واحة العربي

واحة العربي

الجمل
الصديق التاريخي الذي - كان - يجوب الأصقاع بالأفكار والقوت والفلسفة والأشعار

بعد سنوات قليلة سوف يصدر العالم العربي كتابا تذكاريا عن الجمل، ونحاول أن نرسمه لأحفادنا في الكراسات وعلى السبورات وشاشات الكمبيوتر، بيدنا الكريمة التي توقف تلامسها مع العالم في حدود القلم والورق والجريدة ومقابض السيارات والبيوت والأزرار والمصاعد، وعيوننا الكليلة التي لم تعد تمتد إلى آفاق أكثر رحابة من أوراق البنكنوت ومذكرات الساسة وألعاب الفيديو، مع أن علاقتنا نحن العرب بالجمل لم تكن كأي علاقة أخرى مع أي كائن آخر، فإن كان الحصان شجاعة وفروسية ونبلا وسيفا وفتحا، وإن كان الثور والبقرة حرثا ودرسا وغذاء، وإن كانت الشياه لحما ولبنا وملابس، فإن الجمل كان كل ذلك ويزيد، هو هودج التاريخ يتهادى حاملا الحضارة العربية: الكتاب والزاد والأفكار والفلسفة ودواوين الشعر إلى شتى الأصقاع، ابن صحراء خالص استقطر من الصحراء صفرة الجلد والصبر على العطش وتحمل المكاره واختزان القوت والرغبة في الثأر والانتقام، طيب يحب الكلمة الطيبة كالوالدين، متحرر يعشق التنفس في الهواء الطلق بعيدا عن الأبنية ذات السقوف كقدماء الكهنة والزاهدين والمتصوفة والباحثين عن حقيقة الوجود، أحمق - ليس كالصحراء فقط - بل وكالمرأة المطلقة، هادئ كالموظفين المحالين إلى الاستيداع، ساذج - وبالغ السذاجة - أكثر قليلا من العاملين في مجال الوعظ والنصح والإرشاد، رزين رصين كالذين أثقلهم الدهر بالمصائب ليصبحوا محكمين في المجالس، طيع مطيع ودود لطيف كالعرائس في الأسبوع الأول من التزاوج، صادق كالدقائق الخمس السابقة على انتهاء الأجل، لا يحب الأذى من أقرب الناس ولو كان صاحبه شديد الاحتفاء به، رأيته في قريتنا يدك البيت بعوارضه ويقتحم المكان حتى يصل إلى صاحبه ليفترسه، لكنه في الأمان والاطمئنان يسير الهوينى وراء صبي صاحبه ولو بدون مقود، ولم يكن أكثر زهوا لعروس من الاحتفال بها في هودج جمل مزخرف بآيات من الزهور والتألق وقماش الساتان، كما كان من حظ جيلنا أن يلحق بمهرجان المحمل في المولد النبوي الشريف، كانت قريتي تخرج بجمالها المنمقة السامقة المتهادية وراء الخيول بالطبل والزمر و الصياح المتلألئ بالبشرى والأهازيج، وبالصخب نفسه كانت الجمال تخرج بالبشرى لأول رمضان المعظم، يتحاطب الفرسان أمامها وتقام حلقات الفروسية وتنطلق الأعيرة النارية ابتهاجا فلا تنزعج، وعندما داهمت السيارات الأفراح أصبحت انتقالا سريعا ضاجا يخلو من السرور والزياط وانتشاء الجماعات في مواسم التكاثر، واستبعدت الجمال من أفراحنا لتتحول إلى حمالات الحطب والقطن والقصب، ففقدت الجمال رشاقتها وشاب تكويناتها تضخم وتكاسل، وحتى الذكور ازدردت صوتها المجلجل كصوت انسكاب المياه من القلل، وابتلعت حناجرها واستسلمت للاجترار والبروك في البيوت المسقوفة كي تعاني من السأم والملل والجرب وجراح محامل الليف الخشن، ولم يبق من عالم الجمال الأصيلة إلا مجموعات متناثرة في الصحراوات البعيدة تحتفظ بنحافتها الرشيقة وسرعتها المنطلقة وكأنها بقايا قصيدة فخر قديمة، ويقوم أصحابها بتنظيم آخر مهرجانات الهجن في الإمارات والكويت والمملكة العربية السعودية، وقد تلاشى هذا من سائر الأقطار العربية الأخرى.

ولعلنا سنعاني أكثر حينما نضطر أن نشرح لأحفادنا بأن الجمل العربي حيوان طيب عايشناه وعايشنا خلال أحقاب التاريخ، وأنه يختلف عن الديناصور، وعن الزرافة، وعن الجمل ذي السنامين، وعن حيوان اللاما، ويختلف أيضا عن هذا الحيوان الهزيل المرسوم على علبة السجائر الأمريكية.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات