قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص الخمس؟*

-------------------------------------------

  • القصة الأولى: زحف: إدريس خالي «المغرب»

تصور القصة شخصية رجل متقدم في السن قطعت رجله بسبب مرض السكر، وتأمله في الوجود والحياة والموت. تتميز القصة بالوضوح والإقناع في تطورها وتتابع أحداثها، والحبكة فيها جلية واضحة، وتأتي على أكثر من مستوى، فهناك الحبكة النفسية من خلال تتابع تقديم السارد لرؤاه العميقة مع ربط تلك الرؤى بدلالات حركة الزمان وتأثير المرض على نفسه، أما الحبكة الخاصة بالأحداث فتتطور مع سماعه لصوت الفقيه في البيت وتشوقه، واللغة في القصة تخدم العناصر السردية الأخرى، ويتمثل ذلك على وجه الخصوص في التشبيهات والاستعارات التي تكشف عن أعماق تفكير السارد، مثل تشبيه الرجل المتقدم في العمر بالمركب المهجور، ولسريره بالربوة الجميلة التي يطل منها على الكون.

  • القصة الثانية: المشهد: د. حسن الرموتي «المغرب»

بالرغم من قلة الأحداث المتطورة في هذه القصة فإنها تزخر بالأحداث المتفرقة التي تشكل مجتمعة مشهداً سردياً يعتمد على توسع أفقي يتمثل في تناسل مشاهدات بطل القصة الذي، بعد أن يصحو متأخراً صباحاً، يقوم بإعداد فنجان قهوة والجلوس على شرفة شقته ليراقب الحياة من هناك. يحافظ القاص على عنصر التشويق بانفتاح احتمالات تطور المشاهد التي يسردها وانفتاح دلالاتها وعمقها الوجودي والإنساني.

زاوية الرؤية في القصة هي عينا السارد المراقبة للأحداث المتفرقة والتي تنغمس في أعماقها لتنسى نفسها وفنجان القهوة الذي يبرد. واللغة الوصفية البسيطة تنغمس في سرد وتحليل المشاهد نحو أعماقها المنفتحة على الاحتمالات والدلالات.

  • القصة الثالثة: الشعاع المختزل: سعد وليد بريدي «سورية»

تتمحور القصة حول محورين متناقضين في الظاهر ولكن تجمعهما في العمق التجربة الإنسانية، وهما محورا اليأس والأمل. تسرد القصة حكاية زوجين عجوزين ألفا الحزن بسبب اختفاء ابنهما الثوري في معتقل عسكري، وفي إحدى الليالي يطرق بابهما ضيف يقول إنه عابر سبيل يرغب في قضاء الليلة في بيتهما، فيرحبان به غير أنه يزيد من حزنهما إذ يذكرهما بابنهما المعتقل، وفي الليل يسمعان طرقاً قوياً على الباب ثم يفاجئان بقوات الأمن تداهم بيتهما, وحين لم تجد تلك القوات بغيتها تغادر المكان بعد أن قلبته رأساً على عقب، ويكتشف الزوجان أن ضيفهما قد غادر البيت قبل مجيء قوات الأمن. بعدها يقرر الزوج ترك باب مزلاج باب البيت مفتوحاً ليمكن لأي شخص أن يدخل إليه، على أمل أن يأتي الأمل. السرد في القصة يستخدم لغة مملوءة بالمشاعر الإنسانية في تشويق القارئ لمتابعة أحداث القصة، وللغوص في مكنونات النفس الإنسانية في لحظات عميقة تتأرجح فيها بين الأمل والحقيقة.

  • القصة الرابعة: الدرويش: محمد عبدالشافي القوصي «مصر»

تعتمد هذه القصة في بنائها السردي على التناص، فتستند في السرد إلى نمط الحكايات القديمة، إذ يبتدئ الكاتب قصته بعبارة «حدثني من لا أشك في صدقه»، كما يستند إلى التناص أيضاً في استدعاء شخصيات من التراث العربي الإسلامي مثل «الخضر»، وعلى نصوص القرآن الكريم، وكذلك على التراث الصوفي.

تحكي القصة عن درويش كان يسكن في كوخ في أطراف قرية مصرية نائية، أحبه الفقراء والبسطاء وتلمسوا عنده البركة، غير أن البوليس ما لبث أن هدم كوخه بسبب تجمع الناس عند كوخه وهو ما كان يفضح تجار المخدرات والمهربين وعصابات المافيا.

تستثمر القصة اللغة استثماراً جميلاً خصوصاً في تقنية التناص، وفي الحفاظ على درجة عالية من عنصر التشويق الذي يجعل القارئ متحفزاً لمعرفة أحداث القصة، وينجح الكاتب في تطوير شخصية الشرطي الذي يدرك المغازي غير الظاهرية للأمور فيتحول من هادم لكوخ العجوز إلى بانٍ لمقام باسم ذلك العجوز.

  • القصة الخامسة: في البيت: محمد إبراهيم زهدي «مصر»

بالرغم من بساطة هذه القصة فإنها قصة تنجح نجاحاً كبيراً في استثمار تقنية السرد المبني على تذكر الأحداث الماضية أو ما يسمى بـ«الفلاش باك»، وهي تقنية تسمح للسارد أن يبدأ قصته من الماضي في سياق زماني ومكاني اختفى للأبد، شهد أحداثاً قاسية حزينة، وهي أحداث لم تنته باختفاء زمانها ومكانها بل استمرت في فعلها العميق في التجربة الحياتية للسارد من خلال تذكره لها ومن خلال عودة بعض رموزها المهمة. تعالج القصة قضية حضور الإنسان في الزمان والمكان، وانعتاقه الجسدي عنهما، مع الالتصاق الروحي والنفسي بالزمن والمكان الغائبين إلى الأبد.

----------------------------
زحف
إدريس خالي «المغرب»

يزحف نحو النافذة.

يستعمل في ذلك كل أطراف جسمه. يتوقف. يأخذ نفسا. ينظر إلى الوراء. إلى ذلك الوراء الذي كلما اقترب منه المرء ابتعد. باب الغرفة مازال مغلقا. يستأنف الزحف. يحط كفيه على بلاط الكولوار ثم كما لو أنه يمتص القوة من باطن الأرض يزحف. يبدو وكأنه يجدف في الأرض. يداه مجدافان ثقيلان. وجسمه؟

كان الجسم جسدا. غازيا. فاتحا.

حين يتقدم العمر بالإنسان يصبح جسمه مثل مركب مهجور.

يجدف. يتأسف على رجله المقطوعة. تلك الرجل اليمنى التي انحفر في بطن قدمها ثقب مخيف. لم يكن ليلين لمشيئة الطبيب لو أن ذلك الثقب لم يتسع. لو أن تلك القدم لم تصبح خطرا على الجسم كله.

كل صباح، كل مساء يزحف نحو الباب. الباب عيناه على الخارج. حين يصل إليه يطيل النظر إلى الرعاة وهم في طريقهم من وإلى المحجة. لا يعرف متى أطلق على تلك القطعة الأرضية الواسعة اسم المحجة. لا بد وأن سلطانا حط بها صحبة حاشيته وجيشه في الزمن الغابر.

ليس السُكَّر دائما حلوا وسهل الذوبان أو الاحتراق.

.. تأخذ مكنسة الدوم بيديها و تتقدم نحو غرفة النوم. هناك دوما رثيلاء وهمية في زوايا السقوف ينبغي التخلص منها. ترفع المكنسة نحو زاوية سقف الغرفة. تكنس. تكنس بإصرار وقوة مشوبة بقلق داخلي لاتخطئه العين. تكنس كما لو أن الرثيلاء غبار لاصق يصعب إزالته.

.. يزحف نحو الباب الذي يطل على الخارج. تتجاوزه دون أن تنبس بكلمة. يصعد السكر إلى عينيها حين تراه هناك. تزبد وترغد لما يبدأ في الزحف نحو باب الدار. تقول لابنتها المدللة إن مجرد وجوده هناك يعيق حركتها. يشوش صفاء ذهنها. يبدو الزاحف الذي كان سقفها الذي به تتغطى من البرد والحر رثيلاء سوداء مقززة.

يزحف بكل ما بقي له من طاقة وجهد في ذلك الجسم المنهوك نحو النافذة.

هناك شيء ما يقع في القرية ولا يعرفه. لقد تكلم الفقيه في البوق قبل أزيد من ساعتين. سمعه. سمع صوتا في البوق. وبحكم أن داره توجد في المدخل الجنوبي للقرية وأن الريح كانت تهب من الجنوب لم يتبين ما كان يحمله الصوت. كانت الساعة تشير إلى الخامسة وخمسين دقيقة صباحا حين انطلق الصوت يثقب هدوء القرية. لسبب ما عميق و غامض ينظر العربي إلى الساعة التي في معصمه كلما ارتفع الصوت فوق الصومعة.البوق جهاز لإخبار الناس. لا بد أن شيئا ما وقع البارحة ليلا في القرية.

يامنة خرجت وأغلقت عليه الباب. يلعنها في نفسه.

يعرف أنها تود لو يرحل. ما عاد لها في جسمه الناقص ما يُشتهى ويُعصر.

حين يُغلَق الباب تنزل غمامة على عينيه.

يجر جسمه الناقص. يزحف. لا خيار أمامه غير الزحف. مازال الممر إلى النافذة طويلا. لن يهدأ له بال إذا لم يصل إلى هناك. لن يمر الوقت إذا لم يفتح النافذة. قبل يومين قال لابن أخيه إنه لا يخاف الموت.

يكره نفسه حين يراها تطيل النظر إلى رجله المقطوعة. اليوم يزحف وقلبه يرتعد.

حين تفقد إحدى رجليك لن يتحملك الآخرون، يقول جازما لابن أخيه. ثم يردد بصوت خافت:

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

- احذر أن يصيبك السكر يا محمد. السكر يقتل المحرك يا بن أخي.

لا يرد محمد. يقدم له النفحة التي طلبها منه وينصرف لأشجاره ودجاجه.

- ماذا ستفعل بك امرأة إذا مات المحرك الذي وهبك إياه الله؟

خرجت ونسيته. أغلقت الباب وقالت للطريق المؤدي إلى السوق هيت لك.

يزحف.ليت المرض الزاحف نحو كل جسمه يتوقف.

بينه وبين النافذة سرير خشبي. يزحف ويفكر في الباب والسرير والنافذة. الباب مغلق و السرير قنطرته الوحيدة للوصول إلى النافذة. السرير قنطرته وربوته.

يزحف.

يتوقف.

ينظر خلفه.

لايزال الباب مغلقا. يود لو أن محمدا يجيء على غير عادته ويفتح له الباب.

يحس بالاختناق. يتذكر أخاه. كان اسمه علي. كان الناس ينادونه بعليلو. والحرفيون بالمعلم علي. يتذكر أخاه الذي يرقد الآن تحت شجرة بطم ظليلة. كان الأخ ملاذه وعصاه.

وكانت أمهما قد سكنت تحت نفس شجرة الخروب قبل سبعين عاما. قيل إنها كانت في طريقها إلى البيادر حينما تقدم منها الموت وطلب منها أن تصاحبه في رحلة طويلة. وبكل الاحترام الذي يبديه السيد الموت نحو النساء اللواتي قضين حياتهن في الكد و إسعاد أزواجهن وأولادهن منحها القدرة على العودة إلى الدار. هناك أسرت لابنها رغبتها في أن تدفن قرب الشجرة. وكانت جذور الشجرة في الوادي.. وغادرت الأم الدار الأولى نحو الدار الآخرة. وكان العربي مازال حليب أمه بين أسنانه. وقال الأخ الأكبر لأخيه لاتخف.. واشتغل عند الفرنسيس من أجل أن يطعم نفسه وأخاه. وكان بين الفرنسيس رجل اسمه مونيس. ورق قلب مونيس لعليلو وقال له:

- أخوك سيدخل إلى المدرسة.

وتعلم العربي لغة الفرنسيس. وبرع فيها. وكانت يامنة تعشقه حين يتكلم مع مونيس. وجربت أن تتحدث بها ولكنها لم تستطع. فقد كان أبوها الساكن بجنب الضريح يقول لها إن لغة أهل الجنة ستكون العربية.

يزحف بكل ما يوجد من قوة وجهد في يديه وفي جسمه.

يزحف ويردد:

الله يسامح.

يسامح أخاه الذي اختارها له. لم يكن يرتاح للذين يسكنون بالقرب من الأضرحة. وكان أبوها من أولئك الذين يعيشون في كنف ضريح سيدي أحمد الراحة.

يزحف.

يريد أن يرتاح.

جسمه يتعبه.

المتعفنة أغلقت علي الباب ولم تعد بعد.

اللعينة خرجت و نسيتني هنا مثل كلب أجرب.

كان السرير كقنطرة ممددة أمامه. جر وسادة من الحلفاء كانت بالقرب من السرير. اعتلاها. وضع منكبه الأيمن على حافة السرير. ضغط بكل قواه التي بقيت في جسمه. كان الجسم ثقيلا ككيس صلصال. وأحس برافعة داخلية تساعده على رفع جسمه الثقيل على السرير. وكان السرير ربوته الجميلة. وكانت القنطرة و الربوة شيئا واحدا.وفتح النافذة. كانت واسعة بما يكفي للنظر إلى القرية. تنفس بعمق. كان في تنفسه يبدو كما لو أنه يريد أن يسحب كل الهواء الموجود في فضاء القرية إلى جسمه. وأطل من النافذة الواسعة.

كان الرجال يمرون خاشعين. مطأطئي الرءوس, كانوا يسيرون وراء النعش. و كان الصمت كموسى حادة تقطع المكان. وكانت السماء وحيدة و قلقة وبدا أن العصافير قد توقفت عن الطيران والزقزقة حتى يمر النعش والرجال في طريقهم إلى المقبرة. نظر العربي وراءه. كانت الصور تتزاحم أمام عينيه. وكان الباب لا يزال مغلقا. صمت. صمت. وكانت القرية التي أهدته هواءها وثمار أشجارها تبدو بدورها وكأنها تستمع لذلك الصمت المحمل بالحنين وبالحزن. وكان الرجال يتقدمون وراء النعش بينما القرية تستمع لصوت الرجال وهم يرددون بشكل حزين:

لا إله إلا الله

محمد رسول الله.

لا إله إلا الله

محمد رسول الله.

----------------------------
المشهد
د. حسن الرموتي «المغرب»

صحوت هذا الصباح متأخرا بعد أن غرقت في سبات عميق، نور الشمس يغمر الغرفة، أحسست بعطش فقمت متثاقلا، ظهري يؤلمني، و آلام حادة في رأسي، دقات الساعة الحائطية الرتيبة تضاعف من ضجري، في الحمام الضيق رششت الماء على وجهي و مسحت رأسي بيدي ثم شربت من ماء صنبور، رفعت رأسي إلى المرآة المعلقة أمامي و التي بدأت الرطوبة تأكل جوانبها، ثم ابتسمت، بدت ابتسامتي باهتة و دون معنى، تركت وجهي مبللا و سرت نحو المطبخ، أعددت قهوة سوداء دون سكر وسرت نحو بلكون الشقة وأزحت الستار ووقفت أتأمل المشهد أمامي...

بقايا سحب شاردة في سماء زرقاء بلورية، سرب من الطيور يحلق بغير انتظام، و سطوح المنازل أمامي فارغة من ربات الغسيل أو سراق الحب من بنات و أبناء الجيران. بائع الجرائد العجوز في كشكه عبد الله الثقافة، هكذا يدعوه الزبناء، كان على معرفة كبيرة بالأخبار السياسة أكثر من السياسيين أنفسهم، يعرف كل أسماء الرؤساء و الملوك و العواصم... تلاميذ المدارس لا يترددون في استفساره، يتأمل المارة مدخنا سيجارته ذات التبغ الأسود، دخانها يكاد يحجب وجهه، بعضهم يقف أمام الكشك يقرأ العناوين مجانا ثم ينسحب، عبد الله لا يكترث بهؤلاء فهم كثر كما يقول ويضيف ساخرا : المعرفة يجب أن تكون بالمجان،... بعضهم ينحني للأرض ليلتقط صحيفة و يناول البائع نقودا و ينسحب... قريبا من الكشك حاوية أزبال دون غطاء، مليئة بالقمامة، شاحنة البلدية التي تجمع الأزبال لم تمر بعد، فوق الحاوية قط سمين يبحث عن رزقه، ينبش، و كلب ضال يقترب، عظامه تكاد تخترق جلده الأغبر، البطن ضامر تحمله قوائم نحيلة جدا،حرب ضروس لا شك ستقع بين الحيوانين هكذا خمنت القط لم يهتم به، اقترب الكلب من الحاوية و بدأ يبحث، تآلف القط و الكلب معا، ابتسمت في أعماقي لهذا التسامح...في الجهة المقابلة موقف الباص... رجال و أطفال و نساء ينتظرون، منهم من أعياه الانتظار، بعضهم يجلس على كراسي خشبية قديمة، لم تتغير منذ سنوات، رجل يقترب من امرأة حتى ليكاد يلتصق بها، ربما زوجته، لا أستطيع أن أجزم.. الباص لم يصل بعد، ربما الرجل يتمنى ألا يصل،... على الرصيف رجل أصلع ذو لحية بيضاء،الارتخاء بدأ يدب في أوصاله، قصير القامة، يرتدي جلبابا أسود و يشد بيد طفل، الطفل يحمل محفظة مدرسية و يرتدي سروالا قصيرا صيفيا وقميصا يمثل فريقا أوروبيا مشهورا، يبدو ذلك من ألوان القميص و ينتعل حذاء رياضيا رخيصا، الرجل يوبخ الطفل، الطفل يبكي و الرجل لا يكترث لبكائه، الطفل يبدل جهدا واضحا ليواكب خطوات الرجل...، شرطي المرور البدين أعياه الوقوف في ملتقى الطرق، أنف كبير و يبدو دون رقبة، لا يتوقف عن رفع يديه، بذلته رزقاء أحالتها أشعة الشمس إلى لون باهت، المسدس المتدلي عن يمينه يبدو أنه غير محشو، السيارات لا تكف عن المروق أمامه في كلا الاتجاهين كأنها لا تعيره اهتماما، يبدو لي أنه متذمر... ينتظر نهاية خدمته لينسحب إلى بيته منهوكا...شاب يضع يده على كتف صديقته و يسيران معا، يتحدث الشاب كثيرا، بينما هي صامتة، تلبس سروالا من نوع الجينز أسود و قد شُد بحزام أبيض، و قميصا يبرز مفاتنها بشكل مفضوح، الشفتان مزمومتان، العنق طويل قليلا، قرطان طويلان يتدليان و يلمعان، و الشاب يحمل على كتفه جاكتة بنية، و يضع على نحره ربطة عنق على شكل فراشة.

ربما مدعوان إلى حفل راقص، الشاب و الشابة لا يعيران اهتماما للمّارة، يلتفتان يمينا و يسارا ثم يقطعان الطريق،و الشرطي يركز نظراته على الفتاة...

في الجهة المقابلة لي مباشرة، مقهى الوحدة العربية، الواجهة الزجاجية غير نظيفة، الزبناء قليلون هذا الصباح، يجلسون بتراخ على الكراسي المتهالكة، النادل يبدو متكاسلا يمشي بتثاقل واضح، أنف أفطس،و وجه نحاسي تناثرت عليه بثور كأنها حبات قرنفل، النادل يضع كأسا أمام زبون و يعود إلى داخل المقهى...الزبون ينش بيده ربما عن نحلة تقاسمه حلاوة الكأس، و زبون آخر يحمل بين أنامله قلما يملأ شبكة الكلمات المتقاطعة أو ورقة الرهان و يحلم بالثراء.

الجهة اليسرى من الشارع دكان حلاق الأناقة ينتظر زبونا، الحلاق يجلس على كرسي يبدو أنه حديدي، يرتشف من كأس يضعه على الأرض، يشيّع المارة بنظراته، الحلاق يتابع مشهد امرأة تصافح أخرى ثم تعانقها، يطول العناق و تطول القبلات، تنتبه المرأتان للحلاق و تبتعدان، تهمس إحداهن للأخرى و تضحكان، الحلاق ينسل لدكانه محرجا... قريبا من الدكان رجل آخر يقف على ساق واحدة مستندا بكتفه على عمود كهربائي، يقرأ في ورقة، يلتفت يمينا و شمالا، لا بد انه ينتظر أحدا، وقد يكون مخبرا، بباب العمارة أمامي جلست امرأة عجوز، أسمالها عاجزة عن ستر جسدها، و طفل نصف عار يلهو بالقرب منها، تُناِولُه مبتسمة شيئا يأكله، الشارع طويل و واسع، تتفرع منه أزقة كثيرة، زقاق فلسطين ضيق، قريبا من مقهى الوحدة العربية، طفل صغير يجري مسرعا، يبدو أنه سرق شيئا من بائع التين الشوكي الذي يقف أمام عربته، فقد كان البائع يتوعده، فهمت ذلك من خلال إشارة صاحب العربة، الزقاق لا مخرج له، و في الزقاق المقابل مقهى أخر شعبي، مطعم القاهرة، يبدو أن اسم المقهى كتب بسرعة وبخط رديء، مطعم يقصده العمال البسطاء، أصحاب العربات، البناءون، الصباغون و ماسحو الأحذية... يتناولون وجبات رخيصة. بدأ الشارع يكتظ بالراجلين،و الشمس في كبد السماء، الراجلون يسيرون بلا ظلال، القيظ يشتد، و أسفل الأحذية يكاد يلتصق بزفت الشارع، منهم من يحمل أكياسا بلاستيكية، والمرأة ذات الأسمال أمام باب العمارة تسعل بحدة و الطفل ينظر و هو يلوك شيئا، شخص معتوه يمر أمامها يقهقه و ينظر إليها، كان حافي القدمين، قدماه لم تستقر في حذاء يوما ما، المرأة تضم إليها الطفل و المعتوه يبتعد، الكلب و القط معا ما يزالان فوق حاوية الأزبال...، الباص لم يصل بعد، المرأة التي كان الرجل يضايقها تتقدم نحو الأمام، تُوقف سيارة أجرة، سائق الطاكسي يتوقف، ينزل، يتمطى، يفتح مؤخرة السيارة و يضع شيئا، تركب المرأة و تنطلق السيارة. الرجل الذي كان يضايق المرأة يغادر المكان دون أن يلتفت شيعتُه بنظراتي حتى اختفى و لم أعد أميزه بين الراجلين...، نوافذ الشقق تمتلئ بأغطية النوم و التي لا شك تفوح منها رائحة النوم و القبل و أشياء أخرى، جامع المتلاشيات قادم بعربته التي يجرها بغل، يمر كل صباح، لقد تأخر اليوم كثيرا عن موعده، البغل يلوث الإسفلت بفرثه ووقع سنابك البغل تصل إلى سمعي...الهاتف العمومي الوحيد المثبت على قائمته قريبا من الرصيف يبدو معطلا، و صاحب دراجة هوائية يتمايل و يوشك على السقوط، ينحرف عن بضع رجال يحفرون، لم أكمل قهوتي، الكأس، مازال منتصفا و القهوة أضحت باردة، أبعدتها قليلا حتى لا تنسكب على بعض المارة...سمعت صرير شباك البلكون المحاذي ينفتح، ظهرت جارتي لتطل بدورها على المشهد، ابتسمتْ، ابتسمتُ بدوري، لها سيارة جديدة و حساب بنكي، هذا ما أخبرني به بواب العمارة، من الشقة تنبعث أغنية شعبية... انسحبت إلى شقتي باحثا عن ماء بارد في الثلاجة لأزيل مرارة القهوة من حلقي، وعن شيء آكله.....

----------------------------
الشعاع المختزل
سعد وليد بريدي «سورية»

حينما يعجز المنطق عن إيجاد الرابط الوهمي ما بين الأمل و الحقيقة، و يعلن الرسامُ عجزئهُ عن رسم لوحةٍ تحوي خيوطاً للشمسِ في يومٍ ماطر، يكون حينها المساء قد حل أخيراً، ليوقد الكهل المدفئه، ومع وميض مارجها الأزرق تلمعُ أعينهُ المنهكة خلف نظارته المقعره، ثم يستدعى زوجتهُ العجوز لتجاوره المكان بعدما أصبح دافئاً وحنونا، ثم يتهالكُ على كرسيهِ الهزاز و يظل لدقائق يمسح زجاج نظارتهِ بطرف القميص استعداداً لرحلة القرائة، ومع كل هزة من كرسيه يتأرجح بندول الساعة ملتهماً بنوساتهِ الزمن.

حياتهما كالساعةِ التي تدلى منها البندول، ففي كل مساءٍ يتكرر المشهد، الكهل يبحر في كتابه دون أي ينطق،والعجوز تحيك أشياء لا نفع منها، ثم يستسلمان للنوم بعد يومٍ كان كسابقه وسيكون كلاحقهِ.

في تلك الليلة وقبل دنو الليل لمنتصفةِ وإذ بالكهل يقطع قراءتهُ ويطلب الهدوء، فتجيبه زوجتهُ ضاحكةً : أتطلب الهدوء من الهدوء الفظيع الذي يحيطنا ؟؟ ليعاود مطلبه.... ثم يدركان أخيراً بأن باب المنزل يطرق بشكلٍ خفيض.

منذ أمدٍ بعيد لم يزرهما أحد، فالوقت متأخر والجو بالخارج بارد والمنزل قابع بتخوم البلدة وسط الظلام، وعندما فتح الباب رأى شخصاً قد أخفى وجههُ بذراعيهِ، مما أوقع الرعب بقلبه، لكن سرعان ما طمأنه الزائر وأكد له عبر صوتٍ متعب بأنه عابر سبيل.

الحوار على أعتاب المنزل لم يدم طويلاً، فسرعان ما صارا بالرواق المتواضع، وعندما دخل الزائر رمقتهُ السيدة لبرهةٍ من الزمن،ثم خفق فؤادها المنسي منذ سنين.

ذلك الزائر كان أشعث أغبر،رث الثياب، يفقد إحدى عينيهِ، ذو بشرةٍ متعبه للغاية وسيماء العذاب واضحٌ عليه، وكانت لحيتهُ طليقة، وقد غطى المشيبُ صدغيه ، ادعى بأنه مسافر و انقطعت به السبل في هذا المكان المتطرف، لكنه أتبع بأنه سيغادر البلدة إبان أن يرتاح ويسترجع قواه.

لم تمضي ساعة حتى أصبح الزائر الغريب ثالث اثنين، منذ سنون خلت لم يشاطرهما أحدٌ السهر، السيدة العجوز كانت تقترب قليلا منه - رغم ما عليه من آثار شقاء - وتحاول أن تتلمسه، لكنه كان يبتعد كلما دنت منه، طلب الزائر أن يلعب الشطرنج، فأطلق الكهل تنهيده بعيده، وتمنى أن لا يكون قد نسي اللعب أو حتى أضاع مكانها.

أحس الجميع بأن الليل قد طال، وكأن القمر يسامرهم، وصفير الريح الباردة تغريدٌ شجي، لحظات مرت وإذ بصوت بكاءٍ حنون ينحدر من ثغر السيدة العجوز، ران على المكان هدوء واضح، ثم استطرد الزائر بعد أن أدمعت عينهُ الوحيدة متسائلاً عن سبب بكائها، وقلبه يفيض بالحزن.

لم تشأ السيدة أن تفسد جو المرح الذي ساد فغادرت المكان، وبصوتٍ ملئهُ الشجن بَيَن الكهل للشاب سبب بكاء زوجته، حيث حملتها الذاكرة نحو ولدها الوحيد الذي انتهى مصيره قبل عشرين عاماً بالمعتقل لظروفٍ سياسية كان قد اندفع فيها اندفاع الشباب.

وبعد فترة هدوء استأنف الكهل حديثه قائلاً : حينما تتهافت الأحزان ويعلو صوت الذكريات يخضع حينها الإنسان لواقعهِ الأليم، ولكن إذا شع بصيص أمل كشعاع شمسٍ ينبثق من بين غمامتين حينها يدرك المرء بأن المستحيل ربما يتقهقر... يا بني عشرون عاماً حملت بأجنحتها عشرون ربيعاً لكنها حملت معها أيضا مئات العواصف وآلاف الليالي الظلماء.

بدا على المكان حزنٌ ملموس بددتهُ السيدة بصوتها الحزين طالبةً الجميع استئناف ما كانوا يفعلونهُ بعدما شعرت بأنها أفسدت جو المرح السابق، وطلبت من الجميع مسح دموعهم ونسيان ما قيل.
اقترب الصباح من التنفس و تنهد الجميع بعد سهر ليلةٍ كانت تعد من أجمل ليالي العجوزين، بعد ذلك طلب الكهل من الجميع أن يخلدوا للنوم وقال لضيفه : يمكنك استخدام غرفة ولدنا فهي مغلقةٌ مذ رحل.

انصاع الجميع لأمره، وفي الطريق للغرفة ربت الزائر على كتف الرجل وقال له : إذا انبزغَ شعاعُ شمسٍ نحيل من بين غمامتين عنيدتين فلربما تحتقرهُ أديم الأرض كونهُ لا يحمل لها دفئاً ولا ضوء، لكنهُ قد يسقط على زهره وحيده ضعيفه فيحييها للأبد.
بعد دقائق خَـلُـد الجميع للنوم وبعقولهم سلاسل من الأفكار لا تنتهي، وبعدما غزت خيوط الشمس الذهبية الأفق ليبدأ معها نهارٌ جديد، استيقظ العجوزان بكل فزع حينما خُـلع باب المنزل عنوةً من قبل ضابطٍ يصحبهُ جنودٌ أغلاظ اندفعوا للداخل بكل همجيه، و انتشروا بأرجاء المنزل يفتشون المكان، أدرك الكهل بأنهم جنود المعتقل، فطريقتهم اللاحضارية دلت كم أنهم غارقون بالفوضى و الجهل.

لكنهم لم يعثروا على شيء، فغادروا المكان بعدما خلفوا ورائهم المشاع، بعدها خيم على المكان هدوءٌ مشوبٌ بالاستغراب، ثم اندفع الكهل و زوجتهُ لغرفه الزائر ، ليكتشفان بأنها خاوية ولا أثر فيها سوى بقايا إحساس قديم.

وعند حلول المساء جلس العجوزان صامتين منصتين فقط للباب فلربما يُقرع بأي لحظة، ولما حان وقتُ النوم، توجه الكهل نحو باب المنزل وأزاح المزلاج عنه وبات من السهلِ على أي شخصٍ في الخارج أن يلج فيه.

أفاقت السيدة العجوز فجراً على إثر ريحٍ باردةٍ أحست بها، وحينما نظرت لمصدر هذه الريح رأت زوجها واقفاً أمام النافذة لا يهابُ برودةَ الطقس، ظنت بأنه ينظر نحو الطريق وكأنه ينتظر شخصاً ما، قامت نحوهُ بهدوء لكنهُ لم يشعر بحثيث خطاها، كان يتأمل السماء مراقباً لغمامتين عنيدتين وثمة شعاعٌ نحيل للغاية يحاول اختراقهما، وكلما نجح الشعاع و انبثق من بينهما، تسارع إحداهما أو كليهما لكبحهِ وحجبه، وكأنه صراعٌ بين الأمل والحقيقة... عادت لفراشها باكيةً وبلا شعور مدت يدها نحو وسادةِ زوجها فوجدتها مبللة.

----------------------------
الدرويش
محمد عبدالشافي القوصي «مصر»

حَدّثني من لا أشُكُّ في صِدْقِهِ؛ عن أبيهِ عن جَدّه الأكبر: أنّ رجلاً "درويشاً" كان يقيم في كوخٍ قديمٍ على قارعةِ الطريق، بالقرب من بلدتهم النائية. لمْ يأْبهْ الناسُ به في حياته أبداً. لكن عندما سمعوا بموته؛ حزنوا عليه أشدّ الحزن.. خاصة البسطاء والفقراء والمساكين الذين كانوا يرونه أباً حنوناً، وشيخاً صالحاً يلتمسون عنده البَرَكَة، ويطلبونَ منه الدعاء.. كما في الخضر في زمانه! وقدْ قِيل: إنّ أكثر الذين تضرروا بموته؛ هم عابرو السبيل الذين كانوا يتخذون من كوخهِ الصغير مَلاذاً للأمنِ والسكينة.
لكن البوليس؛ كان يعدّ وجوده على قارعةِ الطريق خَطراً يهدّد الأمن العام.. لاسيما بعد الشكاوى المتكررة من تجار المخدرات والمهرّبين وعصابات المافيا، الذين كانوا يخشون افتضاح أمرهم، بسبب تجمّع الناس في ذلك المكان! فلم يهدأْ رجال البوليس إلا بعدما قاموا بطرد الفقراء، وهدم الكوخ على "الدرويش" ومَنْ معه..!

***

بعد سنين طويلة خَلَتْ، حدثتْ واقعةٌ غريبةٌ في مكان الكوخ المتهدّم.. واقعة غريبة بكل تأكيد، بلْ هي أغرب من الخيالِ ذاته!

فالضابط الصغير الذي قام بهدم الكوخ.. انتقلَ للعمل بالإسكندرية، وبورسعيد، ومرسى مطروح.. وترقّى في المناصب حتى بلغ درجة "لـواء". بعدها صدرَ أمرٌ بتعيينه محافظاً لـ(قنـا). وقبل أن يَتسلّم مهام منصبهِ الجديد.. قرر وزوجته قضاء إجازة عيد الفطر في مدينة الأقصر بصعيد مصر الجواني، وبينما كان يقود سيارته، أصابه التعب والإجهاد، لهطول الأمطار بغزارةٍ في تلك الليلة شديدة البرودة من ليالي الشتاء.. فاضطرّ أن ينزل في الحال من السيارة.. إلى أنْ يتوقف المطر.

وفجأة؛ شاهد ضوءاً خافِتاً ينبعث من مكانٍ بعيدٍ تحيط به الأشجار الكثيفة.. وما إنْ وصلَ بصعوبةٍ إلى هذا المكان، حتى فُوجِئ بقصرٍ تحوطه أشجار وبساتين تجري من تحتها الأنهار!
ببطءٍ شديد.. اقتربَ من الجانب الأيمن الشرقي المضيء من القصر، فطرقَ البابَ فلم يُجِبْ أحد، فهَمّ بالرجوع.. لكنه أعاد الطرق مرة أخرى، فإذا بشيخٍ وقورٍ يفتح الباب بهدوء، ولسانه يلهج بالتسبيح والتحميد.. فأقبلَ الضيفُ نحوه وسَلّمَ، وطَلَبَ السماح له وزوجته بقضاء بعض الوقت عنده حتى يتوقف المطر.. لمواصلة الرحلة إلى الأقصر.

فرحّبَ بهما الشيخ ترحيباً حاراً.. وعلى الفور قدّم لهما مائدة عليها كل أصناف الطعام والفاكهة، وأعقبها بالمشروبات الساخنة.
ولمّا أَحسّ "الضيف" براحةٍ نفسيةٍ نحو الشيخ، أراد أن يتسامر معه.. فقاطعه على الفور، قائلاً: هل صلّيْتَ العِشاء يا حضرة الضابط؟

لا.. لأنني غير مواظب على أمور العبادة.

وما الذي يمنعك عن المواظبة؟ قُـمْ فتوضأ الآنَ وصـلِّ، لعلّ الله يُنيرُ بصيرتك.

فأحسّ بالخجل، وصَلّى.. ثم عاد وجلس بجوار الشيخ، وسأله عن اسمه وعمله؟

قال: اسمي عبـد الرحيـم. وعملي: تأمين الخائـف، وإطعام ابن السـبيل.

اندهشَ من هذا الجواب الذي لم يسمع مثله قط! فطأطأَ رأسه، ثم قال بصوتٍ خفيض: علّمني شيئاً أيها العارف... فقاطعه غاضباً: كلا، فواللهِ ما عرفَ الله إلا الله!

فتعجّبَ منه! ثم أعادَ القول: علّمني شيئاً -أيها الشيخ- يُقرّبني من الله ومن الناس؟

قال: الذي يُقربكَ من الله؛ مسألته. وأمّا الذي يُقربكَ من الناس؛ فترك مسألتهم!

بعد قليل؛ أخرج الشيخ من جيبهِ مسبحةً خضراء لونها تَسرُّ الناظرين! ونظر إلى صاحبه بتفرّس، ثم تمْتمَ وهو يهزّ رأسه: السعيدُ حقاً مَنْ يعتبِر من عجائب الجزاء في الدنيا.. فإنه لمّا امتدتْ أيدي الظلم من إخوة يوسف وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ امتدتْ أكفّهم بين يديْه بالطلب، يقولون: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ولمّا صبرَ هو يوم الهمّ؛ مَلَكَ المرأة حلالاً! ولمّا بغتْ عليه بدعواها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أنطقها الحق بقولها: أَنَا رَاوَدتُّهُ !

***

وفي ختام السهرةِ الطويلة، توجّه الشيخ للتهجّد، بعدما أشار إلى الضيف وزوجته بالنوم في الغرفة الواسعة الخلفية.
في صباحِ اليوم التالي، نهض الضيفُ وزوجته المسافران من نومهما مبكراً، كيْ يواصلا رحلتهما.. وعند الرحيل، اقترحت الزوجة أنْ يتركا هَـديةً ما للشيخ الذي ضَيّفهما وأكرمهما.
استمرت الرحلة، حتى وصلا إلى البلدة التالية، والتي لا تبعد سوى أميالٍ قليلةٍ عن المكان الذي قضيا ليلتهما فيه.. فأوقفَ سيارته أمام "مقهى" صغير لتناول طعام الإفطار.. وقبل المغادرة، نادى على صاحب المقهى، وسأله عن صاحب القصر العظيم الذي يقع بالقرب من الطريق العام؟

فإذا بصاحب المقهى ينظر إليه بدهشةٍ شديدة، وكأنه لا يُصدّق ما سمعه!

وعندما سأله عن سر دهشته.. قال صاحب المقهى: إنكَ يا سيدي تمزح، أوْ إنكَ تقصد مكاناً غير الذي تُحدّثني عنه!

فأقسمَ له على صِدْقِ كلامه، وأشهدَ زوجته على ذلك، فأكدتْ صحة ما قيل.. بلْ قامت بوصف المكان كله.. ووصفت الشيخ الوقور وصفاً دقيقاً.

عندئذ؛ كاد صاحب المقهى أن يُصاب بالجنون مما يسمع.. فقال وعيناه تلمعان:

هل الشيخ الهَرِم اسمه (عبدالرحيم)؟

قال على الفور: نعم.. هو قَدّم لي نفسه بهذا الاسم.

فاستدارتْ الزوجة، وسألت صاحب المقهى: هل تعرفه؟!

قال القهوجي - مندهشاً-: إنه درويشٌ مخبول كان يقطن كوخاً صغيراً، هدمه البوليس فوق رأسه منذ سنين بعيدة! فلا يوجد الآن كوخ ولا قصر ولا يحزنون!

فأُصيبَ الزوج بحيرة شديدة.. وظلّ يُقسِم أنه وزوجته أقاما عنده الليلة الماضية، وتناولا معه الطعام، وشربا معه الشاي أيضاً!
من أجل إنهاء الجدل، قال صاحب المقهى: هذا أمر مستحيل الحدوث.. وأنا لا أُصدّق؛ لأنّ (عبدالرحيم) مات منذ زمنٍ بعيد! والكوخ ذاته أصبح بقايا أطلال، ولا وجود له على الإطلاق.. ولم يقف أحد في هذا المكان منذ هذا الزمان.. وهذا الحدث الأليم.

ولمّا احتدم الجدل بين الزوجيْن وصاحب المقهى، عرضا عليه أن يصحباه إلى ذات المكان، لكيْ يتأكد بنفسه، وليُبرْهِنا على صِدْق قولهما.. فوافقَ صاحب المقهى في حماسٍ شديد، وأغلق المقهى على الفور، وركب معهما العربة.. واندفع خلفهم كل من كان بالمقهى، من دهشة ما سمعوا!

وعندما وصلوا إلى المكان ذاته، أصابتهم حالة من الرعب الشديد، فقد وجدوا أنّ المكان عبارة عن ساحة شاسعة تملؤها أعشاب محترقة وبقايا كوخ متهدّم!

وهنا.. لم يُصدّق الزوجان أعينهما! وسرعان ما صرخت الزوجة، وهي تشير إلى زوجها وصاحب المقهى بإصبعٍ يرتجف من الخوف.. وهي تقول:

انظروا.. هذه هي "الأجـندة" التي تركناها قبل أن نخرج من هنا في الصباح الباكر!

فردَّ الزوج في حالة من الذهول: حقاً.. إنها هِيَ هيَ نفس "الأجندة الحمراء" التي وضعتها بيدي!

***

في صباح اليوم التالي؛ كان هذا "الضابط" قد تَسلّم عمله الجديد (محـافظ قنـا) فاسترجعَ ذاكرته.. ثم فكّر وفكّر.. فكان أول قرارٍ قد أصدره: هو تحويل المكان الذي به الكوخ إلى ساحة ومسجد ومقام سيدي (عبدالرَّحِيم القِنَائي)!

----------------------------
في البيت
محمد إبراهيم زهدي «مصر»

كنت اسميه البيت بالرغم من قصر فترة بقائي به الا انه كلما فكرت اين اسكن و اين يقع منزلي لم يأت بخاطري سو ى هذا المكان العظيم.

وفي البيت في البيت وحده كانت هناك أجمل شجرةتوت في الدنيا بأسرها كانت طويلة للغاية ذات أفرع متشعبة و أوراق كثيفة و في موسم التوت كانت القرية كلها تأتي لتشاركنا مراسم هز الشجرة وجمع الثمار المتساقطة.

كانت تلك الشجرة عظيمة بحق مثلها مثل المنزل و كان أخي الأكبرابراهيم أكثرنا غراما بتلك الشجرة كان يجلس على أفرعها بالساعات و يعرف كل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة يعرف كيف يسقط منها الثمر و اين أفضل مكان للجلوس عليها و كيف يمكنك أن تراقب البلدة كلها من فوق.

كنت أحب الشجرة مثل ابراهيم و اتسلقها أحيانا و أجلس على أفرعها مثله و لكنني أبدا ما جرؤت أن أصعد الى قمتها مثلما يفعل انني حتى كنت أخاف من الوصول إلى نصفها العلوي ولطالما قال لي و هو يضحك ستظل تخشى من الشجرة حتى تأتيك بالمنام.

وفي أحد شهور الصيف كان كل أبناء خالاتي و أخوالي عندنا بالمنزل و كان ابراهيم أكبرنا في السن و أكثرنا قوة و كان من عادته أن يستعرض سرعة تسلقه الى قمة الشجرة و هبوطه منها ثم يبدأ لعبة التحدي (من منا يستطيع أن يسبقه ؟) و لكن لم يجرؤ أحد منا على الصعود الى قمة الشجرة مثله.

وفي أحد هذه الاستعراضات و بينما ابراهيم يرينا كيف يهبط بثقة و مهارة اشتبكت احدى قدميه بفرع من الشجرة فوقع بينما قدمه لا زالت معلقة من فوق فاصطدمت رأسه بمنتهى القوة في جذع الشجرة ثم رأينا الدم ينزل بغزارة من رأسه..

لم يلبث الا ليلة واحدة بالمشفى و بعدها فارق الحياة.

كانت الصدمة شديدة على أمي فظلت تبكي و تبكي و تيكي حتى ظننا أن الدموع قد نفدت لديها و لكن هذا لم يكن بصحيح فقد استمرت فقط في البكاء.وكان أول شيء نطقت به بعد الحادث:

"الشجرة..لا أريد أن أرى تلك الشجرة ثانية ؛أريد أن تزيلوها من أمامي ؛أريد أن أخرج فلا أجدها أمامي مرة أخرى".

بعدها كانت القرية بأسرها تشاهد في حسرة التوتة العزيزة و هي تسقط أمام أعينهم متفهمين تماما لمَ يجب أن تزال من بلدهم للأبد و لكني كنت الوحيد الذي لم أفهم لماذا يجب هذا.

بعدها بعام رضخ والدي لطلب أمي و رحلنا عن هذا المنزل الذي لم يعد يعني لها سوى موت ابراهيم و بعدها بقليل تركنا القرية كلها و رحلنا الى المدينة علها تنسى و تحاول الحياة من جديد.

في بعض الأحيان أحاول أن أستعيد وجه ابراهيم و لكنه دائما ما يطير من خيالي أحاول أن أتذكر بعض التفاصيل و لكن لا فائدة بينما شكل التوتة و أفرعها و تفاصيلها لم يفارق مخيلتي أبدا.

لقد زارتني الكثير من المرات في المنام كما تنبأ لي أخي؛ الكثير حتى انني أراها أمامي طيلة الوقت لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي صورة أجمل شجرة توت رأيتها في حياتي تلك الشجرة التي كانت في بيتي أعظم بيت في الدنيا بأسرها.
-----------------------------------------
* القصص الخمس تذاع على موجات بي بي سي العربية، وتنشر على موقع العربي الإلكتروني.
** ناقد وأكاديمي من سلطنة عُمان.

 

 

 

عبدالله الحراصي**