تحولات صلاح عبد الصبور

تحولات صلاح عبد الصبور

كان الترحيب اليساري بديوان الناس في بلادى طاغيا، إلى الدرجة التي لم ينتبه فيها اليسار الغالب إلى البعد الوجودي الذي انطوت عليه قصائد لم يتسلّط عليها الضوء اليساري الذي كان يبحث في قصائد الناس في بلادي عما يتجانس ومنطلقاته الفكرية، غير منتبه إلى وجود قصائد مغايرة لم تخل من الهم الوجودي أقصد ذلك الهم الذي سرعان ما تصاعد بعد العام السابع والخمسين، خصوصا بعد أن قاد خرتشوف حملة تعرية الستالينية والكشف عن كوارثها في الاتحاد السوفييتي الذي أخذ أدباؤه من أمثال إيليا اهرنبورج يكتبون عن ذوبان الجليد وأضاف إلى تعرية الستالينية غزو الاتحاد السوفييتي للمجر، وقمع ثورتها الشعبية التي أعدم قادتها المرتدون، فيما رآه صلاح جريمة غزو لا تختلف كيفيا عن جريمة العدوان الثلاثي على مصر.

كانت الوجودية هي الوسط الذهبي الذي يبقي على الميل إلى العدل الاجتماعي والنزعة الفردية على السواء وقد ظل هذا الوسط الذهبي بمنزلة وصفة سحرية أو صيغة توفيقية، واجه بها الكثيرون الجذرية الماركسية السوفييتية الستالينية والجذرية الليبرالية ولاغرابة، والأمر كذلك أن يكتب صلاح عبد الصبور ديوانه الثاني «أقول لكم» سنة 1961، من منظور وجودي واضح، أغضب الرفاق الذين كان أغلبهم في السجون الناصرية، والذين رأوا في الديوان ردة فكرية، ونظما بلا شعر، فاتفقوا مع أنصار المدرسة التقليدية التي أصبح العقاد وثنها الأكبر في الهجوم على الديوان، من منظورين متناقضين لكن يجمعهما وحدة الهدف.

وأتصور أن الهجوم على «أقول لكم» دفع صلاح إلى وضع أفكاره ومعتقداته الشعرية موضع المساءلة الجذرية، خصوصا بعد أن هاجم لويس عوض الديوان، ورأى فيه تراجعا فنيا للشاعر الذي فرح بوعوده الإبداعية فرحا غامرا، عندما أصدر ديوانه الأول، وكانت نتيجة المراجعة - فكريا- الارتحال عن الوجودية إلى نزعة إنسانية، لم تكن تفترق جذريا عن الإنسانية الجديدة التي انحاز إليها لويس عوض بعد تحوله عن الماركسية وفى الوقت نفسه، كانت نتيجة المراجعة، إبداعيا، الإيمان بأن علاقة الشاعر بنفسه، في مدى الصدق مع الذات، يجب أن تكون أكثر وثوقا وحميمية من علاقته بالعالم، حتى يستطيع أن يعيش إزاء عصره، لا فيه، وأن الفكر لابد أن يذوب في الشعر لا أن يعلو عليه، وأن امتزاج العقل والقلب في القصيدة هو الخطوة الأولى التي ينطلق منها الشاعر ليصوغ بها رؤيته للعالم، أو تحليقه في المدى اللانهائي للكون بجناحي الفكر والشعور، وأضيف إلى نتيجة المراجعة اكتشاف المنبع الصوفي الذي بدأت بوارقه الأولى في «الناس في بلادي»، واكتملت في ديوان «أحلام الفارس القديم» الذي صدر سنة 1964، وذلك جنبا إلى جنب «مأساة الحلاج» التي اكتملت بها مسرحة القناع الصوفى الذي تخفى وراءه الصوفي بشر الحافي، وبعض أقنعة «أحلام الفارس القديم» الذي نال من الاستحسان النقدى ما لم ينله ديوان «أقول لكم» وكان «أحلام الفارس القديم» اقتحاما إبداعيا للأفق الإنسانى الرحب، الأفق الذي لا يخدم الفن فيه المجتمع أو الطبقة، فالهدف النهائي من الفن هو الإنسان، وغايته الفضائل، لا الأخلاق، ومقصده النهائي هو الإيمان لا الأديان ولا يتأتى ذلك إلا إذا اتسم الإبداع بالشمول والاتساع والعمق، وجعل موضوعه كل ما في الوجود، ابتداء من الإنسان، مرورا بالطبيعة، وانتهاء بالمطلق، حيث الإيمان الذي يجاوز المعنى الحرفي للديانات، والشعر الذي يغوص في زمنه ولغته ليتجاوب مع كل شعر مثله في كل زمان ومكان ولغة، فالشاعر ينتسب إلى قبيلة الشعراء في النهاية، القبيلة التي تنطوي على شهوة إصلاح العالم بما يصل بينها بالرغم من اختلاف اللغات والأجناس والديانات.

المسافة بين الشاعر والفتى

ومن المؤكد أن المسافة بعيدة بين الشاعر المفكر الذي انتهى إليه صلاح عبد الصبور، والفتى الذي خرج في المظاهرات مطالبا بالحرية السياسية، وهو في الرابعة عشرة من عمره، والفتى الذي اعتقل لوقت قصير سنة 1949، قبل تخرجه في الجامعة، والفتى الذي بهرته العدالة الاجتماعية التي حسبها لا تتحقق إلا في يوتوبيا الماركسية. هذا البعد في المسافة هو ثلاثة أبعاد في حقيقة الأمر بعد الفتى الرومانسي الذي تقمص حضور الشعراء الكبار طوال الأربعينيات، وبعد الوجودية التي أسلمت إلى الإنسانية، عندما نضج الشاب، وأصبح حكيما محزونا، لأن الوجود، على ما هو عليه، لم يعجبه قط، لما فيه من قسوة وامتهان وظلم واستغلال، فقرر الارتحال في نزعته الإنسانية إلى أقصى مدى يمكن أن يصل إليه ارتحال السندباد الرمز، الذي اتحد به صلاح منذ قصيدتيه الرحلة ورحلة في الليل في ديوانه الأول، إلى قصيدة عندما أوغل السندباد وعاد، آخر قصيدة كتبها بعد ديوانه الأخير، «الإبحار في الذاكرة»، ونشرها في مجلة العربي الكويتية (أكتوبر 1979).

ولم يتوقف صلاح، في كل مراحله، عن الإيمان بالكلمة التي تحيي النفوس الميتة، وتحمل حلم الثورة إلى كل مكان، بحثا عن عالم أجمل من الواقع، عالم بدأته كلمة وأنهته كلمة، بعد منتصف ليل الرابع عشر من أغسطس سنة 1981.

هكذا صاغ صلاح عبد الصبور رؤية شعرية متكاملة للوجود، قضاياها الأساسية الإنسان والمطلق والطبيعة، الإنسان من حيث هو مجلى المطلق المسكون برغبة المعرفة التي تقوده إلى المحظور، والإنسان الذي لا يخلو من ملاك ينطوي على كل ما هو حق وخير وجمال، والإنسان الذي لا يخلو من شيطان، يفترس غيره، فيحيل الوجود إلى غابة، والكائن إلى وحش في فوضى زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله:

ورءوس الحيوانات على جثث الناس
ورءوس الناس على جثث الحيوانات
فتحسس رأسك، تحسس رأسك

أما الطبيعة فهى المجلى الموازي للإنسان ومرآته في آن، لكنها المجلى الثابت الذي لا يعاني ما يعانيه الإنسان من تغير أو تحول أو تبدل أو سرعة عطب، فهي الثابتة والإنسان المتغير، وهي لا تفنى أو تتبدد بينما الإنسان يفنى ويتبدد، وذلك بما يذكره، في أحوال تأمله، بصغار شأنه، أو بأنه جرم صغير انطوى فيه العالم الأكبر والمطلق هو أصل الوجود الذي يوجد في كل الوجود، الخالق الذي أسلم العالم إلى الإنسان بريئًا نقيًا، فالله لم يبرئنا ليعذبنا، بل ليرانا ننمو، وتلامس جبهتنا وجه الشمس، الحقيقة، لكي نكون جديرين بكوننا مخلوقات الله التي صوّرها على صورته، تمجيدًا لها وتمييزًا عن بقية خلقه من حيوان أو جماد، ولذلك فالمطلق هو العلة الأولى التي تثير من الأسئلة ما يدفع الإنسان إلى الإبحار الأبدي للبحث عن يقين كي يهدأ أو يستريح أو يسعد في الدارين.

وشمول رؤية العالم الإنسان، الطبيعة، الحيوان لا تخلو، على هذا النحو، من عمقها النوعي، وخصوصيتها الكيفية، كما تتمير بتعقيداتها وتعدد مستوياتها، وتنوع علاقاتها، وذلك جنبا إلى جنب جذريتها الإبداعية التي تهدف إلى أن ترتقي بالإنسان من مستوى الضرورة إلى أفق الحرية، سواء في حوار الإنسان مع نفسه، أو حواره مع غيره من بني الإنسان، أو حواره مع الطبيعة، أو حواره مع المطلق في دائرة التأملات الميتافيزيقية التي تأخذ في الاتساع عبر دواوين صلاح المتلاحقة.

والمركز الأول الذي تدور حوله هذه الرؤية هو الإنسان الذي كان له وحده الملك في عالم صلاح عبدالصبور، حين كتب قصيدته «الملك لك» التي نشرها في جريدة «المصرى» سنة 1954 لكن مأساة هذا الإنسان أنه يريد أن يطول بالأصابع المجذوذة نجوم أحلامه اللامحدودة، وأن يقاوم الشر الذي استولى على كل ما حوله، ويواجه الزمن كما يواجه كل عوامل التحلل والفساد والظلم في المجتمع وعذاب رحلته العقلية والروحية سرّ تميزه الذي يجعله يموت واقفا في احتجاج نبيل أو تمرُّد جليل هذا الإنسان ظلَّ صلاح عبدالصبور على إيمانه به، حتى في سخطه عليه، أو لعنته إياه، إذ لم يجحد، قط، قدرة الإنسان الخلاّقة على إنشاء العالم في أفضل صورة، وأحسن نظام.

وحدة التراث الإنساني

وأتصور أن إيمان صلاح عبد الصبور بالإنسان دفعه إلى الانتساب إلى قضايا الإنسانية في كل مكان، بعيدا عن المدارات المغلقة للنزعات العرقية والدعاوى السياسية أو حتى التأويلات الدينية التي تنغلق بالكائن على نفسه، وتنزوي بالحضارة عن حركة التاريخ، وتهبط بالمبدع إلى قرارة القرار من التعصب العقلي والانحدار الروحي وكان من نتيجة ذلك أن انتسب صلاح عبدالصبور إلى وحدة التراث الإنسانى من غير أن ينسى خصوصيته بوصفه شاعرا عربيا مصريا، ولم يعرف الانحياز إلى ميراثه الشعري الذي كان ينطوي عليه في داخله، وجعل ميراثه تراث الإنسانية الإبداعي في كل حضارة قديمة أو حديثة، ولكنه لم يتّبع هذا التراث تقليدا، وإنما ابتدعه وأعاد إنتاجه، ضمن تشكيله رؤيته الجذرية الخاصة، ولذلك لم يتردّد في مساءلة تراثه الإنسانى معارضةً أو تضمينًا أو تناصًّا أو حتى محاكاة ساخرة، كما لم يتردد في إعلان انتسابه إلى قبيلة الشعراء في كل مكان، وذكر أقرانه من الشعراء الذين عرفهم وعرفوه أوبرستاد من أوسلو، إيفتشنكو من موسكو، رضا براهني من إيران، وذكر أقرانه من الشعراء الذين تعلم منهم، أو تأثر بشعرهم، وكتب عنهم والقائمة طويلة تضم ت إس إليوت، وكفافي، وسان جون بيرس، ولويس أراجون، وديلان توماس، وكازنتازاكس، ولوركا، وويتمان، ورضا براهني الإيراني، وجونار إكليوف السويدي، فضلا عن ماياكوفسكي، وباسترناك، وبوشكين، وبرخت، وسافو، واللورد بايرون، وكولردج صاحب قصيدة «الملاح القديم» التي ظلت قريبة من قلبه، وعشرات غيرهم من الشعراء الذين ظل يشعر بالانتماء إلى الجوهر الصافى للشعر الذي أبدعوه، بعيدًا عن أردية المدارس والمذاهب التي يتمرد على حَرْفيّتِها كل شاعر أصيل والنتيجة هي ما نقرؤه له من أبيات:

يسألنى بول إليوار
عن معنى الكلمة
«الحرية»
يسألنى برتولت برخت
عن معنى الكلمة
«العدل»
يسألنى دانتي أليجيري
عن معنى الكلمة
«الحب»
يسألنى المتنبي
عن معنى الكلمة
«العزة»
يسألنى شيخي الأعمى
عن معنى الكلمة
«الصدق»
تسألنى القدم السوداء
عن معنى الكلمة
«الصمت»

وهي أبيات تصل، أولا، بين شعراء لغته وشعراء العالم في وحدة لا تعرف التمييز أو التحيز وتبين، ثانيا، عن الإيمان بالقيم التي تجمع ما بينهم الحرية، العدل، الحب، العزة، الصدق وتكشف، ثالثا، عن الدور الذي يؤديه الشاعر في جوقة قبيلة الشعراء في كل مكان، وهو السعي الدءوب الذي يصل إلى حد التضحية بالنفس كما حدث مع الحلاج، أو الصمت الاضطرارى الناتج عن وحشية القمع الذي يتعرض له الشاعر المختفي وراء الرمز أو القناع.

وطبيعي، والأمر كذلك، أن تكون مساءلة التراث الشعري كمساءلة الوجود والكائنات دافعا أساسيا من دوافع العملية المتحدة للحوار القلق الذي غدا عنصرا تكوينيا في شعر صلاح عبدالصبور، خصوصا في توتر هذا الشعر بين تعارضاته، وفي صياغته أسئلته الجذرية التي أرادت أن تكسر جدران الصمت، وأن تنطق ولو على سبيل المراوغة المجازية المسكوت عنه من الكلام المقموع سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو فكريا أو حتى اعتقاديا وكانت الدرامية نتيجة الحوار المتوتر بين المتناقضات، والصدام المتوقع بين المتشابهات المختلفات للإخوة الأعداء من ناحية، وأشكال الصدام الداخلي للأنا التي تنقسم على نفسها فتتعدد تجليات صراعها الداخلي من ناحية مقابلة وكانت النتيجة تولد بذرة الدراما الشعرية من داخل القصائد الغنائية، ونمت هذه البذرة، وأثمرت المسرح الشعري الذي مضى به صلاح عبدالصبور إلى مدى غير مسبوق، لم يصل إليه شاعر عربي قبله أو بعده، فأضاف إلى ما سبق إليه الشرقاوي، كميا وكيفيا، وتمايز عن أقرانه الذين لم يصل واحد منهم إلى أفقه الدرامي في الإبداع الشعرى، خصوصا بعد أن آمن أن الشعر أصل المسرح، وأن عودة المسرح إلى الشعر هي عودة الفرع إلى الأصل، والنهر إلى البحر.

الوعي بالجسد

ولقد كان إيمان صلاح عبدالصبور بالإنسان موازيا لإيمانه بالحضور المادي لهذا الإنسان في تجسّده وتعيّنه، خصوصا من حيث هو حضور جسدي محدد، ووجود حسي مُشخَّص، حضور أو وجود لا يمكن فهم جوانبه الروحية أو الوجدانية أو العقلية من غير الغوص عميقا في كنه الوعي بالجسد، وإدراك سر الانتساب إلى شهوة الأطراف التي تَلمسُ أعرَاقَ الأشياء:

أنتسب إلى جسمي
أنتسب إلى شهوة أطرافي أن تلمس أعراق الأشياء
شهوة شفتي أن تَنْدى، وتندَّى
أن تَسقي، أن تُسقى
حتى تقنص روح الجلد الحمراءْ

والانتساب إلى الجسد، خلال مثل هذه الأبيات، هو انتساب إلى شهوة المعرفة التي يغدو الإبحار، في الجسد، موازيا للإبحار وراءها، فالجسد هو أول المعرفة التي ترهف فيها الحواس كلها، واصلة ما بين الشم واللمس والذوق والبصر الذي سرعان ما يغدو بصيرة، تبدأ من شهوة الرغبة في معرفة النفس، وكيف تصير الرغبة لحظة صحو، وكمال الرغبة لحظة محو، فتتقلب الذات العارفة من حال إلى حال، أو تجمع ما بين الحضور والغياب الذي يجعل الكائن مسلوبا في الحالين، رهيفًا كالموسيقى، لكن مغتربا في أنحاء الكون الذي أول منافذ معرفته الوعي بالجسد الذي هو وعي بالحضور والغياب في آن.

هذا الوعي بالجسد، من ناحية أخرى، لا يقتصر على «الجنس» الذي يجمع بين رجل وامرأة لأسباب عدة إنه يبدأ من إرهاف الحواس بما يجعل العين مثلا ترى الألوان في الألوان، والضياء في الظلال، أو يجعل الكف تحسّ الدفء والصقيع في أكف رفقة المقام أو صحبة الترحال ويمضي هذا الوعي صاعدا ليغدو وعيا بكينونة الأنا في حضورها الجسدي الذي يعني اكتمال الوجود، ويصل إلى ذروته بالاكتمال بالآخر، فلا يتوقف عند مجرد متابعة النَّفَس المستعجل الحفيف الذي يشهق في الحلمة، وإنما يمضي إلى أحوال الوجد الصوفى الذي تصل فيه نشوة المعرفة بالحضور في حضرة الواحد الأحد إلى ذروتها التي ليس بعدها ذروة وكان شعر صلاح يعلن انتسابه إلى هذا النوع من الوعي بالجسد، حسيا وروحيا ويتغلغل فيه، حتى من قبل أن نسمع رطان السنوات الأخيرة، ضيق الأفق، عن «كتابة الجسد».

ويلزم عن ذلك أن الإنسان المتعيّن الذي يكتب نفسه حين يكتب جسده لا يكتمل في شعر صلاح عبدالصبور إلا بالحب الذي يعيد للإنسان براءته، وعفويته، وعرامة الإحساس بالحياة، فيختلس اللذة مع المحبوب مثل جناحي نورس، أو موجتين صفيتا من الرمال والمحار، أو نجمتين جارتين، فالحب هو الخلاص من الكون الكئيب وحتى لو كان هذا الخلاص وقتيا، لا يدوم، لأنه بالفطانة اختنق، في كون خلا من الوسامة، أكسب صاحبه التعتيم والجهامة، إلا أنه يظل منطويا على أمل في الخلاص، فالإيروس نقيض الثاناتوس ووجهه الآخر في شعر صلاح ولذلك يظل الحب وترا مشدودا، واصلا وفاصلا، بين نقيضين أولهما الحب الجسدي الخالص، وثانيهما الحب الروحي الخالص، ما بينهما يمتد الحب حبلا من نغم، بريق من عينيه في وسن المحبوب فيوقظه، ويوشوش صوته المنغوم في أذنه فيؤرجحه، وحين يطلقه بعد الغياب فيه، يفنى دون أن يفارقه إلى أن ينتهي الليل، وتولد في الصباح مرارة أخرى، لا خلاص منها إلا بمحاولة الفناء، مرة أخرى، في الجسد الذي يغدو سبيلا إلى المطلق، وزادا تواجه به الذات العارفة مرارة أيام البشر المسرعين الخطو نحو الخبز والمئونة، المسرعين الخطو نحو الموت.

ويعني ذلك أن الحب قهار كمثل الشعر، لا تعنو له جبهة، وحدسي كمثل الرؤيا التي تبقى كما تبقى لحظة الكشف أو التجلي، ولكن بما يغري بمواصلة المسعى، والمضي وراءها كأنها وردة الصقيع التي تظل تغوي المسافر في الطريق إليها، حيث عذاب الطريق جزء من وعد الوصول الذي لا يتحقق في تمامه قط، بل في أبعاضه اللانهائية التي يغري كل منها في الإمساك بالكل عن طريق البعض، وإذا كان الحب هو الوصل والحضور في معنى من معانيه، فالزمان نقيضه الذي يشبه الريح التي تكنس كل ما يقع في مسارها الذي لا تمسكه اليد، والذى يستبدل الذكرى بالحب، والذكر بالنسيان فلا تبقى سوى صور باهتة، تطفو أحيانا على الذاكرة، حين نزور موتانا مثلا، لكنها سرعان ما تنزوي في غياهب النسيان والغياب الذي يغطي على الذكرى بالغبار أو الرماد الذي تتنفسه الكائنات، فينسل في الشرايين والأفئدة مذكرا القارئ أن الإنسان ابن الموت، وأن الموت هو نوع مواز من الخلاص.

------------------------------

لقد كنتُ في دربٍ ببغداد ماشيًا
وقد أوشكت شمس النهار تغيبُ
فصادفتُ شيخاً قد حَنَى الدَّهْرُ ظَهْرَه
له فوقَ مستنّ الطريقِ دبيبُ
عليه ثيابٌ رثةٌ غيرَ أنها
نِظافٌ فلم تدنّس لهُنّ جيوبُ
تدلُ غضونٌ في وسيعِ جبينهِ
على أنه بين الشيوخِ كئيبُ
يسير الهوينا والجماهير خلفه
يسبّونَه والشيخُ ليس يجيبُ
أحالوا عليه بالحصى يرجمونَه
وفي الرأسِ منه شجةٌ وندوبُ
له وقفةٌ يقوى بها ثم شهقةٌ
تكاد لها نفسُ الشفيقِ تذوبُ
فتساءلتُ من هذا فقال مجاوباً
هو «الحَقُّ» جاء اليومَ فهو غريبُ
فجئت إليه ناصراً ومسلياً
ودمعي لإشفاقي عليه صبيبُ
وقلت له «إنا غريبان هَهُنا
وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ»

جميل صدقي الزهاوي

 

جابر عصفور