‏تحقيق علمي لأهم موسوعة في تاريخ الطب الإنساني

‏تحقيق علمي لأهم موسوعة في تاريخ الطب الإنساني

موسوعة الحاوي لأبي بكر الرازي

أصدر المحقق الدكتور خالد حربي أكثر من أربعين كتاباً في التراث العربي والمخطوطات وعلوم الحضارة الإسلامية، جاء العديد منها في الرازي كدراسة وتحقيق ونشر لمؤلفاته، التي كانت لاتزال مخطوطه قبل صحبته للطبيب والعالم العربي، والتي أثمرت مجموعة من الأعمال شكلت فهما عميقا للرازي ومنهجه وأسلوبه ومصطلحاته، وعُدت بمنزلة تمهيد لأول تحقيق عصري لموسوعة الحاوي، التي تعد أعم وأهم وأضخم موسوعة طبية في مؤلفات الطب العربي الإسلامي، بل في تاريخ الطب الإنساني كله، فهي أول موسوعة طبية لكل المعلومات والعلوم الطبية المعروفة حتى وفاة الرازي في بداية القرن العاشر الميلادي (313هـ/925م)، ذلك المشروع التراثي المهم الذي تجشم عناءه وقرر أن ينتهي منه لتحقيق النفع للبشرية، والتعريف بالنهضة العلمية والطبية التي حققها علماء الحضارة الإسلامية.

اعتمد الدكتور خالد حربي في تحقيقه على تسع نسخ خطية تكاد تكون هي كل النسخ الخطية الموجودة في العالم، يبلغ عدد صفحاتها 6620 صفحة مخطوطة، اشتمل تحقيقها على أكثر من نصف مليون هامش تحقيق متضمنة: المقابلات بين النسخ الخطية لضبط سياق النص، وشرح كل المصطلحات الطبية والصيدلانية واللغوية والأمراض والأعراض والأدوية المفردة والأدوية المركبة، والأطعمة، والنباتات، والأعشاب، والحيوانات، والمعادن، والأحجار، والأملاح، والموازين، والأعلام من أطباء الهند واليونان والسريان والإسكندرانيين، والعرب والمسلمين، وكذا مؤلفات كل هؤلاء، الأمر الذي أدى إلى اكتشاف كثير من الأفكار والآراء والنظريات الرازية، وغير الرازية، التي لم تكتشف من قبل، تلك الاكتشافات التي سوف تحدث تغييرًا في مسار تاريخ الطب العربي الإسلامي، بل في مسار تاريخ الطب الإنساني كله.

حجة زمانه

وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي (250 313هـ/ 864 925م) أبرز أطباء الحضارة الإسلامية، وطبيب المسلمين من دون منازع، وأبو الطب العربي، وجالينوس العرب، بل وحجة الطب في العالم منذ زمانه في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وحتى القرن الثامن عشر للميلاد، ففي خلال هذه القرون الممتدة، كانت مؤلفات الرازي الطبية والعلاجية تشكل أساساً مهماً من أسس تعليم طلاب الطب في جميع أنحاء العالم، ويرجع ذلك إلى الإسهامات الطبية والصيدلانية، والبحثية والتعليمية الأكاديمية الرائدة التي قدمها الرازي، وعبرت بحق عن روح الإسلام وحضارته إبان عصورها المزدهرة، وعملت على تقدم علم الطب، وأفادت منها الإنسانية بصورة لا يستطيع أن ينكرها مُنكر.

خبرة إكلينيكية

تأتي أهمية موسوعة الحاوي Continentesفي الطب من كون الرازي قد جمع فيها كل الخبرة الإكلينيكية التي عرفها في مرضاه، وفي نزلاء البيمارستانات (المستشفيات)، وكانت فتحًا جديدًا في تاريخ تعليم الطب، كما تعتبر أضخم كتاب عربي وصل إلينا كاملاً ولايزال، غنيا بالمعلومات الطبية لم يسبر غوره، ولم يدرس بدقة وتأصيل لكثرة ما تضمنه من أسماء الأدوية وصيدلية تركيبها، وأسماء الأطباء من العرب وغير العرب الذين أخذ من مؤلفاتهم في هذا الكتاب، ولضخامة الكتاب بهذا الشكل لم يقرضه طبيب من الذين أعقبوا الرازي، وكل ما فعله الممارسون من بعده أن تداولوا صورًا مختصرة منه.

حالات سريرية

اشتهر الحاوي بذكر عدد كبير من الحالات السريرية التي تجاوز عددها المائة حالة، وهو موسوعة طبية اشتملت على كل ما وصل إليه الطب إلى وقت الرازي، ففيه أعطى لكل مرض وجهة النظر اليونانية، والسريانية، والهندية، والفارسية، والعربية، ثم يضيف ملاحظاته الإكلينيكية، ثم يعبر عن ذلك برأي نهائي، ولذلك اعتبر الحاوي من الكتابات المهمة في مجال الطب؛ التي أثرت تأثيرًا بالغًا في الفكر العلمي في الغرب، إذ ينظر إليه عادة على أنه أعظم كتب الطب قاطبة حتى في العصور الحديثة.

ويتفق جميع المؤرخين القدماء والمحدثين على أن الرازي توفي قبل أن يُخرج هذا الكتاب، ويرجع الفضل في إخراجه إلى ابن العميد أستاذ الصاحب ابن عباد الذي طلبه من أخت الرازي، وبذل لها دنانير كثيرة، حتى أظهرت له مسودات الكتاب، فجمع تلاميذه الأطباء ومنهم: يوسف بن يعقوب، وأبو بكر قارن الرازي، فرتبوا الكتاب، ونسقوه وبوبوه في نسخة مخطوطة واحدة كاملة، تداولها كل من جاء من بعدهم.

وما زال الحاوي عمدة كل دراسات تاريخ العلم عامة، وتاريخ الطب خاصة على المستويين العربي والغربي، ومع ذلك يعترف جميع المشتغلين بتاريخ العلم على مستوى العالم أن الحاوي لم يحقق حتى الآن تحقيقًا علميًا دقيقًا، فما زال الكتاب بكرًا لم يعمل به الباحثون باهتمام وشمول ودقة، وهذا ما يجعل تحقيق الدكتور خالد حربي له تميز وتفرد وإضافة حقيقية إلى المكتبة الطبية والتاريخية العربية بحق، ضمن مشروعه التراثي المنصب على تحقيق ونشر مؤلفات الرازي المخطوطة منذ عام 1994.

وقد ذكر علماء الغرب أن كتاب الحاوي في الطب هو أعم موسوعة في الطب اليوناني العربي، وأهم أعمال الرازي؛ فجاء أوسع وأثقل كتاب ترجم إلى اللاتينية وطبع في أوربا، وظل عمدة الدراسات الطبية الغربية على مدار قرون طويلة.

أول ترجمة

يُذكر أن أول ترجمة لهذه الموسوعة قد ترجمت على يد طبيب يهودي من صقلية يدعى فرج بن سالم ويعرف في العالم اللاتيني باسم فراجوت بأمر من شارل الأول أمير نابولي وصقلية، حيث انتهى فرج هذا من ترجمة «الحاوي» في عام 1279 ميلادية، وكانت بعنوان Liber Dietus Elhavi، لكن الترجمة لم تنشر إلا في عام 1486 في بريشيا والبندقية في إيطاليا.

مخطوطات لاتينية

وبين عامي 1279 و1486 ظلت مخطوطات الحاوي اللاتينية نادرة، فمكتبة كلية الطب في باريس لم تكن تمتلك في منتصف القرن الرابع عشر إلا نسخة واحدة منه، ومن الطريف أن ملك فرنسا لويس الحادي عشر اضطر إلى دفع تأمين مالي كبير في مقابل أن يستعير هذه النسخة لكي ينسخ عنها أطباء البلاط الملكي الفرنسي مرجعاً لهم، ثم ظهرت للحاوي عدة طبعات بعدة لغات أوربية عامي 1486 و1509 حققت انتشارًا أكبر للموسوعة، وجعلتها متاحة للأطباء والباحثين في مجال الطب الأوربيين، ونشرت للحاوي ترجمة لاتينية أخرى باسم Continens Rasis في البندقية عام 1542، جاءت في 25 جزءًا، وبلغ وزنها حوالي 9 كيلو جرامات كما قدم Green Hill طبعة ممتازة عام 1548.

أول طبعة عربية

أما الطبعة العربية لكتاب «الحاوي» فقد تأخرت حتى سنة 1955، حين ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب والذي اعتبره جميع الخبراء بالطب العربي القديم من أهم المصادر، وقد قامت دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن بالهند وبمعونة من حكومة الهند بتشكيل فريق من العلماء والباحثين، جمع عدة نسخ خطية من الموسوعة، واستمر طبع الكتاب، حتى اكتمل في عام 1971، وجاء في مجموعة مكونة من 23 جزءاً، ويقع الجزء الثالث والعشرون في قسمين يكون كل قسم منهما مجلداً، إلا أن هذه الطبعة لم تحقق تحقيقاً علمياً دقيقاً، ومن هنا تأتي أهمية ما يقدمه الدكتور حربي من خدمة جليلة للباحثين، ومن نفع للبشرية من خلال تحقيقه لتلك الموسوعة.

ولا يعد مؤلف الرازي الوحيد بين المؤلفات والمخطوطات العربية الذي حمل هذا الاسم، بل إن هناك عددًا من الأطباء العرب ألفوا كتبًا وأطلقوا عليها اسم «الحاوي» نفسه منهم: الطبيب على بن سليمان من أطباء القاهرة أيام العزيز بالله الفاطمي، توفي 411 هـ -1021م، وسماه: كتاب الحاوي في الطب. نجم الدين محمود الشيرازي توفي عام 730 هـ - 1329م، سماه كتاب الحاوي في علم التداوي.

واستخلص دكتور حربي من تحقيق موسوعة الحاوي في الطب لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي فوائد جمة منها أن موسوعة الحاوي في الطب كأول وأضخم موسوعة طبية في تاريخ الطب الإنساني تحتوي على أوراق ومتون كتب من الحضارات السابقة على الحضارة الإسلامية كحضارة بلاد الرافدين، والحضارة الهندية، والفارسية، واليونانية، والسريانية، وأيضًا الحضارة العربية الإسلامية، وأصول بعض هذه الأوراق وتلك المتون مفقودة، ولا توجد إلا في الحاوي، ومن هنا تعد موسوعة الحاوي في الطب حلقة مهمة جدا من حلقات سلسلة الحضارة الإنسانية في عمومها، إذ تعد قاسماً إنسانياً مشتركًا يخدم تلك الحضارة الإنسانية وتشكل حاليًا قاعدة معرفية للتواصل بين العرب والمسلمين وغيرهم من أصحاب الحضارات الأخرى.

موسوعة الموسوعات

تحتوي موسوعة الحاوي في الطب للرازي على متون كتب كاملة من الحضارات السابقة على الحضارة الإسلامية، كالحضارة الهندية وبلاد الرافدين، والفارسية، واليونانية، والسريانية، وأيضًا الحضارة العربية الإسلامية وأصول هذه الكتب مفقود ولا توجد إلا في الحاوي.

وقد أثبت تحقيق الموسوعة أن الرازي فكر كأول طبيب في معالجة المرضى الذين لا أمل في شفائهم، فعُدًّ بذلك رائداً في هذا المجال، لقد رأى الرازي أن الواجب يحتم على الطبيب ألا يترك هؤلاء المرضى، وأن عليه أن يسعى دوماً إلى بث روح الأمل في نفس المريض ويوهمه أبداً بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس، وقد أتى بأمثلة توضح أن الرازي قد أدرك أثر العامل النفسي في صحة المريض، وليس هذا فحسب بل وفي إحداث الأمراض العضوية، وبذلك يكون الرازي قد تنبه إلى ما يسمى في العصر الحديث بالأمراض النفسجسمية Psychomatic diseases وهي موضوع اهتمام أحدث فروع الطب.

قاموس طبي عربي

من خلال تحقيق هذه الموسوعة يمكن وضع قاموس للمصطلح الطبي العربي الإسلامي يخدم كل المشتغلين بتاريخ الطب ويفعّل حركة تعريب العلوم الطبية التي بدأت بوادرها في بعض الدول العربية والإسلامية. كما تفيد هذه الموسوعة في الدعوة إلى إنشاء هيئة طبية صيدلانية عربية تقوم باستخدام الأساليب المعملية الحديثة بإجراء التجارب على الوصفات العلاجية بالنباتات الطبيعية والأعشاب التي تحتويها موسوعة الحاوي، وتقديم ما يصلح منها للعلاج حاليًا في صورة صيدلانية حديثة، وذلك أسوة بالشوط الكبير الذي قطعته كثير من دول العالم في هذا الميدان، فأصبح مألوفًا أن نسمع ونرى الطب والعلاج الصيني، والطب والعلاج الهندي، والطب والعلاج البولندي، فضلاً عن أن ألمانيا تكاد تكون قد انتهت من تقرير المعالجة بالنباتات والأعشاب الطبيعية لأغلب الأمراض السائدة حاليًا.

كان الرازي هو أول من وصف مرض الجدري والحصبة، ووصف لهما العلاج المناسب، وأول من ابتكر خيوط الجراحة من أمعاء القطط، ومن أوتار العود، ويعد الرازي أول من اهتم بالجراحة كفرع من الطب قائم بذاته، ففي كتابه الأشم "الحاوي" وصف لعمليات جراحية تكاد لا تختلف عن وصف مثيلتها في العصر الحديث، وهو أيضاً أول من استخرج الماء من العيون، كما كشف طرقاً جديدة في العلاج، فهو أول من استعمل الأنابيب التي يمر فيها الصديد والقيح والإفرازات السامة، واستطاع أن يميز بين النزيف الشرياني والنزيف الوريدي، واستخدم طريقة التبخير في العلاج، والمعمول بها حتى الآن. وقد أسهم الرازي في مجال التشخيص بقواعد لها أهميتها حتى الآن، منها: المراقبة المستمرة للمريض، والاختبار العلاجي.

 

 

علي عفيفي غازي 




الرازي





ترجمة أوربية لموسوعة الرازي





من المخطوطة