هل أدلكم على تجارة؟

هل أدلكم على تجارة؟

مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن ـ وراعيها معالي الشيخ أحمد زكي يماني ـ ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي, وجائزة الملك فيصل العالمية, وجائزة محمد حسن فقي الشعرية, وجائزة سلطان بن علي العويس بالشارقة, ومؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بالكويت, وجائزة الشيخ عبدالله مبارك الصباح للآداب والفنون بالكويت: نجوم تلألأت في سماء الثقافة العربية, فبددت ظلمة غشيت أمتنا العربية, أطبقت عليها زمنا, وصيحات دوت في سمع الدنيا, فحركت جسداً خامداً ظنوا أنه ميت وماهو بميت, ولو قدر لهذه الجهود الطيبة الراشدة أن تنمو وتطرد, وألا تقف في أوائل الطريق أو منتصفه لكان الحال غير الحال.

ولما كانت هذه الشموس قد طلعت في أفق الجزيرة العربية ودول الخليج العربي, فقد يسرع إلى الخاطر أن هذا البذل وذلك السخاء مرتبطان بتلك الثروة البترولية التي أفاءها الله على القوم في العقود الخمسة الأخيرة, وهذا سبب معين بلا شك, ولكن ليس هو كل الأسباب, فإن الله جلت قدرته وعظمت حكمته حين يسر لتراث العربية من نذروا أنفسهم لتصنيفه وجمعه وتسجيله, في جهاد دائب لم تشهده أمة من الأمم, ولم تعرفه ثقافة من الثقافات, قد تمم الفضل وأكمل النعمة بأن هيأ لذلك التراث أيضا من عملوا على نشره وإذاعته, وتكريم أهله, والأخذ بأيديهم, لايضنون بجهد أو مال, فقد وقف كثير من أهل اليسار والسعة وراء أهل العلم, وجعلوا من أموالهم نصيبا مفروضا لطبع الكتب وتعميم النفع بها, ومنذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي بدأ نهر الخير يتدفق على يد هؤلاء الأثرياء الأبرار الذين سعوا في طبع أصول الكتب العربية, لن يتسع المقام هنا لذكر أولئك الأثرياء, فلنكتف بأبرزهم, وأولهم: العلامة أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري, وهو أحد رجال النهضة الإسلامية المجددين, وصاحب المؤلفات الشهيرة: الدين الخالص, وأبجد العلوم, والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول, وكان هذا الرجل مع اشتغاله بالعلم والتصنيف ميسورا صاحب ثروة, فقد تزوج بملكة بهوبال, فعظم شأنه وكثرت ثروته, وقد كان من فضل الله على هذا الرجل أن وفقه لأن يطبع على نفقته أعلى كتاب في شروح الحديث, وهو "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحفاظ ابن حجر العسقلاني المصري الشافعي.

ومن هذه الطائفة النبيلة: أحمد بك أحمد الحسيني الشافعي المحامي, المولود بالقاهرة سنة 1271 هـ = 1854م. اشتغل بالمحاماة ونبغ فيها, ثم انقطع للتأليف, فكانت له رسائل معظمها في الفقه الشافعي. وقد أنفق هذا السري النبيل على طبع كتاب "الأم" للإمام محمد بن إدريس الشافعي. وقد سمعت من مشايخي من أهل العلم وعلماء المخطوطات أن السيد أحمد الحسيني هذا, باع "عزبة" من أملاكه للإنفاق على طبع كتاب "الأم"

ومن وراء هذين الاسمين الكبيرين نرى أسماء كثيرة مضت في ذلك الطريق العظيم.

ولم يقف الأفراد وحدهم لطبع الكتب على نفقتهم, فقد رأينا في ذلك الزمان قيام جماعات من أهل العلم ومحبيه لنشر الكتب الموسوعية, نذكر منها جمعية المعارف بمصر, التي أسسها محمد عارف باشا عام 1868م, وقد وصل أعضاء هذه الجمعية إلى "661" عضوا, وشركة طبع الكتب العربية سنة 1898م. بل إن جماعة من أهل الخير في مكة المكرمة قد نشطوا للإنفاق على طبع كتاب خزانة الأدب لعبدالقادر البغدادي, وهو أكبر وأهم كتاب في شرح شواهد العربية. وقد تم طبع هذا الكتاب بمطبعة بولاق سنة 1299هـ = 1882م, وجاء في أربعة أجزاء ضخام, وطبع بهامشه كتاب شرح الشواهد الكبرى لبدر الدين العيني. وهذه أسماء أهل مكة الذين ساهموا في طبع هذا الكتاب الجليل, كما ذكرها مصحح الكتاب الشيخ محمد قاسم, قال: "هذا وكان حسن طبعه وزهر ثمر طلعه على ذمة عصابة أجلة نبلاء, لهم في نشر العلوم والمعارف اليد البيضاء, فاستحقوا بذلك الثناء الجميل. وهاك مقادير حصصهم على هذا التفضيل: فقيراط ونصف لتاج المفتين حضرة الفاضل الشيخ عبد الرحمن سراج, مفتي بلد الله الأمين, وثلاثة قراريط لحضرة العلامة الشيخ عبد الرحمن سراج الشيبي عمدة الأماثل, وقيراط ونصف للسامي الماجد حضرة الشيخ أحمد المشاط عين الأماجد, وثلاثة قراريط لذي القدر السني حضرة الحاج عبدالواحد الميمني, وثلاثة قراريط لذي المورد الهني حضرة الحاج حسين بن عبد الله الميمني, وستة قراريط لذي المشرب الأدبي حضرة الفاضل الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد الباز الكتبي, وستة قراريط للمستعين بربه الغني حضرة الحاج أبي طالب الميمني".

وهنا تنبيهان: الأول: أن مصحح الكتاب لم يذكر أن هؤلاء الأعلام من أهل مكة المكرمة, ولكني عرفتهم من خلال إقامتي بالبلد الحرام, ورأيت أسماءهم تتردد في سلسلة أبنائهم وأحفادهم وعائلاتهم.

والثاني: أن هؤلاء الرجال المكيين الذين أنفقوا على طبع الكتاب سنة 1299هـ = 1882م لم ينقفوا عليه من عائد البترول, فلم يكن البترول قد عرف يومئذ بتلك البلاد, فالأمر راجع إلى عزائم الرجال لا إلى كثرة الأموال.

وهكذا اجتمع على طبع التراث العربي بمصر, في أواخر القرن التاسع عشر, الهندي والمصري والحجازي والحضرمي, وغيرهم ممن لم يبلغنا خبره, وهو تجمع عربي إسلامي شامخ, قبل أن تكون للعرب جامعة, وقبل أن يوجد للإسلام منظمة.

نهرالعطاء

وعوداً على بدء, فإن هؤلاء الأثرياء النبلاء من أهل الجزيرة العربية والخليج الذين بدأت بهم حديثي, موصولون بنهر العطاء الذي شقه أهل الخير والفضل من أمتنا العربية والإسلامية, وهم ينفقون بسخاء لاحدود له, سواء في جمع المخطوطات وفهرستها والتعريف بها, أو في طبع الكتب وإذاعتها, أو في رصد الجوائز للعلماء والأدباء, وقد عرفت ذلك عن قرب, حيث شاركت في نشاط بعض هذه المؤسسات, فقد دعيت إلى التدريب على فهرسة المخطوط الإسلامي في ثلاث دورات أقامتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي "أحمد زكي يماني" بالقاهرة واستانبول ولندن, ثم شاركت في ندوة عن تاريخ الطباعة العربية في القرن التاسع عشر, أقامها مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي, وفي هذه وتلك رأيت أهدافا نبيلة وخططا محكمة راشدة, ورجالاً مخلصين أمناء, وإذا أتيح للعمل شرف المقصد ونبل الغاية وخلوص النية ونزاهة النصح, بلغ من النجاح مبلغه, وانتهى من التوفيق إلى مداه.

فهأنذا أيها السادة الأثرياء أدلكم على تجارة رابحة, وأفتح أمامكم بابا واسعا من أبواب الخير, وأسأل الله أن تنشرح له صدوركم, وتهش له قلوبكم.

وذلك أني امرؤ شغلت بالكتاب العربي, مخطوطاً ومطبوعاً, على امتداد سبعة وثلاثين عاما, وكان اهتمامي بالكتاب العربي المخطوط من طريق اشتغالي بنسخ المخطوطات في صدر شبابي, ثم عملي بمعهد المخطوطات التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, فسافرت كثيرا لانتقاء المخطوطات وفهرستها. ثم كان احتفالي بالكتاب العربي المطبوع عن طريق اشتغالي بتحقيق الكتب, ومن أهم عدة المحقق معرفة المطبوعات وتمييز مابين الطبعات حتى يقوم توثيق النقول وتخريج الشواهد على أساس صحيح.

ثم إني نظرت وأطلت النظر, فرأيت أننا ـ على مستوى الأمة العربية والإسلامية ـ قد عنينا كثيراً بأمر المخطوطات, فأقمنا لها معهدا تابعاً لجامعة الدول العربية, عام 1946م, كان رائداً في هذا المجال, فدل الناس على أماكن المخطوطات, وفتح أمامهم قضاياها ومشكلاتها, فتعددت بعد ذلك مراكز تجميع المخطوطات وصورها, في الجامعات العربية, أو في مراكز البحوث التابعة لها, ثم عقدنا للمخطوطات أكثر من مؤتمر, وأصدرنا أكثر من توصية, وهذا كله عمل صالح وجيد ومطلوب, وينبغي ألا نتوقف فيه عند حد, فلا يزال في الزوايا خبايا. لكننا في الوقت نفسه أهملنا شأن المطبوعات, إلا ما كان من بعض الرسائل الجامعية المحدودة التي تظهر هنا وهناك, وبعض الندوات التي أقيمت حول الطباعة العربية, ولعل أهمها وأبرزها تلك الندوة التي أقيمت في أكتوبر الماضي بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي, لكن هذه الجهود كلها تدور حول تاريخ الطباعة العربية, والذي أدعو إليه اليوم شيء آخر, وهو باختصار شديد "تجميع الكتاب العربي المطبوع".

تفاصيل المشروع

لقد بدأت الطباعة العربية بمدينة فانو Fano بإيطاليا, في أوائل القرن السادس عشر, ثم تعددت المطابع العربية بعد ذلك في أوربا وبلدان الشرق, وفي مقدمتها الآستانة "استانبول", ثم كانت الوثبة الكبرى للطباعة العربية بمطبعة بولاق بمصر, التي بدأت نشاطها نحو سنة 1820م.

وإذا كان من أقدم المطبوعات العربية كتاب "الكافية" في النحو لابن الحاجب, الذي طبع في روما بإيطاليا سنة 1592م, و "القانون في الطب" لابن سينا الذي طبع في روما أيضا سنة 1593م, فإن هذه أربعمائة سنة في تاريخ الطباعة العربية, أخرجت المطابع خلالها ألوف الألوف من الكتب العربية الكبار والأوساط والصغار, في مختلف العلوم والفنون والآداب, وهذه الكتب المطبوعة أودعت مكتبات عامة ومكتبات خاصة, فالذي أودع منها في المكتبات العامة سجل ودون في فهارس, أما الذي أودع في المكتبات الخاصة فهو في غالب أمره محفوظ مرعي مادام صاحب المكتبة حيا يرزق, فإذا ماجاء أمر الله ولم يكن له ولد من أهل العلم, تفرقت هذه الكتب بدداً, ومما ينبغي التنبيه إليه أن بعض هذه المكتبات الخاصة تحتوي على بعض المطبوعات النادرة التي ربما لاتوجد في المكتبات العامة, وتعليل ذلك سهل, فإن صاحب المكتبة الخاصة يحرص على اقتناء النوادر والنفائس, وهو يجمع الكتب على عينه, ويتعهدها بالحفظ والرعاية, وأيضا فإن قانون الإيداع الذي كان يلزم الناشرين وأصحاب المطابع بإيداع نسخ من المطبوعات في دور الكتب الوطنية, لم يكن معروفاً في تلك الأيام, وعلى هذا فكثيراً ما بحثنا عن كتاب مطبوع قديما في دار الكتب المصرية فلم نجده فيها, على كثرة مخزونها ومحفوظها, ثم وجدناه في مكتبة شيخنا محمود محمد شاكر أو السيد أحمد صقر أو حسن كامل الصيرفي, ومن إليهم من محبي الكتب وجامعيها, وقل مثل هذا في سائر الأقطار العربية والإسلامية.

على أن هذه الكتب التي تقادم عهد طباعتها قد صارت الآن في حكم المخطوطات, في ندرتها وصعوبة الحصول عليها, ثم في قلة العارفين بها, وهذه مسألة في غاية الأهمية, فإن للمطبوعات علماء, كما أن للمخطوطات علماء, ويتجلى علم علماء المطبوعات في معرفة أماكن طبع الكتاب, وعدد طبعاته, وفرق مابين هذه الطبعات, وقد أدركت جيلا عظيما من علماء المطبوعات هؤلاء, منهم محمد رشاد عبدالمطلب في مصر, وأحمد عبيد بدمشق, والفقيه التطواني بمدينة سلا من المغرب, والحاج مظفر أوزاق باستانبول, وقد انتقلوا جميعاً إلى رحمة الله, ويخشى أن يوصد هذا الباب بموت هؤلاء العلماء, على ما جاء في الحديث الصحيح "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا".

وقد بدأت آثار غياب هذا العلم تظهر, فأنت تقرأ الآن مثلا رسالة جامعية في مصر, تتناول قضية من قضايا تاريخ الأندلس أوالمغرب, فترى فجوات كثيرة ونقصا ظاهراً لغياب بعض المراجع الأندلسية والمغربية عن ذلك الطالب الذي يعد رسالته في مصر, وأنى لمثل هذا الطالب أن يحصل على مرجع من مطبوعات تونس, أو مطبوعات فاس الحجرية القديمة?

والذي يقال عن غياب بعض المراجع الأندلسية والمغربية المطبوعة في فاس أو تونس, قديما, يقال أيضاً عن مطبوعات كثيرة في مختلف العلوم والفنون طبعت في مصر في أوائل الطباعة العربية بمطبعة بولاق, أو بالمطابع الأهلية التي انتشرت بالعشرات وبما فوق العشرات, في قلب القاهرة المعزية حول الأزهر والحسين, وكثيرمن طلبة العلم الآن لايعلمون شيئا عن هذه المطبوعات, ولذلك تأتي بعض دراساتهم وأبحاثهم وبها جهات من النقص كثيرة. ولو أنك جئت الآن إلى معيد بإحدى الكليات الأدبية, وسألته مثلا عن هذه الكتب الثلاثة: الفتح ـ أو الفيح ـ القسي في الفتح القدسي, والفلاكة والمفلوكون, والمكاثرة عند المذاكرة, لمن هي? ومتى طبعت وأين, لما عرف أن الأول للعماد الأصفهاني, وأنه طبع بمطبعة الموسوعات بمصر سنة 1321هـ = 1903م, وأن الثاني لشهاب الدين الدلجي, وأنه طبع بمطبعة الشعب بمصر سنة 1322 هـ = 1904م, وأن الثالث لجعفر بن محمد الطيالسي, وأنه من مطبوعات معهد الشرقيات بجامعة استانبول سنة 1956م.. وهذا باب واسع جدا.

وإذا تركنا حديث الكتب العربية المطبوعة قديما وغيابها عن طلبة العلم, وجئنا إلى الكتاب العربي المطبوع حديثا, فإنا نجد هذه الظاهرة أيضا: ظاهرة غياب الكتب عن طلبة العلم ودارسيه. لقد تعددت جهات طبع الكتاب العربي الآن, ولم يعد الأمر مقصوراً على الناشرين من التجار وأصحاب المطابع, فقد دخل إلى الميدان كثير من الهيئات والمراكز العلمية التابعة للجامعات العربية أو المستقلة عنها, يمولها نفر من أهل الخير الذين ذكرت بعضاً منهم في صدر حديثي, وكثير من مطبوعات هذه الهيئات والمراكز لا يعرض للبيع, وإنما يقصر على الإهداء, وهذا الإهداء دائرته محدودة جدا, وفيه بعض الآفات, وهو أنه يقدم أحيانا لمن لا يعرف قدره, أو لايدرك وجه النفع منه, وأعرف بعضا ممن تهدى إليهم الكتب كانوا يتركونها في الفندق استثقالاً لحملها, أو فرارا من مئونة وزنها في شركات الطيران, وقد كتبت كثيراً في هذا الأمر, فلم يبق إلا الإيداع في دور الكتب العامة في البلدان العربية, وهناك قانون ملزم بذلك الإيداع, لكني أحسب أن هذا القانون إنما يلزم الناشرين فقط من التجار وأصحاب المطابع.

غياب الكتاب العربي

فأنت ترى أيها القارىء الكريم أن الكتاب العربي المطبوع قد غاب مرتين: المرة الأولى لتقادم عهد طباعته حتى صار كالكتاب المخطوط, والمرة الثانية لبعده عن أيدي الدارسين بمحدودية توزيعه وإذاعته.

ولقد أدى غياب الكتب الآن إلى غياب المرجعية في قضايا الفكر والأدب, وصار كثير من الناس الآن, وبخاصة المبتدئون من الدارسين يكتبون من رءوسهم, وما تسرع إليه خواطرهم, وقديما قال الجاحظ: "وإنما يؤتى الناس من ترك التثبت وقلة المحاسبة", وقال الشيخ عبدالقاهر الجرجاني: "وتلك جريرة ترك النظر وأخذ الشيء من غير معدنه", ولا يخفى أن من ترك التثبت وأخذ الشيء من غير معدنه غياب الكتب والتعويل على الرأي وحده.

إذن نحن مطالبون بأمرين: الأمر الأول: إنعاش ذاكرة الأمة العربية, وإنقاذ تاريخها من قرارة النسيان وبئر الضياع, باسترجاع مطبوعاتها العربية على امتداد الأربعمائة سنة التي أشرت إليها.

والأمر الثاني: رصد ومتابعة وجمع مايطبع من الكتب العربية في كل بلدان العالم أولاً بأول. وبتحقيق هذين الأمرين نكون قد عملنا على "تجميع الكتاب العربي المطبوع" وهو مقترحي الأساسي, وهدفي من هذه الكلمة كلها.

مكتبة العرب

ولكن كيف يتم ذلك? وما السبيل إلى تحقيقه? والجواب وبالله التوفيق, دون تطويل أو ثرثرة: إنشاء مكتبة كبرى, تسمى "مكتبة العرب" ينشئها هؤلاء السادة الأثرياء النبلاء, مجتمعين أو متفرقين, ويختارون لها مكاناً كبيراً في بلد عربي يتوسط البلدان العربية, ويسهل على أبناء الأمة العربية النزول به والإقامة فيه, ولا أحسب هذا البلد إلا "القاهرة" أقول قولي هذا وأنا آمن ـ إن شاء الله ـ من سوء الظن بعصبية البلد, فجمهور قراء "العربي" ممن يحسنون الفهم, ولا تسرع إليهم الظنون.

وأعلم أن بعض أهل الخير من أبناء السعودية والخليج يقيمون الآن مساجد فخمة بالقاهرة, ولو كنت من أهل الفتيا لأفتيت بأن إقامة المكتبات الآن أولى من بناء المساجد, مع علمي بالأحاديث التي تحض على بناء المساجد وترغب في إقامتها. وسوف يكون إنشاء "مكتبة العرب" بالقاهرة مذكراً بتلك القلعة الشامخة "دار الكتب المصرية" التي تتوسط ميدان "باب الخلق" الشهير, والتي كانت ملتقى لرجال الفكر والأدب, يجدون فيها بغيتهم من الكتاب العربي المخطوط والمطبوع, ويذكر أساتذتنا الكبار من أبناء الأمة العربية الذين حصلوا على شهاداتهم العليا من جامعة القاهرة في الأربعينيات والخمسينيات فضل دار الكتب المصرية عليهم, وأثرها في تكوينهم الفكري.. وسقى الله تلك الأيام!

وواضح مما قلته أن الغاية الأولى من إنشاء هذه المكتبة "مكتبة العرب" هي تحقيق فكرة "تجميع الكتاب العربي المطبوع". ولكن لن تكون هذه هي الغاية الوحيدة من إنشاء هذه المكتبة, فسوف تكون هناك غايات أخرى عظيمة مما تتيحه المكتبات الحديثة المؤسسة علميا, والمستفيدة من مظاهر التقدم التكنولوجي المذهل الذي أتى به العلم الحديث في وسائل الاتصال والتكشيف واستدعاء المعلومات. ومن هذه الغايات العظيمة أيضا تجميع صور المخطوطات العربية التي صورت على "الميكروفيلم" مما صوره معهد المخطوطات العربية الذي أنشىء تابعاً لجامعة الدول العربية عام 6491م, وكذلك صور المخطوطات التي صورتها الجامعات العربية والمراكز العلمية التابعة لها, ومراكز العلوم الأخرى غير التابعة للجامعات.

ولن أطيل بذكر هذه المراكز, فهي معروفة مشهورة, بحيث تكون "مكتبة العرب" هذه في آخر الأمر هي المكتبة المركزية للأمة العربية كلها التي جمعت الكتاب العربي: مطبوعاً ومخطوطا.

وإذا كانت منظمة اليونسكو تعمل الآن في مشروع "ذاكرة العالم" فما أحرانا نحن العرب أن نعمل في مشروع "ذاكرة العالم العربي" الذي يكون مجلاه "مكتبة العرب" هذه.

أما كيف تقوم هذه المكتبة, وماهي الأسس التي تركز عليها, وما هي القواعد الصحيحة التي تضمن لها البقاء والنمو والازدهار? فكل ذلك وأشباهه موكول إلى لجنة عليا تختار من كبار رجال الفكر والأدب في عالمنا العربي, تخطط لهذا الصرح العربي الكبير, على أن ننبذ من تفكيرنا الإقليمية والفردية. وما أريد أن أمد في حبال الكلام عن هذه المكتبة وأهدافها, حتى لايطول الحديث, والحديث إذا طال أمل وأضجر, وإذا جاء موضع الكلام تكلمنا, وأخرجنا ماعندنا من تصورات واقتراحات, لكني أريد أن أعجل وأقول: إن تكاليف إنشاء مثل هذه المكتبة لن تتجاوز ماينفق على عشر ندوات تراثية لاتخرج إلى أبعد من التوصيات, وعشر جوائز سنية لاتتجاوز جيوب أصحابها. ولا عليكم أيها المفكرون والشعراء والمبدعون من أن تبطىء عليكم الجوائز سنتين أو ثلاثا, حتى يتحقق هذا الأمل الكبير, والله يعوضكم خيرا, وسوف يكون يوم افتتاح هذه المكتبة العظيمة إن شاء الله, عيداً لأولنا وآخرنا.

وبعد: فيا أيها السادة النبلاء من أثرياء العرب الذين سخوا وجادوا, هذه تجارة رابحة, دللتكم عليها, وفتحت لكم أبوابها, وأقمت لكم سوقها, فامضوا على بركة الله وهداه, ونرجو أن يعود بكم وبفضل أموالكم تاريخنا العظيم, في إقامة دور الكتب وخزائنها التي حفظت لنا ما بقي من تراثنا, وأدته إلينا سالماً, واستنقذته من عوادي الناس والأيام, وسوف يكون في موازينكم إن شاء الله دعوة طالب علم أو معيد بإحدى الجامعات يتحرق شوقاً إلى مرجع قديم أو حديث لاتطوله يداه الكليلتان, يجده ميسوراً متاحاً في مكتبتكم "مكتبة العرب".

أما أنتم أيها السادة المستشارون الأمناء الذين عهد إليكم هؤلاء السادة الأثرياء بالإشراف على أعمالهم النبيلة هذه: لقد حملتم أمراً عظيماً فاصطبرتم له, وقد أديتم الأمانة بإحسان النصح, وإخلاص المشورة, وطهارة اليد, وأنا أدعوكم اليوم لأن تقرأوا هذا الكلام وتتدبروه, ثم تقدموه للسادة الأثرياء النبلاء, قدموه لهم ليقرأوه بأنفسهم, ولا تلخصوه لهم, فهم أهل فضل وأدب وعقل قبل أن يكونوا أصحاب ثروة وجاه, وبينهم وبين أهل العلم نسب أقاموه مقام الوالد, على نحو ماقال أبو تمام. وأنتم بعد ذلك شركاؤهم في إحراز الأجر وكمال المثوبة, فالدال على الخير كفاعله, كما جاء في الحديث الشريف. قال محدث الشام أبوالفدا العجلوني: "والمشهور على الألسنة: الدال على الخير كفاعله, وفاعله من أهل الجنة".

والله من وراء القصد, وهو ولي التوفيق.

 

 

محمود الطناحي
  




أحمد زكي اليماني





جمعة الماجد





الملك فيصل





سلطان العويس





الشيخ عبدالله المبارك





عبدالعزيز سعود البابطين