الأنثى والبحث عن سيرة جديدة.. فهد توفيق الهندال

الأنثى والبحث عن سيرة جديدة.. فهد توفيق الهندال

عند الشروع في الكتابة النقدية عن سرد أنثوي (كاتباً ونصاً)، ستتقافز سريعاً إلى ذهنك تلك الصورة التقليدية لحضور المرأة في العمل السردي على يد المرأة أيضاً، وقد توشحت بالمظلومية، القهر، الألم والبحث عن الآخر ضمن إطارها الحصري في: بوح الذات، الجسد والثنائية العدائية مع الرجل، وأنماطها المستمرة في طغيانها على نصوص السردية النسوية العربية.

لهذا، نادراً ما تتوقف عند السرد الأنثوي، وقد تلاشت تلك الظنون الأولى قبل القراءة والكتابة. ليطرح سؤال نفسه: أين يمكن أن تتشكّل خصوصية السرد الأنثوي؟

تذكر هيلين سيكسو أن الكتابة الأنثوية «تتشكل في الثغرات التي لا تسلط عليها الأضواء من قبل البنية الذكورية الأبوية»، بمعنى تلك المساحات المتوارية خلف ستار الحرملك، ولا تصل لها حواس الرجل، خلاف حواس الشبق والغواية، إنما حواس الإدراك المعرفي الواعي بأهمية حضور سرد الآخر مقابل سرد الذات، على اعتبار أن الذات هنا ذكورية والآخر أنثوي في ضفة الرجل، والتي تختلف عنها في ضفة المرأة فتصبح الذات أنثوية والآخر ذكوريا. ولكن ألا يجعلنا هنا أسرى لتلك الثنائية الصنمية والمنحصرة بين الرجل والمرأة؟

نمطية السرد الأنثوي

يعيدنا هذا السؤال إلى ما قالته كل من هاو وآلين باس في كتابيهما «لا أقنعة أكثر» الصادر عام 1973: «نحن لسنا رجالاً، ولا نرغب في أن نكون، نحن معنيات باختلافاتنا، في إطار وحدود تطورنا، نريد أن نعرف ذواتنا وتاريخنا، نريد أن نختبر علاقاتنا بالرجال، وبأطفالنا وبآبائنا، نريد أن نكتشف علاقتنا بالنساء، وقبل أي شيء آخر، نريد أن نصرخ، لا مزيد من الأقنعة، هذا هو ما نحسّه وما نسمع معظم الشاعرات يرددونه اليوم، لا مزيد من الأقنعة وخصوصاً أقدمها، قناع الذكورة».

ومن أبرز أقنعة الذكورة، هو الأبوية، السلطة، الديكتاتورية في تحديد طرفي المعادلة بين الظالم والضحية، وهو ما يجعلنا نتساءل أيضاً.. هل المرأة - كالرجل - منزهة عن إلغاء أو إقصاء الآخر.. رجلا كان أو امرأة؟ وهل يمكن أن تكون قاسية أيضاً على بنت جنسها، كما هي مع غريمها من الجنس الآخر؟

فرضيات كثيرة تحتاج صفحات أكثر ومجالاً أوسع للحديث عن جدلية مغزى الكتابة الأنثوية، وهل تجاوزت عقدة إثبات الذات والهوية إلى ما هو أبعد وأشمل. كما اختصرت ذلك عبارة طرابيشي «العالم محور رواية الرجل، الذات محور رواية المرأة».

الجواب في تلك المساحات البيضاء التي تضم مساحات الظل في حياة الكاتب، كما ترى الروائية أحلام مستغانمي.

ليلى العثمان.. وسرد مختلف

بعد هذا الاستهلال المطلوب لقراءة نقدية لعمل روائي جديد للأديبة ليلى العثمان، لابد أن نتوقف قليلاً عند ذاكرة السرد لديها، فتبقى حائراً أمام ما يعترضنا في سردها «القصصي والروائي» من ملامح غير صريحة لأنا الكتابة لديها، مما يجعلنا أمام خيار الحكم الوحيد بأن الكتابة الأنثوية عن الذات هي وقوع في فخ وثيقة السيرة الذاتية!

ولكن، تبقى للنقد الأدبي فسحته المفترضة في موضوعية تناول النص وفق جوانب مختلفة وزوايا عدة، لتمنحه - النص - فرصة الإثبات بالخروج عن نمطية السرد السيري الذاتي، وما يكتنفها من مثالية للذات مفرطة جداً، والتفريط في شكل حضور بقية الأصوات المخالفة لها. وهو ما تحرينا دقته في رواية «خذها لا أريدها»، حيث اتكأت فيه الكاتبة على كذا صوت سردي، وإن لم تخرج الكاتبة في عموم الرواية عن نمطية السرد الإثنوي في غلبة الصوت السردي للبطلة - الأنثى «لبنى»، إلى جانب صوت الأب، وصوت آخر متكلم جاء بضمير المخاطب السردي الذي تم توظيفه لتسليط الضوء على جوانب من حياة البطلة التي صمتت هي بدورها عنها، وإن اتفق الصوتان - لبنى والسارد المخاطب - في وصف ألم لبنى في فراق أمها «بدرة» دون الغفران لها على ما حملته طوال السنين من قسوة واضحة وحقد دفين، كما جاء في صوت لبنى في الفصل الأول «غسول»:

«وحدي أسمع ضجيج ندمي» ص6.

«فلماذا جحدت هذا لأمي وقسوت عليها؟» ص12.

«أمي.. أرجوك سامحيني.. تغفري ذنبي.. أمــ... أميــ..» ص17.

«في داخلي كان الصراخ أزيزا وصليلا. كان الشعور باليتم هو الذي يصرخ ويستغيث. ندمي مثل جرح طازج مضرج بالحريق الذي ستظل دائرته تتسع لتحاصرني بوجه أمي كلما احتضنت وجه ابنتي عفاف. ستحول الندم قلقاً وخوفاً من أن تهجرني يوماً لتثأر المسكينة ولوجعها الذي ذاقت حسرته حتى غاب وجهها قبل أن أعلن الحب له». ص18.

وعفاف كانت مرآة لبنى الداخلية التي تجسّدت أمامها واقعاً مراً عندما صدمت أمها التي رفضت رجاءها بزيارة جدتها «بدرة»، لتباغتها بكل حرقة:

«هل تستريحين لو عققتك يوماً وأغلقت بابي دونك؟» ص42.

هكذا تتضح مساحة الألم والخوف بالندم المتأخر في صوت لبنى لحظة حضورها غسل أمها «بدرة» وما وازاه من سلوك اتسم بفجيعة فقد الغفران قبل فقد الأم، وهذا ما يجعل فصل «الغسول» أشبه بالتمهيد السردي لبقية أحداث الرواية، التي جاء سردها لاحقاً لما وقع، وناقلاً لما قيل، وكاشفاً لما تستر من خفايا، قدمت لنا الكاتبة خيوطها بصوت لبنى، الأب، السارد المتكلم تباعاً، والأخير جاء همساً يحاكي صوت الندم في لبنى، وهي تقنية وظفتها الكاتبة بذكاء لتحرّك الراكد من أحداث سابقة بين لبنى وأمها وأبيها.

كذلك، يحسب للكاتبة توظيفها المتقن لزاوية الأب في فصل «حكاية الأب»، لتحرك ما ركد من أحداث سابقة في سرد لاحق لأسباب الطلاق بينه وبين أم لبنى، حيث فصّلت الكاتبة فيه مشاعر الحب المكنونة في قلبه حيال بدرة التي لم تغب عنه حتى بعد طلاقها وزواجها من آخر:

«ومن أجل الحب الذي ظللت كل عمري أسيراً له. حتى الزواج لم أفكر به بالرغم من طلب لبنى ذات مرة. ما كنت أتصوّر أن تشاركني امرأة أخرى فراشي وبيتي. كانت أمها عشقي الأول والأخير» ص38.

ولم يكتف الأب بهذا الحب المكنون، بل حاول غرسه في قلب لبنى حيال أمها بعد زواجها من آخر، وطلبه لأن تواصل أمها بالمشاعر قبل التزاور.

هذا الحضور اللطيف لصورة الآخر/الرجل في السرد الأنثوي، يوازيه العلاقة الشائكة بين الأنثى والأنثى «لبنى وأمها»، وهو ما جاءت تفاصيل حكيه على لسان السارد المتكلم في الفصول اللاحقة. ليعلو ضجيج الحدث بعد رغبة لبنى بالزواج من رجل في عمر والدها، ليكون كفؤا لها ولحضن والدها الذي غاب تعساً بسبب زواجها من رجل يماثله في السن، وهو ما جاء في بوح لبنى قبل وفاته: «كنت أعلم أنني لو فعلت فسأهديه سعادة تطيل بعمره لكنني عاندت وقيدتني حاستي إلى قراري. لا أريد أن يشارك أبي أحد في صحن قلبي وقاعه». ص110.

فخلف رحيل الأب خيوط عودة لبنى مفتوحة لوالدتها، وقد شهدت الرواية في منتصف علو أحداثها ميلاد ابنتها «عفاف» ومرض زوجها «يوسف» الذي مات هو الآخر، مخلفاً إياها وطفلتها في دوامة أكبر من حجمها، فكانت عودتها لأمها نوعاً من الاستسلام القهري لظروفها كأرملة شابة في حضنها طفلة يتيمة الأب. إلا أن القطيعة سرعان ما عصفت بين الأنثيين «لبنى وأمها» بعد محاولة الثانية بالتدخل في حياة الأولى والتهديد بأخذ الحفيدة «أنا جدتها.. آخذها»، التي أشعلت حقد الطفولة عند لبنى وتذكرها لعبارتها القاسية لأبيها «خذها لا أريدها» - انظر ص 136 - لتبدأ القطيعة ثانية وبوتيرة أقوى من قبل، لتعيش لبنى الفراغ ثانية، وبشكل أوسع لاحقاً بعد سفر عفاف، وموت الأم. وإن باحت لبنى بأحاسيس أنثوية مشابهة لأمها.

النص لم يكن محصوراً في سرد علاقة لبنى بأمها، وإنما ارتبط بأنثى ثانية «مسعودة» وثالثة «ماري» التي رافقت سرد لبنى إلى نهاية أحداث الرواية.

مفارقة بين رحيلين

تأتي في تصوير الكاتبة لمشهد الموت الذي اختلف في رحيل أمها «بدرة» وصديقتها «ماري». ويمكن قياس هذه المفارقة في سرد لبنى الحزين المتخم بحالات الحسرة والندم والتوتر أمام جسد أمها المسجي في المغيسل، وهو الذي يتعذب بسبب طقوس غسل الميت ووحشة المكان الأخير في الدنيا قبل سكون القبر وعتبة الآخرة. بمعنى، أنها رصدت عذابات أمها في الدنيا في حياة والدها وبعد الفراق، ومعها عندما كانت صغيرة، ثم فتاة فأم ترفض تدخل أمها في شئونها مع حفيدتها، ثم عذاب الفراق والقطيعة، والآن عذاب الموت والغسل قبل القبر. ليأتي صوت لبنى مشحوناً بالندم بعد فراق أمها الأبدي، كما مرّ سابقاً.

وهذا مختلف عن مشهد حضورها قدّاس ماري، والذي سبقه منظر تزيين جسدها المتعب من آثار الداء والدواء، ليكون الموت فرحاً وسكينة بعد عذاب الحياة، ولحظة رؤيتها لطقوس تحضير الميت عند المسيحيين، تستحضر صورة غسل أمها: «آه يا ماري وأمي.. كتب الله علي أن أرى جسديكما العاريين» ص217. لترافق الجموع المشيعة جثمان ماري لمقبرة المسيحيين في عمان، وهو ما حرمت منه عند تشييع جثمان أمها في الكويت. إلا أن ثمة رابطاً روحياً بين المشهدين المنفصلين حركة وزمناً وموقعاً جاء على لسان حال لبنى الواقفة على حافة الحزن عليهما عند الدعاء لهما بأن يفسح الله لهما في قبرهما، وأن يكون لهما بعد الحبيب حبيبا. وما لكلمات لبنى الأخيرة في نهاية الرواية والمقتبسة من أغنية شعبية:

«غريبة من بعد عينك يا يمه

محتارة بزماني

ياهو الــ.. يرحم بحالي يا يمه

لو دهري نساني «ص 227»، هذه الكلمات ليست سوى إشارة لغربة/سيرة جديدة في عالم قدره النسيان لمحوريه الرجل والمرأة.

ليس ختاما..

رواية «خذها لا أريدها» للأديبة القديرة ليلى العثمان، تجربة جادة للتمرّد على نمطية السرد الأنثوي العربي، قد تكون ملامسة لجزء من السيرة الأنثوية والذاتية خصوصاً، إلا أنها سيرة لا تختلف عن سيرة مجتمع عربي بأكمله، يعيش على الألم والقسوة في حياته، وإن تحصّن تحت أقنعة ما، ويرضى بالندم قدراً والتسامح الذاتي لاحقاً بعد فراق مَن يكره أو يحب.

---------------------------------

أيأمرُ ظـلُّ الله في أرضه
بما نهى الله عنه والرسولُ المبجّلُ؟!
فيُفقِر ذا مـال، ويَنفي مبرَّأً
ويَسجن مظلومًا، ويَسبي ويقـتلُ
تمهّل قليلاً، لا تُغـظ أمــةً
إذا تَحرّكَ فيها الغيظُ لا تتمهّلُ
وأيديكَ إن طالت فلا تَغترّ بها
فإن يدَ الأيـامِ منهـنّ أطولُ

جميل صدقي الزهاوي

 

 

 

فهد توفيق الهندال 




ليلى العثمان