جميل صدقي الزهاوي (شاعر العدد)

جميل صدقي الزهاوي (شاعر العدد)

الزهاوي.. شاعر العقل ومعري العصر

قال عنه طه حسين: «لم يكن الزهاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار. فقد كان مربياً لهذا الجيل الشعري؛ إذ كان شاعر العقل، وكان معري هذا العصر».

ويبدو أن طه حسين عرف هذا الشاعر جيدا ليلخصه وهو يرثيه بمثل هذه العبارات التي تشير إلى بعض خصائص الرجل شاعرا ومفكرا وسياسيا ومناضلا وفيلسوفا ومنافحا عن الحرية والحق والمرأة الشرقية.

ولد جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزهاوي في العاصمة العراقية بغداد العام 1863م لأسرة تعود جذورها إلى أصول كردية، بالرغم من أن بعض الروايات تشير إلى أن الأصول القديمة الضاربة في عمق الأنساب العربية ترجع إلى قبيلة بني مخزوم.

وتلقى الزهاوي علومه الأولية في الكتاتيب ثم درس على يد والده وبعض علماء عصره مبادئ اللغة العربية ونحوها وصرفها وشعرها. ويبدو أنه أحب هذه اللغة بالرغم من أنها لم تكن الوحيدة التي تعلمها وأتقنها، فقد تعلم أيضا القراءة والكتابة باللغة الكردية التي تعتبر لغته الأم، بالإضافة إلى اللغة التركية واللغة الفارسية، والقليل من اللغة الإنجليزية.

وقد أكمل شاعر العقل - كما أطلق عليه مجايلوه من الأدباء - تعليمه العالي في مدارس ومعاهد بغداد كما ذهب إلى تركيا لتحصيل العلم أيضا. وبالرغم من هواه الشعري المبكر والذي تجلى في قراءة المتنبي بشكل مكثف ومبكر، فإن هذا لم يمنع من الإعجاب بالروايات المترجمة من اللغات الأوربية إلى العربية والتركية. بالإضافة إلى دراسته للفلسفة والقانون وهو ما أهله للعمل عضوا في محكمة الاستئناف في بغداد بعد رحلة وظيفية بدأها مدرسا في بعض مدارس بغداد، ثم عضوا لمجلس المعارف فمديرا لمطبعة الولاية ومحررا صحفيا لجريدة «الزوراء» التي تعتبر أقدم جريدة عراقية.

ولم يستمر طويلا في محكمة الاستئناف إذ تركها بعد أربعة أعوام لرغبته في السفر إلى اسطنبول، وهناك تأثر بالكثير من الأفكار الغربية التي وفدت إلى بلاد الشرق عبر بوابة اسطنبول المفتوحة على الجهتين. وعندما عاد إلى بغداد بعد عدة أعوام قضاها في تدريس الفلسفة الإسلامية والقراءة والدرس وتكوين الآراء الخاصة في العديد من القضايا السياسية والفكرية عين مدرسا في مدرسة الحقوق، وانضم إلى حزب الاتحاديين، حيث مثله لدورتين في مجلس «المبعوثان» وعندما تأسست الحكومة العراقية عين عضوا في مجلس الأعيان، وكانت شخصيته الشعرية قد تبلورت في الكثير من القصائد، باللغتين العربية والفارسية،التي كتبها عبر مراحله العمرية والوظيفية المتلاحقة، وكان ينشرها تارة باسمه الحقيقي وأخرى باسم مستعار في العديد من المطبوعات الذائعة الصيت آنذاك، مثل: «المقطم» و«المقتطف» المصريتين.

وتميزت قصيدة «الزهاوي» بسمتها الفكري العميق والذي اتكأ على معرفة واسعة بالفلسفة، وانحيازاً لعصر العلم. وكان من السهل تمييز تلك القصيدة مقارنة بقصائد ذلك الزمان، لاحتشادها بمصطلحات علمية وفكرية وفلسفية، لكن ذلك السمت لم يفقد قصيدة الزهاوي طلاوتها وانسيابيتها فقد كان يملك موهبة شعرية كبيرة استغلها في تقديم أفكاره الفلسفية والعلمية عبر قواف تترى. وقد أورثته تلك الموهبة الكبيرة اعتزازا شديدا بالنفس، سهل له أن يرى نفسه فوق جميع شعراء عصره بمن فيهم معروف الرصافي الذي كان يعتبره تلميذه، وأحمد شوقي الذي كان يراه أقل من تلميذه في الموهبة الشعرية!

وقد حفل مجلس الزهاوي المعروف في أحد مقاهي بغداد العريقة - والذي سمي فيما بعد باسمه - بالكثير من المناوشات والمساجلات والمداعبات الشعرية والفكرية بينه وبين الكثير من زملائه الشعراء وبعض محبيه ومريدي وقراء الشعر في ذلك العصر. ويروي مؤرخو تلك الحقبة أن الزهاوي كان يصر على رأيه في كل مناظرة أو مناقشة يشترك فيها حضور مجلسه في ذلك المقهى، معتمدا على معرفة علمية شكك بها البعض ورآها مجرد ادعاء لجأ إليه الشاعر الذي لم يكن يقبل الرأي الآخر غالبا، لتكون حجته الأخيرة أمام من لا يملك القليل من المعرفة بها.

لكن القضية الأهم التي اشتهر الزهاوي بالترويج لها - مخالفا بذلك معظم آراء الناس في عصره - هي قضية تحرر المرأة الشرقية، فدعاها إلى ترك الحجاب، واعتماد ما كان يسمى بالسفور، أي ارتداء الملابس وفقا للموضة الغربية.

لكن دفاعه المستميت عن نساء الشرق لم يكن قضيته الوحيدة، فقد اشتهر الزهاوي بدفاعه المبدئي عن العرب، عندما كان عضوا في مجلس «المبعوثان» التركي، في الوقت الذي كانت فيه معظم البلاد العربية تحت الهيمنة التركية بزيها العثماني. كما أنه وقف إلى رجال في ثورة العشرين ضد الحكم الإنجليزي في العراق، بالرغم من استياء المندوب السامي البريطاني، وعندما أعلن النظام الملكي في بغداد العام 1921م رفض الزهاوي بأنفة الشاعر الحقيقي أن يكون شاعر البلاط، كما طلب منه الملك فيصل الأول آنذاك.

توفي الزهاوي في بغداد العام 1936م تاركا وراءه الكثير من العناوين الفلسفية والعلمية والفكرية، بالإضافة إلى بعض المؤلفات الأدبية نثرا مثل «كتاب النثريات»، و«الخيل وسباقاتها»، ورواية «ليلى ومسير»، وشعرا تجلى في عدة دواوين هي «الكلم المنظوم»، و«ديوان الزهاوي»، و«ثورة الجحيم» و«الأوشال» و«الثمالة»، أما «رباعيات الزهاوي» فقد كانت ترجمته الشعرية لرباعيات الخيام عن أصلها الفارسي.

 

 

 

سعدية مفرح