رواد ورائدات في فضاء «الإنترنت»

رواد ورائدات في فضاء «الإنترنت»

«مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة»، كثيرا ما نردد هذا المثل الشعبي الشهير، نردده جميعا، بينما نحن أبعد ما نكون عنه، إذ غالبا ما تتسم خطواتنا العربية، بالبطء، وإذا كان هناك من لديه الاستعداد والكفاءة ليقطع نصف الطريق، فإنه لن يستطيع أن يواصل للنهاية، وإذا فعل، فلن يجد من يستكمل ما بدأه، من بعده، فالذات العربية المتضخمة، تنفي ما قبلها، بلا يقين من أن المسيرة البشرية هي تراكم الخبرات والتجارب، ولعل هذا ما قد يفسر أسباب إجهاض مشروعاتنا النهضوية، التي عادة ما تتوقف دون أن تكتمل، بل وتنقلب على نفسها، وهو ما ينسحب على مشروعاتنا القومية، والتنويرية، والثقافية والسياسية والديمقراطية والاجتماعية وسواها. على العكس، تبدو مسيرات الحضارات التي أخذت بأسباب العلم والتقدم مختلفة على طول الخط، من يبدأ من أفرادها خطوة، يجد المئات ممن يستكملونها، وهو ما يمكن أن نلاحظه بدقة في مسيرة العلوم على نحو خاص، ومن بينها علوم الحاسب الآلي، أو الكمبيوتر، وهو موضوعنا هنا على أية حال. وسوف نتوقف هنا أمام عدد من نماذج رواد علوم الحاسب الآلي، وربما نستكملها في حلقة لاحقة، لنتبين كيف أن إنجاز الفضاء الإلكتروني بكل ما يتضمنه اليوم، كمكتبة معرفية إلكترونية لا نهائية، ليس نتاج الأمس القريب، أو حتى نتاج عمل هذا القرن أو الذي سبقه، بل هو نتاج عمل مخلص لأجيال متوالية. عمل يمتد عمره لما يناهز قرنين كاملين من الزمن، بدأ في ظروف بالغة الصعوبة والتقليدية، لكنه قاوم كل ما حاول أن يعيقه، وهذه هي طبيعة العلم.

إدا لوفلاس
أول مبرمجة كمبيوتر في العالم

تعد إدا بايرن، أو إدا لوفلاس Ada Lovelaceالمولودة في العام 1815ميلادية، أول مبرمجة كمبيوتر في العالم، أظهرت نبوغا مبكرا في الرياضيات والمعادلات الجبرية، واليوم يعتبرها علماء الحاسب الآلي المُؤَسِّسَة الفعلية لهذا العلم.

هي ابنة الشاعر البريطاني اللورد بايرن، وثمرة زواجه القصير من آن إيزابيلا ميلبانكي، حيث انفصل والداها عقب شهر واحد من ميلادها، ولم تر والدها لاحقا وحتى وفاته في اليونان عام 1824.

أرادت الأم أن تبعد ابنتها عن الشعر والأدب، من فرط إحساسها بالغضب من اللورد بايرن، ولذلك شجعت الأم ابنتها على دراسة الرياضيات والحساب والموسيقى في وقت مبكر من عمرها، وقد أظهرت الفتاة نبوغا في الرياضيات في عمر المراهقة، وهو ما شجع الأم على الانتقال بها إلى لندن في العام 1828 للتعلم على يد أبرز علماء ذلك الوقت بعض العلوم الأخرى مثل الجيولوجيا، وعلوم الفلك، وفي العام 1833 تعرفت إدا على أحد ابرز علماء الرياضيات في كامبردج وهو تشارلز بابج Charles Babbage، وأبدى إعجابه بنبوغها في الجبر والمنطق وفي طرق حلها للمعادلات الجبرية، وهو مخترع النسخة الأولى من آلة التحليل الحسابي Mathematical Engine التي قدم لها وصفا تفصيليا لأول مرة في العام 1837، واستمر في تطوير الآلة حتى وفاته في عام 1871. واليوم تعد هذه الآلة التصميم الاولي لأول جهاز حاسب آلي عرفه العالم.

وعلى مدى تسعة أشهر استغرقتها إدا في ترجمة مذكرات الباحث الإيطالي لويجي مينابريي، حول آلة التحليل الحسابي، خلال فترة جمعت بين العامين 1843 و1844دونت العديد من الملاحظات على الطريقة التي حاول بها لويجي وضع معادلات لوغاريتمية لعمل الآلة، وفق ما دونته من معادلات وملاحظات حجم كتاب لويجي نفسه، وكشفت عددا مما وصفه بابج نفسه أخطاء اساسية، كان لها الفضل في تصحيحها، وابتكار المعادلات الصحيحة، واعتبر جهدها هذا هو أول عمل في علم برمجة الحاسبات الآلية، وهو ما جعل أستاذها تشارلز بابج يصفها بقوله «ساحرة الأعداد».

هذه التعديلات كانت نتيجة طريقة تفكير إدا التي تجاوزت فكرة التعامل مع الأرقام والأعداد فقط، ومع العمليات الحسابية البحتة، إلى ما بعد ذلك باستخدام المعادلات الجبرية واللوغاريتمات، وهي الإضافة الحقيقية التي أسهمت بها في هذا المجال.

واستمرت الإفادة من جهدها الرائد من خلال عمليات التطوير التي شهدتها آلة التحليل الحسابي، وفي عام 1953، أي بعد وفاتها بقرن كامل أعيد نشر عملها الرائد، واعتبر نموذجا لما يعرف اليوم بالبرمجة وSoftware.

توفيت إدا في عام 1853، عن 36 عاما متأثرة بالسرطان وكانت تزوجت أحد العلماء الذي ينتمي لطبقة النبلاء وهو اللورد كينج لوفلاس، وحصلت على لقب كونتيسة، وأنجبت ثلاثة أطفال.

فانيفار بوش
ملهم مبتكري الشبكة الدولية للمعلومات

يعود الفضل لفانيفار بوش Vannevar Bush، في إنشاء شراكة بحثية بين كل من الجيش الأمريكي والجامعات الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية، الذي خلق لونا من التعاون بين الحكومة الاتحادية والمجتمع العلمي ومجتمع رجال الأعمال، كللت لاحقا بإنشاء «وكالة مشاريع البحوث المتقدمة».

ولبوش تأثير كبير على علم تقنية المعلومات لصياغته الأفكار المبدئية لهذا العلم، عبر تفكيره في ابتكار وسيلة افتراضية لتخزين المعلومات، أي البحث عن وسيلة لتخزين قدر هائل من المعلومات في مساحة صغيرة جدا. بالإضافة إلى الأفكار الأولية للنصوص التفاعلية والتشعبية أو ما يطلق عليه اليوم «هايبرتكست». ولد عام 1890، في ولاية ماسوشيتس الأمريكية، وأنهى دراسته الجامعية عام 1917، والتحق بالبحرية الأمريكية في أقسام البحث، وعاد لدراسة علوم التكنولوجيا في جامعة ماسوشتس، حيث عمل مع فريق من الباحثين في الجامعة على إيجاد وسيلة لتجنب الانحرافات الحسابية، من خلال محاولة ابتكار شبكة مؤتمتة لتحليل البيانات، وهو ما أسفر عن ابتكار التصميم المبدئي لأول جهاز حاسب آلي في العام 1930. في العام 1940 عينه الرئيس الأمريكي روزفلت رئيسا للجنة أبحاث الدفاع الوطنية الأمريكية، للمساعدة خلال الحرب العالمية الثانية، وفي العام التالي تولى إدارة القسم الجديد الذي انشيء من أجل بحث تطوير الأسلحة، واستطاع أن يضم لأعمال هذه الإدارة 6000 باحث وعالم وصولا لفترة انتهاء الحرب، وكان لهذه الإدارة الدور الأكبر في تطوير تصميم القنبلة الذرية.

نوربرت فاينر
التحكم عن بعد

يعد نوربرت فاينر مبتكر ما يعرف بنظم الضبط أو التحكم أو السبرانية، Cybernetics ، والذي يعرف اليوم باسم علم السبرناطيقا، وهي المفاهيم التي ألهمت أجيالا من العلماء في علوم الحاسب الآلي كوسيلة لمساعدة البشر على زيادة قدراتهم المعرفية، من خلال أفكار تتعلق بالتعديل الذاتي، والتحكم عن بعد.

نوربرت فاينر من أصول مجرية ولد في عام 1894، ودرس الرياضيات في جامعة هارفارد، وحصل على الدكتوراه في علم المنطق وعمره 18 عاما فقط، ودرس على يد عدد كبير من العلماء والفلاسفة من بينهم برتراند رسل Bertrand Russell، في هارفارد ببريطانيا، ودافيد هيلبرت David Hilbert، في جامعة جوتينجن Gottingen، في ألمانيا.

عمل لفترات متقطعة في مجالات عدة، بين الصحافة، والتدريس بالجامعة، والهندسة، والكتابة، التحق بمعهد العلوم التكنولوجية بجامعة ماسوشيتس، في العام نفسه الذي التحق به فانيفاربوش، أي العام 1933.

في خلال الحرب العالمية الثانية عمل فاينر على بحث أسباب تغيير القذائف الصاروخية لمساراتها المحددة، او انحرافها عن تلك المسارات، واكتشف، بعد العديد من الأبحاث والتجارب أن هناك علاقة بين البيئة التي يطلق منها الصاروخ تؤثر عليه رغما عن ظروف أخرى عديدة. قام فاينر بتطوير أبحاثه بعد الحرب، على الحيوانات، النباتات، وتأكد من صحة افتراضاته التي أثبت بها لاحقا نظريته عن علاقة الإنسان بالعناصر الإلكترونية التي تحيط به، حتى لو لم يكن تأثيرها منظورا، ووصل إلى أنه لا يمكن فهم المجتمع إلا من خلال وسائل الرسائل والاتصال التي تنتمي إليه وتقوم بين مكوناته، وأشار إلى أن التطورات في المستقبل في مجال هذه الرسائل وأنماط الاتصال سوف تحمل أشكال اتصال بين الإنسان والآلة، وبين الآلة والآلة وبين الإنسان والإنسان عبر الآلة مباشرة. وقد كتب بشكل مفصل عن نظريته في كتاب صدر بالعنوان نفسه Cybernetics، في العام 1940وحصل على العديد من الجوائز العلمية على انجازاته.

جي سي آر ليكليدر
حلم الحاسب الشخصي

يعود سبب إنشاء وكالة مشاريع البحوث المتقدمة بأوامر من الرئيس دوايت ايزنهاور إلى الحرج الذي وقعت فيه الولايات المتحدة بعد أن أقام الاتحاد السوفييتي السابق، بإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك في أكتوبر 1957. في مرحلة دقيقة من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانت تشهد تسابقا في التسلح، وفي الكشف العلمي وأبحاث الفضاء.

وفي العام 1962 توجه ليكليدرLicklider للعمل في الوكالة بين فريق كبير من الباحثين، وهو يجمع بين دراسته لعلم النفس وعلوم الكمبيوتر، وقد كان لعمله في الوكالة دور كبير في تطوير عملها باتجاه إنشاء شبكة معلومات يمكن لأي شخص أن يحصل منها على ما يريد.

بدأت بفكرة شبكة معلومات داخلية، وهو مثله في ذلك مثل بوش، لم يشهد تحول أفكاره إلى حيز التنفيذ، لكنه أسهم بشكل كبير في التصميم والأفكار النظرية، كان له دور كبير في وضع فكرة شبكة المعلومات، وتطورها حيث كان له سبق إثارة عدد من الأفكار مثل المكتبات الرقمية، والتجارة الإلكترونية، والتصميم على أجهزة الحاسوب باستخدام الجرافيك، وغير ذلك من أفكار أصبحت اليوم أمرا واقعا.

ومثل أغلب العلماء في ذلك الوقت التحق ليكليدر بمعهد التكنولوجيا بجامعة ماسوشيتس، وعمل في العام 1950، في أثناء مرحلة الحرب الباردة، على تصميم نظام دفاع إلكتروني لمصلحة القوات الجوية الحربية الأمريكية ضد الصواريخ السوفييتية يتم توجيهه عن بعد باستخدام الكمبيوتر، وبعد انتهاء المشروع، فضل أن يعمل في مجال علوم الحاسب الآلي، وقدم العديد من الأفكار التي كان لها دور بارز لاحقا في تحقق حلم إنشاء شبكة المعلومات الدولية أو الإنترنت. كما كانت له العديد من الأفكار التي ضمنها دراسات وكتب حول أحد أحلامه بإيجاد مكتبة رقمية يمكن تخزين مكتبات العالم عليها بخلق مجتمع عالمي غير مسبوق للمعرفة، كما كان عمله في العام 1963 مع فريق على بحث أحد المشروعات العلمية سببا في التفكير في كيفية إيجاد شبكة اتصال بين أفراد الطاقم بحيث يتاح لكل منهم الاطلاع على أبحاث الآخرين والإفادة منها في عمله للتغلب على حاجز المكان والوقت، وهي الفكرة التي تأسست عليها فكرة الإنترنت لاحقا.

لاري روبرتس
الأب الروحي لـ «أربانت»!

يعد لاري روبرتس الأب الروحي لوكالة البحث التكنولوجي، والمؤسس لأول شبكة معلومات داخلية فيها بالاتكاء على أفكار ليكليدر السباقة في هذا المجال.

فعندما تولى إدارة وكالة ARPA ، في العام 1966، لاحظ وجود العديد من مظاهر الازدواجية، خصوصا بالنسبة للملفات التي يتم تخزينها، وكان البعض لا يستطيع للحصول على المعلومات المتاحة لدى أفراد من إدارات أخرى، وبالتالي وجد روبرتس أن كل ذلك يمثل نوعا من هدر الموارد، والوقت، وقرر أن يتبنى مشروعا لعمل شبكة افتراضية يتم توصيلها بين جميع أجهزة الحاسب الآلي لدى فريق العمل بحيث يتاح لكل شخص للوصول إلى المعلومات التي يرغب في الوصول إليها عن طريق تلك الشبكة، وكانت هذه هي الشرارة التي تحققت بفضلها شبكة Arpanet، والتي تعد المحطة الأولى لفكرة افنترنت، أو شبكة المعلومات.

لقب الأب الروحي لهذه الشبكة أطلقه المتخصصون على لاري روبرتس، لجهده في إدارة المشروع على أعلى درجة من الكفاءة، حيث بحث عن كل من صادفهم في عمله من المهتمين في موضوع الشبكات، وبحث عن مدير شاب للمشروع، وشرع في البحث عن طرق برمجة تضمن توحيد اللغة المستخدمة على برامج الكمبيوتر حتى يتم استخدامها للشبكة، بالإضافة إلى توفير الموارد اللازمة ماديا وإداريا من أجل تحقيق الهدف.

وبدأ تنفيذ الفكرة على أربع جهات بينها جامعة أوكلاهوما، بحيث ترتبط معا بشبكة معلومات، أي تاسيس شبكة معلومات داخلية في كل جهة من هذه الجهات، ثم العمل لاحقا على خلق شبكة معلوماتية بين هذه الجهات معا وهو ما تحقق بالفعل في العام 1969 محققا شبكة اربانت التي كان لها الفضل في توسيع الفكرة عقب عقدين كاملين من العمل الدءوب لكي تتحقق الأحلام التي أطلقها الرواد, وأخلص على تنفيذها الباحثون من أجيال لاحقة عدة، كما سوف نتناوله في هذه الزاوية لاحقا.

 

 

إبراهيم فرغلي 




ابنة اللورد بايرن





 





فانيفار بوش.. ملهم مبتكري الشبكة الدولية للمعلومات





نوربرت فاينر.. التحكم عن بعد





جي سي آر ليكليدر.. حلم الحاسب الشخصي





لاري روبرتس.. الأب الروحي لـ «أربانت»!