق من الأجانب إلا أن يعمل بالتوجيهات التي تقدمها السلطات السوفييتية مصحوبة بالخرائط: يمنع منعا باتا الاقتراب من الساحل أو اللجوء إلى المرافئ القليلة الموزعة على طول الطريق، فالمنطقة مقفلة لأسباب استراتيجية وهي تأوي مراكز عسكرية حساسة جدا. إن أسطول الكاسحات السوفييتي وحده الذي يؤمن سلوك هذه الطريق للراغبين وتاليا لقاء أجر معلوم. ولقد تم إنشاء بنية تحتية متكاملة لدعم إرادة فتح هذا الطريق أمام الملاحة الدولية: طائرات تجوب أجواء المناطق القطبية في استمرار لالتقاط الصور المناخية ورصد التقلبات الجوية، ومراكز أرضية لتلقي المعلومات ودراستها وبث الإرشادات إلى السفن العابرة.

البداية من الصفر

ولا يسمح السوفييت للأجانب بإجراء بحوث في المحيط لأنهم على معرفة عميقة بما تختزنه تلك المناطق من ثروات ومعطيات علمية، وهم ينتظرون الوقت الملائم لتبادل بعض هذه المعلومات مع الغرب في مقابل تعاون أوسع علميا واقتصاديا ويضيف سوفاديه: إن السوفييت خبراء ممتازون في علوم المحيطات، وهم وحدهم المطلعون على أوضاع الأجزاء العائدة لهم من محيط القطب الشمالي، في حين أن الأجزاء الأخرى من ناحية غرونلاند والتابعة لكندا والمتصلة بآلاسكا يتوافر للغرب من معطياتها الكثير مما يعرف بعضه السوفييت. لكن الغرب إذا أراد أن يستكشف الأجزاء القطبية السوفييتية وحده فعليه أن يبدأ من الصفر. وعلى ذلك لا بد أن يؤدي الانفتاح في الاتحاد السوفييتي والتطورات الأخيرة فيه إلى تبادل للمعلومات عن القطب الشمالي يتيح معرفة أوسع ومشاركة حقيقية في البحوث القطبية، لأن هذا يهم العالم كله ولا سيما لناحية الحفاظ على البيئة.

منذ دخلنا بحر الجليد هذا لم نخرج منه إلا بعد مضيق "تشليوسكين"، تقول ناتالي غوران، وانضمت إلى القافلة سفن سوفييتية أخرى بعضها ينقل الفحم الحجري والأخشاب وبعضها الغاز والنفط، وأمضينا أياما في عرض الجليد بعيدا عن السواحل بعشرات الأميال تبعا للشروط التي وضعتها السلطات العسكرية السوفييتية. كانت الشمس في إشراق شبه دائم إذ لا يتعدى غيابها أن يكون حمرة في نهاية الأفق ما يلبث أن يتحول إلى أشعة فضية تغمر المحيط الأبيض وتتولد من كل ذلك تموجات ضوئية رتيبة لكنها أخاذة - تضيف ناتالي المعتادة على جليد القطب الجنوبي مبدية الأسف لأنها لم تتمكن من السير على جليد القطب الشمالي - هذا كما كانت تفعل في رحلاتها السابقة إلى غرونلاند. ولم تظهر عبر الرحلة كلها حيوانات بحرية لأن المجرى المائي الذي تشقه الكاسحات وتعبر فيه الإسطرلاب ضيق وسرعان ما ينغلق بتجمع الجليد ثانية إثر القافلة. وتذكر ناتالي أنها رأت دبا واحدا أبيض قبيل الوصول إلى بروفيدانيا.

وكيف تجري "الحياة على متن الإسطرلاب؟ كل ينصرف إلى عمله، فريق أساهي يصور، وأفراد البعثة الفرنسية يمضون في تسجيل ملاحظاتهم وانطباعاتهم، وأحدهما: جاك ببارسان روك، النحات، يصنع جزءا من سلسلة صلصالية تمثل مراحل الرحلة راسما تغيير أحوال البحر والجليد والمسالك عبر المضائق. ويتخلل ذلك طبعا تناول وجبات الغذاء، وفي أوقات الفراغ يعمل كل ما يحلو له، فاليابانيون مثلا ينامون كثيرا، أما السوفييت فإلى الفودكا والغناء، وأحيانا يفرطون في الشرب لكنهم غير مزعجين.

في هذه الأثناء - يقول سوفاديه - تمت تجربة الاتصال مع القمر الاصطناعي الأوربي المخصص للقطب الشمالي الذي أطلق في 17 يوليو (تموز) ونجحت التجربة نجاحا خالصا، تبادلنا المعلومات والصور عبر الأجهزة التي تم تركيبها في الإسطرلاب قبل الانطلاق. وفي بعض الطريق، يقترح قبطان الإسطرلاب السوفييتي على البعثة ملاقاة "سوفيتسكي سويوز" أحدث كاسحة جليد سوفييتية تعمل بالطاقة النووية، وكان هذا تأكيدا لعرض القوة السابق، يقول سوفاديه مضيفا: كم كانت دهشتنا كبيرة عندما رأينا على متن "سوفيتسكي سويوز" التي كانت عائدة من القطب حيث كانت تقل في الثاني من أغسطس (آب) 80 سائحا من 15 جنسية. وعلمنا أن وكالة سياحية "أنكلوساكسونية" استأجرت الكاسحة لهذا الغرض. وكانت تكلفة هذه الرحلة 30 ألف دولار للسائح الواحد عدا تذاكر الطائرة.

فوضى وضياع

بعد الزيارة التي استغرقت ساعتين على متن "سوفيتسكي سويوز" تقدمت هذه القافلة شاقة أمامها جليدا متكاثفا استمر حتى اجتياز الممرات المحاذية لجزر نوردنسكود في أقصى غرب القارة الآسيوية ليصبح الطريق حرا حتى جزيرة ورانجل.

في غضون ذلك حدث الزلزال السياسي الذي هز العالم في 19 أغسطس (آب) يوم الانقلاب على غورباتشوف وقد تلقت الإسطرلاب النبأ متأخرا يومين في اتصال هاتفي عبر القمر الاصطناعي الأوربي وتولى سوفاديه نقله إلى المترجمة السوفييتية التي نقلته إلى مواطنيها لتعم الإسطرلاب الفوضى والضياع والاضطراب.

كان للنبأ وقع الصاعقة - يقول سوفاديه - على مرافقينا السوفييت وعلى أفراد البعثة، فقد خشينا ونحن في عرض بحر لابتيف ألا تكون السلطات العسكرية في المنطقة قد تلقت خبر قدومنا أو أن تصدر من موسكو أوامر بوقف الرحلة أو ألا يسمح لنا بالخروج من المياه الإقليمية السوفييتية في تلك المنطقة النائية حيث العديد من المواقع العسكرية. وأما السوفييت فقد انتابتهم الحيرة والخوف وكانوا يصرحون لنا بأنهم يخشون على عائلاتهم إذا ما تطورت الأمور نحو المواجهة العسكرية بين مؤيدي الانقلاب ومعارضيه. ولكن وراء هذه المخاوف ماذا كانت المواقف الحقيقية من الانقلاب؟ تلك معضلة - يقول سوفاديه- لأن أيا من مرافقينا السوفييت لم يفصح عن حقيقة مشاعره وكانت عباراتهم في منتهى الغموض وتعليقاتهم عليه لا تقول شيئا مفهوما، لكن سلوكهم تغير وبدوا في غاية الاضطراب والشعور بالقلق ولكن الوضع ما لبث أن انفرج بعد أيام عندما تأكد فشل الانقلاب وأعرب الجميع فجأة عن عداء صريح للانقلابيين. وفي غضون ذلك تلقت البعثة اتصالا من السلطات العسكرية في المنطقة مطمئنا لجهة استمرار الرحلة ولكن مع إلغاء إذن صادر عن وزارة الدفاع يسمح للبعثة بالتحليق في الهليكوبتر فوق جزيرة ورانجل والتصوير. ولدى اقتراب الإسطرلاب من تلك الجزيرة عاد البحر جليدا والمسالك بين أطوافه صعبة ولكن "سوفيتسكي سويوز" شقت طريقها دونما كبير جهد حتى ما بعد كاب سميث. ومن هناك دخلت الإسطرلاب مضيق بيرنغ مخلفة وراءها الجليد نهائيا.

محطة "العناية الإلهية"

صباح السادس والعشرين من أغسطس (آب) رست الإسطرلاب في ميناء "بروفيدانيا" المحطة الأخيرة على طريق الشمال السيبيري. مدينة كئيبة لا شيء فيها يدل على اسمها ومعناه "العناية الإلهية" والمفارقة الكبرى أنها مدينة بنيت في أوائل الحكم الشيوعي لإقامة المنفيين والمحكومين وهي عامرة اليوم بأبنائهم وأحفادهم، وعلى مقربة منها قاعدة عسكرية، ويروي سوفاديه أن القبطان السوفييتي الذي كان يقود الإسطرلاب قال فجأة ومن دون سؤال وهو يهم بالنزول إلى الرصيف مع الآخرين "لا يولد المرء في بروفيدانيا ولكن فيها يموت" ولم تمكث البعثة في هذه المدينة سوى سبع ساعات لقيت خلالها استقبالا باردا من قبل المسئولين. وتبين أن السلطات العسكرية في "بروفيدانيا" وكذلك مجلس بلديتها كانوا قد اتخذوا الخيار الخاسر فأيدوا الانقلاب على غورباتشوف. وفي تلك الأثناء كانت تجرى تصفية حسابات سياسية داخلية مما حمل البعثة الغربية على المسارعة في العودة إلى "الإسطرلاب" و التي أقلعت على الفور في اتجاه مدينة هاكورات اليابانية. وقد استغرقت الرحلة بين المدينتين نحو أسبوعين في المحيط الهادي أمضاها أفراد البعثة في استخلاص نتائج هذه الرحلة من حيث أهدافها الملاحية والاقتصادية والعلمية والبيئية.

وكانت أولى هذه النتائج أن طريق الشمال القطبي لا حظ كبيرا له في أن يكون طريقا للملاحة التجارية. وأن لا قبل له بمنافسة طريق السويس بأي حال من الأحوال. وهو ما أقر به صاحب فكرة المنافسة هذه لوي جيلي. وفي هذا الصدد يقول بيار سوفاديه إن هذه الطريق وإن كانت تقصر المسافة بين أوربا واليابان في 13 يوما، لا يمكن اعتمادها طريقا تجاريا ولا لنقل المسافرين نظرا لصعوبتها من الناحيتين الطبيعية والمناخية. ذلك أنها لا تصلح لعبور السفن العادية إلا خلال أربعة أشهر في السنة مع عدم الاستغناء عن كاسحات الجليد وكثرة المخاطر من الأطواف الجليدية التي غالبا ما تصطدم بالسفن العابرة تحت مستوى الماء. ويستعمل السوفييت أنفسهم هذه الطريق مدة ثمانية أشهر في السنة مستخدمين كاسحات الألغام لقيادة السفن العادية. وهي تمتنع على الملاحة نحو أربعة أشهر حيث تبلغ الحرارة في الشتاء 40 درجة تحت الصفر ويصبح الجليد من القسوة والكثافة بحيث لا يمكن أن تخترقه إلا الكاسحات العملاقة التي لا تكاد تعبر المجرى الذي تشقه حتى يسده الجليد ثانية. وإذا علمنا - يضيف سوفاديه - أن كلفة الاستعانة بالكاسحة تبلغ 55 ألف دولار في اليوم، وأن بناء الكاسحة يكلف مليار دولار في المتوسط، نتبين استحالة اعتماد هذا الطريق من الناحية الاقتصادية والتجارية ومن ألناحية الملاحية البحتة. ذاك أن الملاحة الدولية تحتاج إلى الانتظام والأمان قبل حاجتها إلى الوقت. وعلى ذلك فلا طريق أخرى تنافس طريق قناة السويس. يبقى أن فتح هذا الطريق مفيد جدا من الناحية العلمية لإجراء البحوث لا القطب الشمالي السوفييتي الذي يعتبر مجهولا بالنسبة إلى الغرب. ومن هذه الوجهة يرى سوفاديه أن الرحلة كانت مفيدة جدا وتعتبر مؤشرا أكيدا على رغبة السوفييت في التعاون مع الغرب لأهداف علمية واقتصادية استثمارية مشتركة في مناطق القطب الشمالي التابعة للاتحاد السوفييتي.

أما من ناحية البحوث المتعلقة بحماية البيئة فيعلق سوفاديه أهمية كبيرة على قيام رحلات منتظمة إلى تلك المنطقة للتأكد من حجم التلوث الذي أصابها نتيجة التجارب النووية التي يجريها السوفييت في سيبيريا، ومن احتمال تلوث المحيط بسبب الكاسحات العاملة بالطاقة النووية لأن الوقود النووي يحتاج إلى التغيير مرة كل ثلاث سنوات في تلك الكاسحات ويتساءل سوفاديه، أين تذهب النفايات النووية لتلك الكاسحات؟!

وفي الثاني من سبتمبر (أيلول) وصلت الإسطرلاب إلي ميناء مدينة هاكودات اليابانية حيث استقبلت البعثة بالزهور قدمتها ملكة جمال هاكودات لرئيس البعثة بيار سوفاديه. وأقيم احتفال حاشد للترحيب بأول سفينة غربية تصل بين أوربا واليابان منذ 66 عاما شارك فيها مسئولون يابانيون وفرنسيون وعشرات من العلماء والباحثين والمهتمين بالدراسات القطبية ونظمت في المناسبة ندوات علمية واقتصادية حول مستقبل القطب الشمالي. وبعد أيام عاد بيار سوفاديه ورفاقه بالطائرة إلى فرنسا. أما الإسطرلاب فرفعت المراسي لتبحر عائدة.. عن طريق قناة السويس!