نيجيريا

مارد يسعى للخروج من القمقم

هنا سجن "كونتا كنتي" ورفاقه المخطوفين..! في هذه السجون الرهيبة الفارقة بين الحرية والعبودية، بدأت رحلة المصير للإفريقيين ليتحولوا إلى مستعبدين أرقاء. إلى مثل هذه الحصون المتناثرة على السواحل الإفريقية الغربية المطلة على المحيط الأطلسي في غانا وغينيا ونيجيريا، اقتيد المخطوفون تحت سياط تجار القبائل الأفارقة وصيادي العبيد من المجرمين البرتغاليين، ليتم تخزينهم مقيدين بالأغلال في الغرف السوداء داخل الحصن، وحين تتجمع الشحنة المطلوبة من الرقيق تقسم "الرسائل" طبقا لأحجام الرءوس وأوزانها ونوعياتها وقوة أجسادها، تمهيدا لنقلها إلى "سفن العبيد، المنتظرة، لتحمل الملايين من الأرقاء إلى الأرض الجديدة!

في سجن العبيد

وقفنا داخل سجن العبيد الأسود في مدينة "باداجري" المستلقية على سواحل الأطلسي غرب لاجوس العاصمة النيجيرية، كنا نطل حولنا في ذهول، ونتصور أنفسنا في مكان أي واحد من الأرقاء في ذلك المكان والزمان قبل مئات السنين. الغرفة ضيقة بلا نوافذ، لا يدخلها الهواء إلا من فتحة في السقف. الأرقاء يتكدسون على الأرضية الترابية صفوفا متراصة تزداد التحاما كلما ازداد عددهم. في صدر القاعة علقت نماذج من أدوات التعذيب والإرهاب والتأديب، تستخدم في تقييد العبيد وحرمانهم من الحركة والصراخ والاستنجاد.. جنازير من الحديد طويلة، لوالب بقدر فتحة الفم لإغلاق الشفتين، مشابك حديدية لربط سيقان المسجونين بعضهم إلى البعض الآخر لمنعهم من الهرب، مسامير ضخمة مثبتة إلى الجدران تتدلى منها سلاسل قصيرة يربط بها السجين فلا يتحرك من المكان الذي ثبت فيه، نخاسات حديدية مدببة ذات أفرع لنخس جسم من لا يمتثل ويستكين، محاقن حديدية لإدخالها بالقوة في فتحات الجسم أو في فم السجين الرافض للطعام، كلابات لربط الأيدي عند المعصم أو الذراعين، وخناقات حديدية تحيط بالرقبة وتمتد سلاسلها إلى خناقات أخرى لربط العبيد بعضهم إلى بعض.

وننتبه إلى أمينة السجن وهي تصف استخدامات كل أداة وتحكي كيف كان يتم اصطياد الرقيق المساكين من أماكن تجمعاتهم وملاعبهم خلال يقظتهم أو في أثناء نومهم، وكيف كان المطاردين يلاحقون الهاربين بين الأشجار والأكواخ.

قوافل الرقيق الذين يهتم اصطيادهم ينساقون رجالا ونساء وأطفالا إلى أماكن التجمع سيرا على الأقدام، الرجال يكونون الغالبية العظمى، يتعثرون وهم مقيدون بالحبال كل اثنين متلاصقان، طابور الرقيق يمتد إلى عشرات الأمتار، وكل صفين متتابعين تجمعهم "عصا العبيد" وهي عبارة عن عمود كبير من الخشب يربط إلى أعناق المساكين من خلال خناقة خشبية لا تسمح للعبد بإدارة رأسه أو الالتفات إلى الخلف.. وفي بعض الأحيان تطلق أيدي الأرقاء ليتاح لهم أن يحملوا على رءوسهم مئونتهم أو البضائع التي استولى عليها النخاسون، ووراء كل جماعة يسير فرد للإشراف على المسيرة، وبيده سوط لا يتوانى عن أن يعذب به في قسوة بالغة ظهر من يتباطأ في السير.. ويتساقط الضعفاء إعياء فيقتلون أو يتركون ليلقوا حتفهم.. وتتناثر عظام من سقطوا صرعى، على طول الطريق علامات توضح خط السير الذي سلكه هؤلاء التعساء، وعندما تصل القافلة إلى "مخازن العبيد" يلقي بهم داخل الغرف حتى يحين وقت نقلهم إلى السفن المهيأة لاستقبال الرقيق..!!

بقايا لها تاريخ

ونتذكر ما حكاه المؤرخون عن سفن الرقيق ونحن نقرأ اللوحة التذكارية المسجلة على الجدار أسفل نصب الصليب الذي أقامه المبشرون الكاثوليك في ركن القاعة.

كانت سفن شحن العبيد تبنى على وضع خاص، صغيرة الحجم قليلة الحمولة، وكانت تقسم أفقيا على هيئة رفوف، عرض الواحد منها ثلاثة أقدام يرص عليها الرقيق وأيديهم مصفدة بعد أن يمددوا على جانبي السفينة.. الرجال في ناحية، والنساء والأطفال في الناحية المقابلة.

وكانت السفن تحشد أكبر عدد ممكن حتى لا يكاد الرقيق يستطيعون أن يتحركوا أو يدوروا حول أنفسهم، السفينة حمولتها 150 طنا وتحمل أكثر من 600 فرد، ولأن المسافة حتى "الدنيا الجديدة" تستغرق حوالي ستة أسابيع فإن قيود الرقيق كانت تفك في بعض الأحيان، وقد يسمح لهم بالصعود إلى سطح السفينة، ولكن بعد ربط الساق اليمنى للعبدإلى الساق اليسرى لزميله بأصفاد حديدية. ولا شك أن رحلة كهذه كانت بيئة صالحة لانتشار الأمراض علاوة على الاختناق الذي كان يحدث لمن كان لا أسفل، فكانت نسبة الوفيات بينهم مرتفعة، ومن يموت تلقى جثته في البحر، وكان البعض منهم يفضل الانتحار إذا وجد سبيلا إليه، ولذا كانت السفينة تحاط في بعض الأحيان بشبكة مرتفعة، وإن لجأ بعضهم إلى تمزيق الشبكة والقفز إلى الماء. وكان بعض العبيد يلجأون إلى الاحتجاج على هذه المعاملة السيئة برفع الصوت، وغالبا ما كان الشخص الذي يفعل ذلك يجلد بقسوة، ويصوب إليه الرصاص في حالة تكراره الاحتجاج، ثم يحاط فمه بلولب من الحديد تطل منه شفتاه، ويضيق حتى لا يسمح للمعاقب بفتح الفم طوال الطريق، وإذا حدث أن لجأ أحدهم إلى الاحتجاج بالامتناع عن الطعام فإنه يعاقب بوسائل خاصة فيفتح فمه بالقوة بقضيب مجوف من الحديد وتلقى فيه النفايات والأقذار. وكان عدد المتوفين خلال الرحلة يقدر بحوالي سدس الحمولة، بل كان بحارة السفينة أنفسهم يتعرضون بسبب تفشي القذارة ورائحة العفونة للموت ولا سيما بالملاريا التي كان بعض الرقيق يحمل جراثيمها، إلا أن نسبة الوفيات بين رجال السفينة لم تصل أبدا إلى نفس النسبة بين الرقيق.

عند وصول شحنة الرقيق إلى الساحل الأمريكي كان المالك أو صاحب السفينة ينقلهم فورا إلى مزارعه، أما إذا كانت الشحنة بقصد التجارة فقد كان الرقيق يعرضون في مكان السوق العام كما تعرض المواشي، فيقف الرجال وحدهم لا دائرة، في مواجهة المشترين الذين يقترب الواحد منهم من العبد يفحصه بيده ويتحسس أجزاء مختلفة من جسده حتى يقتنع بقوته، أما البنات والنساء فكن يقفن صفوفا ويتقدم المشترون إليهن يتحسسوهن أيضا حيث يتعرضن لمهانات لا يمكن التعبير عنها، لا سيما وقد نزعت عنهن الخرق الصغيرة التي كن يسترن بها أجزاء معينة من أجسادهن، فإذا حاولن إخفاء شيء منها لا يتردد التاجر عن استعمال الشدة من أجل إزالة حيائهن، وكشف ما حاولن إخفاءه.

مواكب الأمراء

كل هذه الصور لا نستطيع أن ننساها ونحن نخترق شوارع مدينة "باداجري" في طريق عودتنا إلى العاصمة لاجوس، ولكن شيئا ما يستوقفنا حين نشاهد موكبا تتوسطه عربة مزينة تدق حولها الطبول والأبواق تتجه إلى مقر أمير المدينة. يقول لنا مرافقنا إنه "أكران أوبا توبي" زعيم أحد فروع قبائل اليوربا التي تستقر في جنوب نيجيريا وولاياتها الغربية.. ونتجه إلى مقر الأمير نطلب مقابلته، ونسأل كبير حاشيته ليحصل لنا على إذن الأمير. وبينما نحن ننتظر الإذن ندور ببصرنا في القاعة الكبرى التي يتصدرها مقعد كبير مرتفع وحوله مقاعد الحاشية وفي الناحية المقابلة يتجمع عدد كبر من أبناء القبيلة في انتظار خروج الأمير من غرفته ليعرضوا عليه شكاواهم أو يقدموا مطالبهم. ويسمح لنا بعد أن نخلع أحذيتنا بالمثول بين يدي الأمير، ونقف عند الباب الداخلي المغلق والمنسدلة دونه مجموعة من الستائر، ويفتح لنا كبير حاشيته الباب لندخل، إلى حيث يتصدر الأمير الغرفة، وهو يجلس على مقعد كبير يشبه العرش داخل مقصورة مزينة بالورد والأزهار وفوق رأسه تاج من الخرز والياقوت، وقد جلست ابنته الصغيرة على الأرض بجوار المقعد، ولا نكاد نقترب لنحييه حتى نفاجأ بحركة سريعة خلفنا. ونلتفت فإذا بمرافقنا وسائق سيارتنا قد ألقيا بنفسيهما على الأرض وانبطحا متمددين بكامل جسديهما وقد امتدت أيديهما إلى الأمام، حيث مرغا وجهيهما في الأرض تحت قدمي الأمير، ولم ينهض الاثنان من انبطاحتهما إلا بعد أن انتهى الأمير من استقبالنا والتحدث إلينا واتجهنا ناحية الباب، فإذا بهما يخرجان وراءنا في شبه سجود ولا يستديران إلا بعد أن يغلق باب القاعة..!!

العرف والتقاليد

قد تكون تلك العادة بعض بقايا الوثنية التي لا تزال تدين بها بعض جماعات الإيبو التي تشكل حوالي 5% من سكان نيجيريا البالغ عددهم حوالي 110 ملايين نسمة، ولكن ما سمعناه ورأيناه هو أن "تلك المبالغة في التحية والتكريم والاحترام إنما هي عادة موروثة من الآباء والأجداد. فللتحية أهمية كبيرة في عادات جماعات اليوربا الذين يشكلون أغلبية في جنوب غرب نيجيريا، فهي عندهم سمة التواضع وشعار للاحترام، وتنقسم هذه التحية إلى نوعين: التعبير بعبارات طيبة وكلمات كلها تواضع وتقدير للكبار، أو خلع النعال والجثو على الركب والانبطاح والسجود وخاصة أمام الأمراء والأقيال والزعماء القبليين، وذلك حسب العرف والتقاليد التي توجب على صغيرهم احترام كبيرهم، وعدم ندائه باسمه وألا يقدم نفسه عليه في الكلام وفي المجالس وفي الأكل وفي المشي.

وقد رأينا مثل ذلك في لاجوس العاصمة عندما التقينا بوزير الإعلام الدكتور أليكس أكينيل - وله قيمته العشائرية في اليوربا - فقد وجدنا الذين يدخلون لمقابلته - بمن في ذلك النساء - يجثون على ركبهم ويتقدمون إليه بمطالبهم دون أن ينهضوا للوقوف إلا بعد أن يسمح لهم بذلك.

يقول العلامة مصطفى زغلول السنوسي مدير دار الدعوة والإرشاد: " كان للملوك والأقيال والأمراء عند اليوربا درجات وامتيازات، وأصحاب التيجان هم أصحاب الدرجة الأولى الممتازون ثم يليهم الآخرون، وملوك يوربا وأمراؤهم كانوا بالأمس أصحاب الأمر والسلطة ورجال التشريع والتنفيذ، أما اليوم فقد تغير كل شيء وأصبح الملوك والأمراء والكبار الذين كانوا يمثلون رؤساء الوزراء والوزراء ألعوبة بيد السياسيين المثقفين من أبناء البلاد منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين، وصاروا دمى مزينة لا حراك لها وتماثيل منحوتة تنصب على الجدران حيث لا يعرفون شيئا في الشئون الإدارية للبلاد، وبقوا قوادا متقاعدين ليست بأيديهم سلطة التشريع ولا التنفيذ ولا القضاء، ولم يبق لهم شيء من صلاحيات دستورية تميزهم عن الناس العاديين من الشعب إلا أبهة الملك وأزياؤه، ومنها تيجانهم المنظومة من الخرز والياقوت وبعض الكراسي الخشبية التي ذوبت عليها الفضة، ثم الرسم الصوري للحيوانات على جدران قصورهم، ثم الدفوف والبنادير والطبول والأبواق التي تطبل وتنفخ أيام الأعياد الوطنية وغيرهما مما منعت وزارة البلدية استعمالها لغيرهم امتيازا لهم".

التقاليد القبلية المختلطة بالوثنية القديمة لا تزال حية حتى بعد أن تحولت الأغلبية العظمى في المجتمعات النيجيرية إلى الديانات السماوية حيث يدين بالإسلام حوالي 65% من السكان، وبالمسيحية حوالي 30% بينما الوثنيون وأصحاب الديانات غير السماوية لا يتجاوزون الآن 5%، من بين هذه التقاليد ما شهدناه على شاطئ البحر في باداجري حيث أغلبية السكان يدينون بالمسيحية، فبينما السياح رجالا ونساء بملابس البحر يستحمون أو يستلقون تحت الشمس فوق الرمال الساخنة، يختلط الأمر حين نجد أفرادا حفاة الأقدام متتابعين، بعضهم يستلقي على وجهه وهو يتعبد، وقد فتح أمامه الكتاب المقدس ونثر عشرات من الشموع وأوراق الأدعيات بينها بعض قرابين الفاكهة والخضراوات، بينما آخرون يجثون على ركبهم فوق الرمال وقد رفعوا أيديهم نحو السماء وأمامهم القرابين والأضحيات والصور والتماثيل والصليب على صفحات الإنجيل يمارسون الطقوس المسيحية مختلطة بالطقوس الوثنية التي كان يمارسها الآباء والأجداد.

عملاق إفريقيا

مع كل ذلك لا يستطيع أحد أن يدعي أن هذه التقاليد والموروثات كانت حاجزا دون تقدم نيجيريا ومسيرتها على طريق الحضارة والتقدم حتى أنها تسمي نفسها "عملاق إفريقيا" وهي بالفعل من ناحية السكان تعتبر أكبر دول إفريقيا، وسكانها ضعف عدد سكان مصر كما أنها تمثل خمس عدد السكان في القارة كلها، وهي من ناحية المساحة تمتد حوالي 924 ألف كم2 فوق ستة نطاقات مناخية تبدأ من منطقة الغابات والسافانا والمستنقعات التي تكونها الأمطار جنوبا وتمتد حتى الأراضي القاحلة شمالا، وتتكون جمهورية نيجيريا الفيدرالية من 30 ولاية بما في ذلك ولاية لاجوس العاصمة الحالمة، وولاية أبوجا العاصمة الفيدرالية الجديدة التي ينتظر أن تنتقل إليها أجهزة الدولة كلها خلال عامين على الأكثر، ويحد الجمهورية من الغرب جمهورية بنين، ومن الشمال جمهوريتا النيجر وتشاد ومن الشرق جمهورية الكاميرون ومن الجنوب المحيط الأطلسي.

أغنى دولة في إفريقيا

وتعتبر نيجيريا أغنى دولة في إفريقيا بسبب ثروتها البترولية، كما توجد بها ثروات معدنية بكميات كبيرة مثل القصدير والفحم واليورانيوم والذهب والبوكسيت والإسبست والتلك وسليكات الألمونيوم، وحتى الوقت الحاضر فإن نيجيريا هي الدولة الوحيدة في غرب إفريقيا التي لديها مخزون كبير من الفحم، وقد تم أخيرا اكتشاف ذهب تصل درجة نقائه إلى 99% في منطقة إليشا بولاية أويو. والمعادن الأخرى الموجودة تتضمن الحديد والكلومبيت والحجر الجيري، ونيجيريا هي سادس أكبر دولة منتجة للبترول على مستوى العالم، وثاني أكبر دولة على مستوى إفريقيا. والحقيقة أن دخل صناعة البترول يمثل حجر الأساس في الاقتصاد النيجيري، حيث يبلغ حجم صادرات نيجيريا من البترول 95% من تجارتها الخارجية، كما أن عدد آبار البترول التي يتم حفرها في تزايد مستمر، والهدف هو زيادة حجم الإنتاج على معدله الحالي وهو 16 مليار برميل ليصل إلى 20 مليار برميل عام 1995، وفي ذلك التاريخ ستصبح نيجيريا قادرة على إنتاج 2.5 مليار برميل يوميا بالمقارنة إلى الإنتاج الحالي وهو 1.9 مليار برميل يوميا.

وحتى العام الماضي كانت الدولة تنقسم إلى 21 ولاية ثم زيدت هذا العام فجأة إلى 30 ولاية و136 سلطة محلية، وقد تم دمج الشمال والجنوب معا في نطاق الدولة عام 1914، وبالرغم من أن !المائة والعشرة ملايين مواطن يتحدثون أكثر من مائتي لغة ولهجة هي لسان مجتمعات تضم أكثر من 250 قبيلة كل منها تخضع لملكها أو أميرها أو رئيسها وتنقاد له منفصلة بذلك عن بعضها البعض لقرون طويلة مع اختلاف شاسع في المستوى الثقافي والمعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية، إلا أن اتحاد هذا العدد الكبير من المجتمعات القبلية في دولة واحدة تحت دستور موحد سنة 1914 قد خفف من هذا التباين، وإن ظلت المجتمعات القبلية الكبيرة تحافظ على الكثير من تقاليدها. أبرز هذه المجتمعات التي تضمها نيجيريا والتي يزيد تعداد كل منها على مليون نسمة هي: شعب اليوربا ويعيش في ولايات الجنوب الغربي وعددهم حوالي 12 مليون نسمة وأبرز مدنهم لاجوس وأبادن وأليفي، ومن أكبر المجتمعات القبلية الأخرى الهوسا ولغتهم أكثر لغات نيجيريا شيوعا وتسكن هذه القبيلة في الشمال في ولاية كانو وفي أقصى الشمال والشرق، ويبلغ عددهم 11 مليونا ونصف المليون نسمة وأهم مدنهم سكوتو وكانو وزاريا وكتسينا، وتعيش معهم في بقية ولايات الشمال قبيلة الفولاني بملايينها الثلاثة، ويرجع إليها الفضل في نشر الإسلام في كثير من ربوع البلاد، أما الأيبو فيقطنون في منطقة ولاية الشرق وفي المنطقة الشرقية من ولاية نبري، وعددهم يقترب من العشرة ملايين، لغات هذه القبائل الأساسية هي المنتشرة في نيجيريا بالإضافة إلى اللغة الرئيسية وهي الإنجليزية والعملة الرسمية للدولة كلها هي "النيرة" وتساوي عشر الدولار.

لاجوس.. ويوم الحشر

الجولة الاستطلاعية في نيجيريا تحتاج للقيام بها إلى مرحلتين، إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وهو ما قمنا به على فترتين متقاربتين. وكانت بدايتنا في لاجوس، العاصمة الحالية التي ستظل محتفظة بمركزها حتى انتقال الأجهزة الحكومية إلى العاصمة الفيدرالية الجديدة "أبوجا". يقولون إن السر وراء تغيير العاصمة هو ضغوط الشماليين الهوسا المسلمين، لوقوع لاجوس في أقصى الجنوب الغربي حيث الأغلبية المسيحية من "اليوربا"، أما التفسير الرسمي فهو أن وقوع "أبوجا" في موقع وسط في قلب الجمهورية الفيدرالية وليس في أطرافها يجعلها أكثر ملاءمة، وإن كانت لاجوس لا تزال تتمتع حتى الآن بأنها ميناء هام وملتقى تجاري ضخم ومجمع للمراكز الرئيسية للمؤسسات الاقتصادية والمصرفية والمنشآت الدولية، بالإضافة إلى أنها مقر السفارات والقنصليات الأجنبية.

المدينة مجمع صاخب للأنشطة الإنسانية ليل نهار.. ومع التزاحم الرهيب لثلاثة ملايين نسمة من بين عشرة ملايين هم سكان ولاية لاجوس، تجد أنك لا تستطيع التوفيق بين الأدب المبالغ فيه والذي يبلغ الذروة حين ينبطح السائق باسطا ذراعيه وقدميه أمام الكبار، وبين الصرخات الهستيرية واستريوهات السيارات واللعنات التي يطلقها السائقون وهم يتجاوزون بعضهم بعضا خلال تسابقهم على الطرقات. والحقيقة أن قطع أي مسافة من مكان إلى أخر - سواء على الأقدام أو بالسيارات - تجربة مزعجة خاصة مع عدم احترام آداب المرور، وتداخل المارة والبائعين المتجولين وانحشارهم بين السيارات في الشوارع وفوق الجسور العلوية الكثيرة التي تربط بين جزر المدينة الأربع: أبابا، ولاجوس، وفكتوريا، وإيكوني. ولا تتصور مقدار الإزعاج والرعب الذي يلاحقك إذا فتحت زجاج سيارتك، فعشرات الأيدي ستمتد إليك سواء من الباعة المتجولين أو الشحاذين والمعوقين، ومع حمى التسابق والتزاحم تستطيع أن تلحظ أن سيارات قليلة جدا لم يمسها السوء من حوادث التصادم والاحتكاك في ملتقى الطرق والاستدارات وعنق الزجاجة المروري. المسألة كلها "سداح مداح" والشرطة غائبة إلا عن نقاط التفتيش الكثيرة التي تغلق نصف الطريق مما يزيد من التزاحم والاختناق. العلاج الوحيد الذي يخفف الأمر هو تحديد ثلاثة أيام في الأسبوع للسيارات ذات الأرقام الزوجية، ومثلها للأرقام للأرقام الفردية، وكما يقول المثل. "نصف العمى ولا...!".

الجاليات العربية

وبالرغم من أن نيجيريا بها ما يزيد على ألفي منشأة صناعية بين كبيرة وصغيرة حيث تتركز 65% من الأنشطة التجارية والصناعية في لاجوس، إلا أن المدينة لا توصف بالضرورة بأنها متشبعة صناعيا، فلا يزال هناك مكان للتوسع واستقبال أي استثمارات خارجية أو عربية من أجل مزيد من التنمية.

المهاجرون العرب يلعبون دورا جيدا في هذا المجال وخاصة الجالية اللبنانية والسورية، عرفنا الكثير عن هذا الدور خلال زيارتنا لبعض المصانع التي أقامها أبناء الجالية العربية مثل محمد زهير الحفار في صناعة الغزل والخيوط، وفريد مكارم في صناعة الأثاثات والمفروشات، ومعن اللبابيدي في صناعة الطحين، كما أدركنا قيمة الجهود والتعاون المثمر بين أعضاء هذه الجاليات العربية ورجال الأعمال النيجيريين خلال مأدبة العمل التي دعينا إليها في مقر جمعية الصداقة العربية النيجيرية وشارك فيها عدد من رجالات الاقتصاد والبنوك النيجيريين. كان الحديث كله يدور حول حاجة نيجيريا - بأرضها الزراعية الواسعة وعدد سكانها الضخم - إلى الاستثمارات العربية التي تتجه في أغلبها إلى الغرب، بينما نيجيريا مثلها مثل عدد آخر من الدول الإفريقية مفتوحة الأبواب للمستثمرين في جميع المجالات، وهم يطالبون الإعلام العربي أن يلعب دوره في تشجيع المستثمرين وتشغيل رءوس أموالهم في نيجيريا التي سيعودون منها بالخير الوفير، وهم يلوحون بأنه في الوقت الذي يشح فيه قدوم الخبراء من الدول العربية، يتزايد قدوم الخبراء من إسرائيل حتى أن عددهم بلغ حوالي خمسة آلاف خبير إسرائيلي، كما أن هناك حوالي مائتي مصنع يشغلها الإسرائيليون.!

أطول الجسور

مدينة لاجوس هي أكبر مدن ولاية يوربا التاريخية والتجارية والسياسية. وكلمة لاجوس برتغالية الأصل ومعناها الجزيرة، وقد أطلق البرتغاليون المستعمرون هذا الاسم عليها عندما رست أول باخرة لهم في مينائها عام 1482 م. وكان اسمها القديم هو "أيوكو"، وقد ظلت مدينة يورباوية خالصة حتى عام 1914 عندما صارت مقر الحاكم العام البريطاني ومركز دولة نيجيريا الاتحادية التي تألف منها الشعب النيجيري الحالي.

وتتميز لاجوس بوقوعها على شاطئ المحيط الأطلسي مما جعل مناخها لطيفا في مختلف الفصول. وهذه المدينة سرعة عجيبة في النمو والتقدم، والتجول في طرقاتها وبين أنحائها يعطي فكرة عن التطور الحضاري المتميز وخاصة الجسور الطويلة التي تربط بين الجزر التي تتشكل منها المدينة. ولعل أطول هذه الجسور ذلك الذي يربط جزيرة لاجوس بالأرض الأم، ويبلغ طوله اثني عشر ميلا. ومباني المدينة خليط بين العمارة القديمة والحديثة. ولا تزال هناك بنايات ذات طابع إنجليزي قديم منذ أيام الاستعمار، وهي تبدو في المقار الحكومية والرئاسية في المدينة القديمة، وقد تخللتها وحلت حولها بنايات وعمارات وفنادق حديثة، بالإضافة إلى المجمعات السكانية ومباني المؤسسات والشركات الاستثمارية التي تعتمد على العمارة الرأسية في مثيلات المدينة من المدن ذات المساحات المحدودة التي لا تسمح بالامتداد الأفقي. ولا شك أن الجسور فوق المجاري المائية الكثيرة أتاحت فرصة جيدة لمساحات مفتوحة لتكون متنفسا وسط الغابات الأسمنتية الطويلة المتعددة التي يلفت النظر من بينها مجمع المسرح الوطني، ومبنى الكاتدرائية للكنيسة الإنجليزية النيجيرية، ومجمع المحاكم والقضاء العالي، والمبنى الحديث لمسجد الدولة المركزي القائم في مركز المدينة وسوقها الرئيسي.

أسواق تبيع كل شيء

الأسواق المركزية في المدينة عامرة بكل شيء، بالرغم من الأسعار التي لا تعتبر منخفضة بالنسبة لشعب أقليته بالغة الثراء وأغلبيته العظمى تعاني البطالة والفقر بالرغم من الناتج البترولي الهائل للدولة. بالإضافة إلى السوق الرئيسي توجد مجمعات تجارية كثيرة في المنطقة المركزية وفي جزيرة أبابا، بالإضافة إلى المحلات التجارية المتعددة التي تبيع كل ما يمكن تصوره من منتجات سواء مستوردة أو محلية، وميدان تينوبو له شهرته كسوق رئيسي للملبوسات بالإضافة إلى المفروشات والأثاثات وخاصة على جانبي طريق مارتين وبالوجين، حيث المجوهرات والملبوسات والأدوات الكهربية وأجهزة الراديو والتليفزيون والكاميرات. كما أن هناك مناطق خاصة لبيع الأجهزة الطبية والأدوية، وتقوم منشآت تجارية كثيرة في المناطق السياحية وحول الفنادق الكبرى تضم مكتبات ومحال لبيع التحف الفنية والمنحوتات الخشبية والمشغولات الجلدية والملبوسات، ولكن التعامل معها يحتاج إلى خبرة وبراعة في المساومة التي تنخفض الأسعار معها إلى ما يزيد على خمس القيمة المعروضة بها، وخاصة بالنسبة للمعروضات السياحية والتماثيل والتحف المقلدة التي يدعي التجار أنها من التراث القديم الذي كان يبدعه الآباء والأجداد من قبائل اليوربا.

التراث الحضاري القديم لليوربا نستطيع أن نشاهد بعض معالمه في المتحف الوطني الذي أقيم من خلال جهود مجلس الولاية للفنون والثقافة والمسئول عن الحفاظ على التراث فمعروضات المتحف تثير متعة كل من له اهتمامات بالتاريخ والفنون والعقائد الإفريقية والتراث الثقافي الموروث في نيجيريا وقبائلها المتعددة.

معروضات المتحف تعود إلى ما بين عام 500 ق.م وعام 200 الميلادي بالنسبة للرءوس الجميلة الرائعة التي تمثل الآلهة، وقد قسمت غرف العرض إلى أحقاب تاريخية تمثل كل مراحل التاريخ النيجيري، وهو ما يبرز أيضا في متحف الفنون ومعروضاته من تحف النحت والتي تمثل الأصول النيجيرية ومراحل التطور عند القبائل في غرب إفريقيا، فالنحت النيجيري في الخشب فن كلاسيكي رائع، والمثال الذي استخدم الخشب والحجر والبرونز لنحت تماثيله توافرت له حرية طليقة في النحت، ولعل أبرز ما يشاهد في المتحف تمثال "الأم وأطفالها" من نحت اليوربا، وتمثال آخر لرجل في وضع من يمتطي جوادا وقد ثنى الرجل ركبتيه وباعد بين فخذيه وإن افتقر التمثال إلى التماثل في الحجم بين الراكب والجواد، أما بالنسبة لتماثيل البرونز فقد أبدع المثال في صناعتها. وقد امتازت منطقة بنين في نيجيريا بالتماثيل البرونزية، وخاصة الرءوس التي يلاحظ فيها الدقة حتى في القلائد التي تحيط بالعنق وفي تصفيف الشعر بالطريقة بالغة الدقة والروعة حتى لتعتبر من أعظم النماذج الفنية في العالم. ورءوس النساء أروع من تلك التي تمثل الرجال، فالأخيرة جامدة غير معبرة، على حين أن الأولى واضحة الحيوية، كما أن الزينات التي توضع حول أعناق الرجال تبدو بطول غير طبيعي على خلاف ما يتبع في تزيين أعناق رءوس النساء.

عودة إلى الأصول

قصة الأصول القبلية في نيجيريا ترجع بنا إلى الوراء في عمق التاريخ لأكثر من ألف عام قبل ميلاد المسيح.

في المنطقة التي تقوم فيها الآن نيجيريا عاشت جماعات زنجية أبرزها قبائل الهوسا في الشمال واليوربا في الجنوب. واليوربا أكبر شعوب نيجيريا حجما تفرعت قبيلتهم إلى بطون وأفخاذ وتجمعهم وحدة اللغة والأصل والعادات، وأكبر مدنهم أبادن وإليفي وأويو ولاجوس. يجاور اليوربا في جهة الشمال الهوسا والفولاني والنوفي وأبرز مدنهم سكوتو وكانو وزاريا وكاتسينا، واليوربا يرجعون في أصولهم إلى مصر التي جاء منها جدهم الأعلى عام 782 م، كما يقول العلامة شيف في كتابه "تايخ أويو"، وهو يستشهد لذلك بما أكدته الحفريات وآثار الأعمال اليدوية والفنية التي عرفت مع الأمم المصرية في عهد الفراعنة وعثر عليها في مدينة إليفي وأسعى من مدن يوربا القديمة، يؤكد ذلك الدكتور لوكاس الذي يستشهد بأدلة كثيرة منها أن هناك تقاربا وتجانسا بين لغة يوربا واللغة العربية. بل ويرجع مستر أبيعولا في كتابه عن الأجناس الإفريقية أنهم ينتسبون إلى قريش في مكة وأن يعرب هو جدهم الأعلى وأنه اشتق اسم يوربا.

البربر يتقدمون

أما الهوسا في الشمال فلا يعرف الكثير عن تاريخ ولاياتهم عدا أنها كانت قبائل تتقاتل فيما بينها، ولم تتجمع أو تتحد معا في دولة واحدة قوية، ولم تتوافر لديها القوة لتوحد الأرض كلها معا بالقوة، وكانت ولايات الهوسا في البداية ولايات وثنية العقيدة ثم دخلها الإسلام مع استقرار العرب في شمال إفريقيا وانتشار الإسلام على حواف الصحراء وتعمقه في داخلها وفيما وراءها، ويقول علماء الأجناس إن دولة الهوسا أقامها أناس من البربر الذين نزلوا الأرض وقاتلوا الزنوج الذين وجدوهم هناك وأنشأوا دولة قوية. يؤكد ذلك أن لغة الهوسا من لغات البربر، وربما يعني هذا أن البربر الذين جاءوا من الشمال أو الشمال الشرقي لإفريقيا كانوا كثرة في العدد فاضطر الناس إلى أن يتعلموا لغتهم وأن يستخدموها إلى جانب لغتهم الأصلية ثم جاءت أجيال جديدة فشبت تتكلم لغة الهوسا ولا تعرف غيرها.

ويقص الرواة أن هؤلاء البربر الآخرين كان لهم زعيم اسمه "باوو" وصل إلى منطقة داورا وتزوج ملكتها فكان له منها سبعة أولاد.. هؤلاء الأولاد السبعة أقاموا بعد ذلك المدن السبع التي كان يسكنها يومذاك المتكلمون بلغة الهوسا وأنشأوا سبع دول عرفت باسم "داورا ورانو وكانو وجوبير وزاريا وبيرام وكاتسينا (وهي الآن ولايات الشمال) ويضيف الرواة أنه كانت لباوو زوجات أخريات كان له منهن سبعة أولاد آخرون أقاموا بدورهم سبع دول في المدن السبع إلى الجنوب من الأولى كانت هي "زامفارا وكيبي ونوبي وجواري ويوري وكوارارفا وايلوري"، وتعمق هؤلاء بعد ذلك إلى الجنوب ليستكملوا غزو ممالك اليوربا.. ولكن لقلة عددهم كانوا أعجز من أن تكون لهم الغلبة الكاملة على اليوربا ولغتهم، وإن استطاعوا بعد ذلك مقاتلة الزنوج الذين وجدوهم هناك وأنشأوا دولة قوية.. وهكذا استقرت دولتا الهوسا في الشمال واليوربا في الجنوب.. واستطاعت كل منهما أن تحتفظ بتقاليدها وعاداتها ولغتها وموروثاتها مع مضي السنين.

الشمال الإسلامي

لكن حدث في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر أن غزا الفولاني إمارات قبائل الهوسا في الشمال. والفولاني ينقسمون إلى قسمين هما الفولاني الرعاة الرحالة، والفولاني المستقرون، وقد امتزج الفولاني بالشعوب التي أحاطت بهم وامتصت القبائل الزنجية أغلبهم مما يجعل سماتهم أقرب للزنجية اليوم، وإن كان الزنوج بحكم عقيدتهم الإسلامية لا يتزاوجون مع الوثنيين.

كان بين الفولاني وعاظ تتوافر لهم المعرفة والعلم، فلما نزلوا أرض الهوسا أيام حكم الملك منساموسي عملوا في التجارة والزراعة كجيرانهم من الهوسا، وكانت الظاهرة البارزة فيهم تمسكهم القوي بالإسلام. ويبدو أن زحف الفولاني إلى مناطق الهوسا كان متفاوت المد إن لم نقل إنه جاء على مراحل، بعضها قصير المدى، وبعضها طويل.. ولكن كان لا بد من وقوع أحداث معينة حتى يتم الغزو.

هنا نستمع إلى الأمير موسى أمير "بورجو" الذي التقينا به ورحب بنا كصحفيين عرب قادمين إلى بلاده.

لعلكم لم تسمعوا عن الشيخ عثمان دان فوديو، لقد كان مسلما تقيا ورعا تولى تدريس الدين في موطنه بأرض "جوبير" إلى الشمال من سكوتو إحدى إمارات الهوسا. ولم تكن جوبير كلها يومذاك إمارة إسلامية تماما مع أنه كان بها جماعات إسلامية قبل ذلك بسبعمائة عام، كان عثمان يهدف إلى تعليم الناس الإسلام الصحيح، وتكاثر الناس من حوله ينصتون لمحاضراته معتزمين أن يتبعوا أصول الدين القويم. وازداد إقبال الناس على دروسه حتى أن ملك جوبير الوثني بعث ابنه "يونفا" يطلب العلم على عثمان، فلما مات الملك "تافاتا" تولى الأمر ابنه، وبالرغم من أن الملك الجديد كان قد درس على الشيخ عثمان، إلا أنه- وهو لا يزال يدين بالوثنية - قبض على بعض أتباع دان فوديو وألقى بهم في السجن، ولكن عثمان ورجاله أطلقوا سراحهم وأخرجوهم من سجن الملك، وأرسل يونفا رسولا إلى عثمان يطالبه بأن ينصح أتباعه بالخضوع لقانون الملك وأوامره ونواهيه. وجاء الرسول علانية والناس في حضرة الشيخ ينصتون لدرس الدين فألقى على مسامعهم رسالة الملك وتهديده بإرسال جنده لاعتقال الشيخ نفسه وتدمير قرية ديجيل حيث يقيم عثمان بين جمع كبير المؤمنين، وساءت العلاقات، وترك عثمان جوبير وفر بأتباعه إلى جودو على الحدود الغربية لجوبير حيث تجمع الأنصار من حوله، وأرسل عددا من أتباعه إلى تلاميذه في مختلف البلاد يحملون أعلامه رمزا لتوليهم لحركة مقاومة ضد ملك جوبير تستهدف إخراج ملوك الهوسا الوثنيين من البلاد.

وأطلق الفولاني على عثمان لقب "ساركين مسلمي" أي قائد المؤمنين، وكان بين الجمع كثيرون من تلاميذ الشيخ من الهوسا، وبدأت حرب مقدسة في سبيل الله، وليس من الغريب أن يكون بين الهوسا مسلمون متدينون فيحاربوا من أجل قضية الدين.

الاحتلال الإنجليزي

واستمر القتال حوالي خمس سنوات، أحيانا ينتصر عثمان وأحيانا ينتصر يونفا، ولكن حدث أن مات يونفا واستطاع الأنصار أن يغزوا أرض جوبير وأن يغزوا زامفارا وزاريا وكاتسينا وكانو. وهكذا توطدت سيادة الفولاني وزعيمهم عثمان دان فوديو في كل إمارات الهوسا وهي سيادة مكنت في نهاية القرن التاسع عشر من أن تمتد إمبراطورية الفولاني على كل الولايات الشمالية ما عدا بورنو والمناطق الوثنية البعيدة.

ويضيف أمير بورجو الحاجي موسي: على أن الذي يجب أن أذكره لكم هنا هو أنه بانتهاء الحرب تقاعد الشيخ عثمان وتولى الحكم بعده ولداه، وقد تولى الابن الأكبر محمدو بللو الإمارات التي في شرقي البلاد من عاصمته سوكوتو، بينما تولى أخوه الأصغر عبدالله الإمارات الأخرى من عاصمته جواندو، ولقب ولاة الهوسا من الفولاني بالأمراء، وكان بعضهم في خدمة دولة سكوتو، وبعضهم في خدمة دولة جواندو، ومع مرور السنين كانت ولايات الهوسا تحاول الخروج على حكم الفولاني لاستعادة سيادتها، ولكن أمكن كبح جماح هذه الحركات وانتهت الحروب بتكوين مجموعة من الإمارات يحكم كلا منها أمير من الفولاني.

واستطاعت إمارات الفولاني مد نفوذها بعد ذلك في مناطق كثيرة في وسط نيجيريا وجنوبها من خلال سلسلة من المعارك والحروب الأهلية. حتى جاء الاحتلال الإنجليزي من خلال مسرحية "مؤتمر برلين" الذي عقد لتنسيق التسابق والتنافس على القارة الإفريقية بتقسيمها إلى مناطق نفوذ للمستعمرين.

وبدأت بريطانيا ترسل الجنود والحكام، وفي سنة 1914 كان الإنجليز قد سيطروا تماما على الأرض كلها وجعلوها كيانا واحدا باسم نيجيريا وأعلنوا ذلك رسميا عام 1914 بعد توحيد المحمية الشمالية ذات الأغلبية الإسلامية والمحمية الجنوبية مع مستعمرة لاجوس ذات الأغلبية المسيحية.

ماذا حدث في كانو؟

الحقيقة أن الدين لا يشكل عاملا أساسيا في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في نيجيريا، بل إنه في بعض الأسر يمكن أن يدين أفرادها بعدد من الديانات المختلفة فتجد بينهم المسلم والمسيحي والذي لا يؤمن بأي دين سماوي، بل إن شيخ الإسلام في لاجوس متزوج من سيدة مسيحية، كما أنه في داخل المسيحية توجد مرونة كبيرة بالنسبة للتعاليم فمن حق الزوج المسيحي أن يتزوج بأكثر من واحدة، وذلك بموافقة الكنيسة التي تستخدم المرونة باعتبار أن الكنيسة المسيحية الإفريقية لها استثناء يتفق مع العادات الإفريقية.

الصراع الطائفي ليس له وجود بارز في نيجيريا باعتبار أن الدين لله والوطن للجميع، وهناك وئام تام بعد أن اندملت الجراح القديمة واختفت النزاعات، ولم يعد هناك أي إحساس خلال تعامل الأفراد معا بأن هذا مسلم وذاك مسيحي، ولكن في بعض الأحيان تقع أحداث يكون سببها بعض التوتر الخارجي وسوء الفهم كما شاهدنا في الفترة الأخيرة من زيارتنا في الشمال من وقوع اضطرابات طائفية وفي مدينة "كانو" بالتحديد.

أما الذي حدث في ذلك اليوم من شهر أكتوبر الماضي من وقوع اضطرابات عنيفة دعت الرئيس بابا نجيدا إلى قطع رحلته في زيمبابوي والعودة إلى نيجيريا فورا، فقد كان السبب فيه هو وصول بعثة تبشيرية مسيحية إلى كانو يرأسها مبشر مسيحي ألماني اسمه جرهارد فوتك كان ظاهرها إقامة مهرجان في الهواء الطلق تحت شعار "الصحوة المسيحية" وكان قد سبق ذلك أن منعت الحكومة السماح بدعوة داعية إسلامي من جنوب إفريقيا كان ينوي إقامة لقاء مماثل. في ذلك اليوم فوجئنا عند وصولنا إلى كانو مركز الشمال الإسلامي بتدفق شباب الهوسا المسلمين عبر شوارع المدينة وهم يهتفون "الله أكبر" مما أدى إلى حدوث اشتباكات عنيفة في حي "سابون غاري" الذي يسكنه أبناء قبيلة الأيبو المسيحيون الذين هاجروا إلى كانو من جنوب شرق البلاد، وتبادل الجانبان إضرام النار في عدد من بيوت المسيحيين والمسلمين ومتاجرهم، وانطلقت المظاهرات الصاخبة للشباب المسلح بالعصي الغليظة والقضبان الحديدية، وسقط عشرات من القتلى والجرحى بينما كانت النيران تلتهم وسط المدينة. وأدى كل ذلك إلى انسداد الطريق الرئيسي الذي يربط المدينة بالمطار الدولي، فيما شهدنا الفريقين وهما يواصلان الاشتباكات لبسط السيادة على المدينة مما اضطر رجال الشرطة إلى استخدام الذخيرة الحية لوقف الاشتباكات الطائفية التي ظلت مستمرة طوال ثلاثة أيام في أول انفجار طائفي من نوعه في كانو خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو الثاني خلال العام الماضي في نيجيريا بعد الاضطرابات العنيفة التي شهدتها ولاية "بوشي" المجاورة والتي أودت بحياة نحو ألف من المواطنين خلال شهر أبريل الماضي.

النخيل الهامس

هكذا رأينا الموقف عندما وصلنا إلى المناطق الإسلامية في كانو وكاتسينا وكادونا وسكوتو.

كانت الرحلة التي قطعناها بن لاجوس وكانو بالسيارة طويلة مرهقة.. ولكن المتعة خلال الطريق كانت تغطي على هذا الإرهاق، عندما نخترق الغابات الاستوائية بأشجارها العملاقة ثم مناطق السافانا بشجيراتها القصيرة وطيورها الملونة والأراضي الزراعية الخضراء التي تمتد على مدى البصر وكان أجمل ما يهدئ النفس تلك الشواطئ الجميلة المطلة على المحيط الأطلسي قبل اختراق الداخل، فعلى مسافة ساعة بالسيارة من لاجوس تنبسط الأرض حيث مجموعات متتابعة من الشواطئ والمنتجعات، كان أروعها ذلك المنتجع المسمى "النخيل الهامس". المنتجع ينبسط على عدة أفدنة من الشواطئ المزهرة تتخللها أسراب متكاثفة من نخيل جوز الهند، كما تتمايل صفوف متراصة من الزهور ذات الألوان الرائعة تحت أشعة الشمس الحانية بينما نخيل الزيت يغطي الرمال بظلاله الممتدة.

الشيء المثير هنا هو مياه البحيرة الهاربة من المحيط وهمسات أمواجها الحانية على الشاطئ، بينما القوارب الصغيرة المليئة بالصيادين وهم يلقون شباكهم تمر في هدوء بين اللنشات والمراكب التي يدور بها السائحون في مياه البحيرة، قبل أن يعودوا إلى المنتجع ليواصلوا نزهتهم ومرحهم، ويشاركوا في ممارسة مختلف الرياضات في ملاعب التنس والكرة الطائرة والجمباز، ويجدوا راحتهم بعد ذلك في الغرف المجهزة التي يصل عددها إلى 16 غرفة متميزة بالأناقة والنظافة. وعندما يحين موعد تناول الطعام يتجه الجميع إلى المطعم الذي يبدو كأنه متحف، ليس فقط بأطعمته المتنوعة ولكن أيضا بالتماثيل التراثية الرائعة وبالحيوانات والطيور النادرة التي تشاهد داخل أقفاصها وهي تمرح وتلعب، أما النزهة على رمال الشاطئ فهي ممتعة خاصة بين ظلال أشجار الكاشيو وثمارها المتساقطة والتي يسرع المسئولون في المنتجع لالتقاطها حرصا على نظافة الشاطئ، وحين تنتهي الجولة يمكن الجلوس على الكازينو المطل على البحيرة والذي تتناثر على جوانبه الزهور والورود والأضواء وهي تتعانق وتتهامس على أنغام الموسيقى الهادئة الحانية.

من أبوجا إلى كادونا

وكان لا بد - ما دمنا في الطريق إلى الشمال عبر العاصمة الفيدرالية أبوجا- أن نلقي نظرة على المكان الذي تم اختياره لإزالة الحساسيات بين الهوسا واليوربا. مقاطعة أبوجا تقع أعلى المنخفضات الحارة الرطبة في النيجر وأسفل المناطق الجافة في شمال البلاد، وهي عبارة عن سهل منحدر يتراوح انحداره بين 300 قدم في الجنوب الغربي وألفي قدم في الشمال الشرقي، ونمر خلال هذا السهل على بعض المرتفعات الصخرية التي تلفت أشكالها النظر برءوسها السوداء التي تبدو كأنها قبعات أو عمامات.. العمارة الحديثة في المدينة لاتزال تحت الإنشاء وإن كان المسجد المركزي قد تم بناؤه على الطراز المغربي وتتضمن الخطة الرئيسية لأبوجا مخططات للعديد من المنشآت بينها حدائق وملاعب للأطفال كما تتضمن وسائل المحافظة على الحياة الطبيعية وإنشاء محميات ومنتجعات سياحية. ولأن سكان أبوجا في أغلبهم مزارعون فهناك اهتمام بتنمية الإنتاج الغذائي حتى تصل المقاطعة إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي. وللحفاظ على تنمية التراث الحضاري تبذل الجهود لإنشاء مراكز ثقافية في الأحياء الريفية وللتوسع في تنشيط المجالات الثقافية والحفاظ على التراث الحضاري لمختلف المجتمعات القبلية في نيجيريا.

من المشاهد التي لا تنسى خلال هذه الرحلة البرية في وسط نيجيريا منطقة شلالات أويو في ولاية كوارا. المنظر رائع ونحن نطل على المسقط المائي الذي تتلألأ مياهه تحت أشعة الشمس والذي يعتبر أعلى الشلالات الطبيعية في غرب إفريقيا، المياه تتساقط من ارتفاع حوالي مائة متر وتخترق مجموعات متتالية من الصخور الناتئة لتصل إلى البحيرة المنبسطة بمياهها المثلجة لتسير بعد ذلك في مجرى النهر بين صفوف من أشجار تزيد المشهد روعة وجمالا.

مجتمع كانو

ونصل إلى كانو، أكبر مدن الشمال، وأحد المراكز الرئيسية القديمة للتجارة بين نيجيريا والصحراء الكبرى، ويعتبر أمير كانو من كبار الأمراء في الشمال وقصره أحد المعالم الرئيسية التقليدية في الحي القديم بجوار المتحف الوطني. مدينة الهوسا القديمة تختلف في معالمها تماما عن المدينة الحديثة التي تعتبر أحد المراكز الصناعية المتميزة كما أنها مركز للاتصالات بين مناطق الهوسا في الشمال النيجيري.

قصر الأمير في كانو يلفت النظر بجدرانه وأسواره وبوابته التقليدية، والأسوار هي بعض المعالم الرئيسية في المدينة حيث كانت تحيط بكانو القديمة بمحيط يصل إلى حوالي 18 كيلو مترا وبوابات تصل إلى 16 بوابة، ويضم بداخله المدينة والقصر الأميري والمسجد المركزي الذي يعتبر من أكبر المساجد في نيجيريا. والمتحف الوطني المقام غير بعيد من قمر الأمير والمسمى "جيدان مقاما" يحكي كل تاريخ كانو ومظاهر الحياة في مجتمعات الهوسا والفولاني، وهو بالإضافة إلى ذلك أحد المعالم المعمارية الأثرية الفنية التي تبرز صورة العمارة الإفريقية المتأثرة بالفنون الإسلامية في شمال إفريقيا.

تضم ولاية كانو ثلاث مجموعات حضارية هي الهوسا والفولاني والكانوري، وبالرغم من هذا التعدد الطائفي فإن الترابط الديني يعطي الإيحاء بواحدية الثقافة التي تؤكدها الأنشطة الثقافية والأزياء التقليدية المتشابهة. أما الأعياد الإسلامية فتجري في عيدي الفطر والأضحى بطريقة مميزة يشترك فيها أمير كانو، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يكون لكل مجتمع أعياده الخاصة مثل صلاة "جاتا" عند الكانوري و "شار" عند الهوسا وهي تنتمي كلها إلى الأعياد التقليدية للقبيلتين. أما الشعب كله فتجمعه الموسيقى الشعبية حيث يتميز أبناؤه بالبراعة في صناعة الآلات الموسيقية الشعبية مثل "الكونسو" وهي آلة صغيرة تشبه الطبلة، والجاراي والجوري والكوج.

الزراعة هي المصدر الاقتصادي الرئيسي في الولاية التي تتمتع بأحدث بنية أساسية لزيادة الإنتاج الزراعي، أما المحاصيل فمتباينة حيث تعتمد بشكل رئيسي على الكاكاو والفول السوداني الذي نشاهد تلاله في كل مكان، كما يقوم أنجح مشروع لإنتاج القمح على مستوى إفريقيا، ومن أجل التنمية الزراعية تمت إقامة العديد من السدود في مختلف المناطق، كما أن هناك برنامجا خاصا لإنتاج القمح وتنميته. وتعتبر كانو منطقة صناعية كبرى حيث يوجد بها حوالي 500 منشأة صناعية تتراوح بين الصناعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة.

الصورة المتميزة في كانو هي العملية التعليمية التي تحاول الوصول إلى مستوى متقدم للتخلص من السمعة القديمة بأنها متأخرة تعليميا. وقد تبوأت الولاية دورا قياديا لمحاولة اللحاق بالجنوب وذلك بفضل البرامج التعليمية التي تتبعها لتثقيف الشعب وتعليم القبائل. وهناك اهتمام بارز بتعليم النساء وبالتعليم الفني والمهني، ومن خلال هذه البرامج التعليمية الإسلامية والتقنية أصبحت كانو متميزة بالمقارنة بجميع ولايات ومدن الشمال.

سيف بابا جيدا قاتل الثعبان

أما ولاية كاتسينا فهي من أبرز مناطق الشمال ويقطنها حوالي خمسة ملايين نسمة يعمل 75% منهم بالزراعة والإنتاج الغذائي. وهناك خطط واضحة تربط جميع الخطط الزراعية وإنتاج المحاصيل مع اهتمام زائد بمنع التصحر حيث يجري تشجيع زراعة الشجر على حدود الصحراء.

يروون في كاتسينا قصة نسمع تفاصيلها عندما نزور بئر كسوجو في داورا، فهم يحكون أنه كان يعيش في هذا البئر ثعبان يدعى "ساركي" لم يكن يسمح للأهالي بأخذ المياه إلا مرة واحدة في الأسبوع، وجاء شاب يدعي بابا جيدا دخل في معركة مع الثعبان حتى قتله، وقد اعتبر بابا جيدا بطلا شعبيا ويحتفظ بسيفه الذي قتل به الثعبان في قصر الأمير.

وقصر أمير كاتسينا وداورا يمثل المعمار التقليدي إلى جانب بوابة كوفاريانداكا ومئذنة "جوبار" التي أنشئت منذ ثلاثة قرون، ومن المعالم الرئيسية في كاتسينا كلية المعلمين القديمة التي تعتبر أقدم كلية في شمال نيجيريا وقد أنشئت عام 1922 بالطين والطفلة، ومقبرة أول ملوك الهوسا في "دوربي تاكوشي".

مقر السلطان

ونختتم زيارتنا للشمال النيجيري في ولاية سكوتو أهم ولايات الاتحاد من ناحية الأعياد التقليدية. هنا تجرى الاحتفالات والأعياد السنوية على فترات ذات هدف أساسي وهو إظهار المعتقدات الحضارية والدينية للمجتمعات القبلية، ومن هذه الأعياد ما يسمونه الوهولا والواسان باورا، وصلاة مهرجان الصيد، وهو من أهم معالم الجذب السياحي في سكوتو.

ومن المعالم التاريخية في الولاية قصر السلطان ومقبرة الزعيم الديني عثمان دان فوديو وبعض أحفاده، كما نشاهد بها الساحة التي دارت فيها المعارك بين الفولاني والقوات البريطانية، ومن معالم المدينة أيضا بواباتها الثماني، والمكتبة التاريخية والمتحف الوطني الذي يضم العديد من المنتجات اليدوية التاريخية والتي يرجع تاريخها إلى عهد الخلافة الإسلامية في سكوتو.

سكوتو هي مقر السلطان الإمام والزعيم الروحي للمسلمين في كل أنحاء نيجيريا، وهي المركز الرئيسي للأنشطة الإسلامية في البلاد.

ومجتمع سكوتو لا يزال يمارس العادات والتقاليد التي ظلت تتبع مئات السنين، وإن كانت أشياء كثيرة قد تغيرت منذ حركة الجهاد التي قام بها الشيخ عثمان دان فوديو والذي كان يسعى نحو تنقية العقيدة الإسلامية مما شابها من بدع وتقاليد ارتبطت بالديانة الوثنية والتي كانت سائدة في بلاد الهوسا مثل وضع التراب على الرءوس عند التحية وضرب الطبول والمزامير وشرب الخمر، وقد تبعه في ذلك محمد بللو الذي أفتى بتكفير العادات السيئة وتكفير من يمارسها وخاصة عادة السورو التي كان يتبعها الفولاني من الرعاة لاختبار التحكم في النفس، فقد كانت بعض العائلات تضع الشاب موضع الاختبار وسط حلقة ويحمل صينية فوقها بعض الأشياء ويستعد لتلقي ضربات السوط من أي فرد من أفراد العائلة الذين يشكلون الحلقة، فإذا سقطت الصينية أو الأشياء التي فوقها أصبح موضع السخرية من الجميع.

عادات وتقاليد الزواج

على أن الاحتفالات في مجتمع سكوتو لا تزال تمارس بشكل لا يختلف كثيرا عما كان متبعا من قبل. مثل الأعياد الإسلامية حيث يجري الاحتفال بعيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوي. ففي عيد الفطر يفد العمد والحكام والقضاة والفرسان وأفراد عائلة الأمير وأتباعهم إلى المدن الكبرى في أبهى الحلل المزركشة بالذهب والفضة، ويتجمع هؤلاء في ساحة كبيرة خارج المدينة في انتظار موكب الأمير، وعندما يحضر يحيط به حرسه من أصحاب الألقاب. وبعد الأذان والتكبير لصلاة العيد تبدأ الخطبة باللغة العربية وبعد الصلاة يتوجه الناس إلى الساحة التي تقع أمام قصر الأمير- وهو السلطان الآن- لينظروا إلى قدوم موكبه وأبهته، حتى إذا وصل إلى القصر ألقى خطابا ينصح فيه الناس في الأمور التي تتعلق بدينهم ودنياهم.

من العادات الأخرى ما يتعلق بالزواج حيث توجد احتفالات خاصة بالخطبة وأخرى بالزفاف، ويتم الاحتفال في منزل والد الفتاة وتكون على نفقة الخطيب الذي يرسل كميات من الثمار والحلوى لتوزيعها على الأصدقاء والجيران والأقارب، وفي يوم الخطبة يتوافد المدعوون ثم يبدأ الحفل حيث توزع الهدايا والحلوى، وقبل الزفاف يقوم العريس بإهداء عروسه عددا من الثياب وكمية من الصابون والروائح العطرية، وفي يوم الزفاف يقام حفل كبير خارج البيت وتقدم "النقطة" للعريس بين إنشاد المداحين.

ويختلف المهر من قبيلة ومن إمارة إلى أخرى في مجتمع سكوتو، ومن أمثلة ذلك أن يرسل العريس هدية مالية في بداية الأمر إلى والد العروس يحتفظ بها لحين مناقشة موضوع الزواج مع أفراد أسرته، وإذا تمت الموافقة تدور مناقشات حول قيمة الصداق والذي يدفع جزء منه مقدما، بينما يبدأ العريس في إرسال هدايا صغيرة لعروسه، وبعد ذلك يحدد مبلغ آخر لعقد القران ومبلغ آخر للشيخ الذي يعقده، وبعد ذلك ترسل العروس إلى منزل زوجها.

وحول الزواج فإن تعدد الزوجات مسموح به بين مختلف الطبقات، وهناك عادة أن الزوج يستحي من والد زوجته ووالدتها ويحترمهما إلى حد كبير، وتستحي الزوجة أيضا من والد زوجها ووالدته، ومن العادات المرعية أن الزوجة لا يمكن أن تدعو زوجها باسمه أو اسم والده أو والدته بل تخاطبه بقول "مالم" أي معلم، وزواج الأقارب هو المفضل وإن كان هناك أيضا زواج الحب وزواج الصدقة، وفي هذا النوع من الزواج يجهز الوالد ابنته ويجمع أصدقاءه ويحضر الشيخ ويذكر الأب أنه قرر إعطاء ابنته صدقة لفلان، وغالبا ما يكون العريس إما شيخا أو رجلا يتيما، ويقدم الوالد هدية لابنته بمثابة صداق لها، وبعد أن يدعو الوالد الشهود ويعلن اسم الرجل الذي سيعطيه ابنته كزواج صدقة وقيمة مبلغ الصداق يصطحبهما إلى بيت العريس، وعند الاحتفال يطلق على هذا العريس اسم محمد مهما كان اسمه الحقيقي وتعتبر الفتاة وكأنها أعطيت صدقة زواج للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه..!

والمسلمون لا يتجاوزون في الزواج أربع زوجات، والمرأة عادة هي التي تلح على زوجها باتخاذ زوجة جديدة وذلك للتخفيف من أعبائها المنزلية والاستمتاع بالسلطة والرئاسة التي تمارسها على الزوجة أو الزوجات الجديدات، وتسمى الزوجة الأولى ربة بيت "ابوارجيدا" ويكون بيتها إلى الشمال وبيت الزوجة الثانية إلى الجنوب في حوش الأسرة، وتتمتع أقدم الزوجات بمركز خاص، فلها الإشراف على بقية الزوجات، وربما يعهد إليها الزوج بإدارة شئونه المالية كما يكلفها بتوزيع الذرة والحبوب الأخرى على زوجاته الأخريات، كما يحق لها استقبال ضيوف زوجها في حالة غيابه.

والطلاق شائع في مجتمع سكوتو، وتطلبه الزوجة كما يطلبه الزوج على حد سواء، ومن أهم أسبابه إهمال الزوجة للأعمال المنزلية أو لسبب العقم أو ضعف صحة الزوج أو عدم قدرته على إعالتها وإشباع رغباتها.

ومع كل ذلك فإن النظام في ولاية سكوتو وفي مختلف إمارات الدولة لا يعطي الحق للأمراء في التدخل في الأمور السياسية أو تنظيم الحكم. فكل ذلك متروك للأجهزة الحكومية التي تمارس دورها في ظل نظام الحكم القائم.

على طريق الديمقراطية

وتلك في الواقع قصة تحتاج إلى متابعة التطورات الأخيرة التي تجري في نظام الحكم في نيجيريا.. كما سمعنا بعض تفاصيلها خلال لقائنا مع وزير الإعلام آلكس أكينيل:

لقد ظهرت الذاتية السياسية المعروفة باسم نيجيريا إلى الوجود الرسمي عام 1914 بعد توحيد المحميتين الشمالية والجنوبية مع مستعمرة لاجوس. كان يشرف عليها حاكم عام بريطاني، ولضمان السيولة الإدارية، قسمت البلاد إلى أربعة أجزاء، أو بالأصح إلى مستعمرة لاجوس، ثم الأقاليم الشمالية، والأقاليم الشرقية، والأقاليم الغربية.

وبمقتضى دستور عام 1922، أدخل البريطانيون في نيجيريا لأول مرة، مبدأ الانتخاب المباشر إلى المجلس التشريعي لصالح كل من لاجوس وكلابار، أما دستور ريتشاردز لعام 1948 فقد منح المديريات مسئولية إسداء النصح للحكومة المركزية في الأمور التي لها تأثير مباشر عليها، أي على المديريات، وبحلول عام 1951، إذا بدستور جديد يحول المديريات إلى مراكز إقليمية، وبناء على هذا التنظيم استطاعت الأحزاب السياسية أن تثبت أقدامها حقيقة في نيجيريا وفاز المجلس الوطني لنيجيريا والكاميرون (NCNC) بالسيطرة على حكومة الإقليم الشمالي، بينما جماعة العمل (AG) هم الذين كانوا الحزب المسيطر في الإقليم الغربي.

وفي عام 1957، حصلت الأقاليم الشرقية والغربية على الحكم الذاتي، أما الإقليم الشمالي فقد حصل على نفس الامتياز بعد ذلك بعامين، وفي أول أكتوبر من عام 1960، أصبحت نيجيريا قطرا مستقلا وخلق الدستور حكومة فيدرالية تقوم على النظام البرلماني للبلاد، وعلى المستوى الفيدرالي تكون البرلمان من مجلس نواب (المجلس الأدنى) ومجلس الشيوخ (المجلس الأعلى)، وعلى مستوى الأقاليم، فإن النظام كان واحدا إلى حد كبير مع فارق بسيط جدا في التسمية. مجلس الجمعية العمومية (المجلس الأدنى) ومجلس الرؤساء (المجلس الأعلى).

شهدت البلاد بعد ذلك سلسلة من الانقلابات العسكرية وتغيرت رئاسة الجمهورية أكثر من مرة حتى الأول من أكتوبر عام 1979 - أي بعد 13 سنة من استيلاء العسكر على الحكومة- إذ حدث أن نظام أوباسنجو سلم الحكم إلى حكومة مدنية منتخبة يرأسها الحاجي شيهو شاجاري كرئيس دولة منفذ، مفتتحا بذلك الجمهورية الثانية افتتاحا رسميا.

ولكن الجمهورية الجديدة استمرت فقط أربع سنوات وثلاثة أشهر قبل أن يستولى الانقلاب العسكري بقيادة اللواء محمدو بحاري على الحكم لكي يتعرض للعزل مرة أخرى بعد عشرين شهرا فقط ويجيء من بعده الرئيس إبراهيم بابا نجيدا.

كانت الإدارة البابا نجيدية التي استردت منصبها في السابع والعشرين من أغسطس عام 1985، تعتبر الحكومة الثامنة لنيجيريا منذ الاستقلال والحكومة العسكرية السادسة، وقد طردت الإدارة المجس العسكري الأعلى الاسمي وأرضخته للمجلس الحاكم للقوات المسلحة. كما تغير لقب رئيس الهيئة الذي هو قائد الجيش الأعلى إلى رئيس الهيئة العامة الذي هو قائد الجيش العام، لقد انتحل الجنرال بابانجيدا شخصيا لقب رئيس الدولة كما هو منصوص عليه في دستور عام 1979.

وفي مايو عام 1989 أعلنت دستور جديد وتم خلق 149 منطقة حكومية محلية جديدة، جاعلة العدد 449 هو العدد الكلي لمناطق الحكومة المحلية في الاتحاد، أما الدستور الجديد الذي من المفروض أن يمارس سلطاته في الأول من أكتوبر عام 1992، فيحتفظ بالنظام الرئاسي ولكنه لا يسمح بوجود أكثر من حزبين شرعيين فقط. إن الحزبين السياسيين المسجلين شرعيا، اللذين أعلن عنهما الرئيس بابانجيدا في كل من التلفزيون والراديو في السابع من أكتوبر سنة 1989 هما الحزب الديمقراطي الاشتراكي "SPD" والمؤتمر الجمهوري القومي "NRC".

لقد وعد الرئيس بابا نجيدا بأن يعتزل السلطة ويسلمها للمواطنين المنتخبين بطريقة ديمقراطية في عام 1992 واقترح برنامجا سياسيا محكما يساعد على الانتقال إلى الحكم المدني في عام 1992.

وتجري الآن أول انتخابات حكومية محلية على أساس حزبي سياسي، أما الانتخابات لاختيار مشرعي الدولة ومنفذيها فسوف تتم بعد الانتخابات الحكومية المحلية.

أما الإحصاء السكاني القومي فسوف يتم إجراؤه في عام 1992، وكذا الانتخابات للمشرعين الفيدراليين، ويجتمع المجلس القومي في النصف الأول من عام 1992، أما التحرر النهائي من الحكم العسكري فسوف يتم في النصف الثاني من نفس العام بعد الانتخاب الرئاسي وأداء اليمين القانونية للرئيس المدني الجديد.

وفي ذلك يقول الرئيس بابا نجيدا: لقد بدأت جذور الديمقراطية تثبت في الأرض. ولدينا أمل وثقة في أننا نسير على الطريق الصحيح. قد تكون هناك بعض الأخطاء والانتقادات، ولكنها غير ذات أهمية وغير قادرة على التأثير على عملية خلق ديمقراطية فعالة مبنية على نظام الحزبين.

إننا في غاية السعادة لتصميم كل من الجيش والشعب عل إتمام برنامج الديمقراطية بنجاح. وكل المؤشرات التي تصل إلينا داخل القوات المسلحة توضح إيجابية رد الفعل لبرنامج التحول السياسي. والجيش يصمم على نجاح الديمقراطية هذه المرة. وإذا كان الشعب النيجيري مصمما على رؤية نهاية الحكم العسكري فلن يكون هناك حكم عسكري. ويبدو لي أن هذا سيكون آخر حكم عسكري في نيجيريا.