الفنون الحديثة ومصادرها القديمة بين كاندنسكي - وبول كلي

الفنون الحديثة ومصادرها القديمة بين كاندنسكي - وبول كلي

إن تناول الفن الحديث والمعاصر يطول ويتشعب، وتكتنفه إشكاليات عدّة، يصعب الوقوف عند واحدة منها. فالحداثة بحد ذاتها يصعب حصرها في تعريف واحد ومحدد، وإن توجّت بعنوانها عطاءات الفن العشرين بالتجديد، وكذلك الفنون القديمة والبدائية، فهي بدورها، تتشعب وتتمدد لتصل إلى أيامنا الحالية (فن الأبروجان الأسترالي، والفن الإفريقي على سبيل المثال).

نهل الفنانون المحدثون من مصادر عدة، وهذا شيء يعترف به الفنانون أنفسهم، ويبقى علينا أن نلتقط هذه المصادر، وهنا تكمن قمة الإشكالية التي نحن بصدد تناولها ومقاربتها.

من أين نهل هؤلاء الفنانون؟ وكيف يمكننا اختصار التاريخ البشري بعمل فني متواصل جمعي ضمن سلسلة متراكمة من الأسماء والتجارب؟

لقد رسا اختيارنا على فنانين اثنين، بمنزلة محطتين يمكننا من خلالهما تلمّس بعض هذه العلامات التي وسمت فترة من فترات الفن الحديث، وكان لها تأثيرها الكبير على الفنانين المحدثين والمعاصرين، بعد أن تأثرت بدورها بمصادر منوعة، سنحاول التقاط بعض شذراتها من خلال هذا البحث.

أما الفنانان، موضوعا بحثنا، فهما كل من، الروسي فاسيلي كاندنسكي والسويسري بول كلي، اللذين يمكنهما، على ما نفترض، تزويدنا بمحصلة لابأس بها من أمثلة فنية وأعمال شواهد على ذلك.

ملامح الحداثة في الفن

بقيت الفنون التشكيلية باختلاف اتجاهاتها وأساليبها وفية لجمالية تقليدية، تعتمد المساحة المخططة الملوّنة كواقع أوحد، غير أن تحوّلات عميقة قد طرأت منذ عقود على معنى الفن «وبالتحديد القرن التاسع عشر» وأهدافه، فانتقل من «نتاج مادي» يقدمه الفنان إلى واقع أكثر تعقيداً، يمتزج فيه الوجود الملموس للشيء المنجز بالحركة المبدعة كسلوك، ويندرج ضمن علاقة بالبيئة يكون للفكرة فيه دور رئيس. وهكذا يترك الفن الإخبار عن الواقع البصري والسرد إلى طرح مفهومي جديد للعالم، متحولاً من تمثيل الأشياء إلى تقديمها برؤية حديثة ومعاصرة محورها الإنسان ككائن مفكر حرّ.

فيما مضى كان الرسام، أو الفنان، مستخدماً في وظائف عدة، فكان خادماً لرجال الدين، وخادماً للأمير، وللقاضي، وللقائد، وللمربّي، وللصحفي، وللقصاص.. وقد عبّر عن ذلك آلان باونيس بقوله: «دأب الرسامون والنحاتون حيناً طويلاً من الدهر على العمل لحساب حماتهم الممثلين بالملوك وأمراء الكنيسة والأرستقراطيين والتجار الأثرياء، ولم يبادروا إلى المطالبة بنوع من الحرية التي صارت حقاً مشروعاً للفنان المعاصر، فقد طالب الرسامون دوماً بالحرية التامة لعمل ما يشاءون».

يعلن الحداثي رفضه للأشكال الثابتة والسلطة الثقافية المستقرة للأكاديميات وذوقها البرجوازي، إن أواخر القرن التاسع عشر كانت هي الفترة التي شهدت أعظم التغييرات التي عرفها الإنسان في وسائط الإنتاج الثقافي: فالتصوير الفوتوغرافي والسينما والراديو والتلفزيون والنسخ والتسجيل، كلها كانت تتقدم حثيثاً خلال تلك الفترة التي عُرفت بأنها «حديثة» وكاستجابة لها نشأت كما يمكن أن يبدو للوهلة الأولى تجمعات ثقافية دفاعية، أصبحت بسرعة - ولكن على نحو جزئي - ذاتية التطور، وكان عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر هو لحظة الميلاد لتلك الحركات، كما يؤكد الكثير من دارسي الفن ونقاده ومحلليه ومؤرخيه.

كان جوجان يرى الخلاص في رفض «قبح وخداع الحضارة الحديثة» وإغناء النفس بالرجوع إلى «براءة وسذاجة» الحياة الوحشية البدائية حيث عليه «أن يحتفظ في ذهنه دوماً بالفرس والكمبوديين وبقليل من المصريين».

وفي بداية القرن العشرين أصبح هذا الموقف سمة مميزة للكثير من الطلائع الفنية - ظاهرة واسعة عبّر عنها «كاكتشاف وتذوّق الفن الإفريقي والأوقيانوسي وفقاً لأسس أستيتيكية». وعندما حلت سنة 1906م كانت هذه الظاهرة تشمل مجموعة من أبرز الأسماء التي ارتبطت بتطور الحركة الحديثة: فلامنك، ديرين، ماتيس، وبيكاسو، براك، إلخ.. وقد حوّل أبوللينير هذا الانعطاف إلى مبدأ فني أساسي: «إن الأساليب الفنية المختلفة»، كما قال «بما في ذلك المصرية والإغريقية والكمبودية والبيروقية والتماثيل الإفريقية.. يمكن أن تكون كلها مصدراً لاهتمام الفنان ومساعداً على تطوير شخصيته».

لقد صرّح خوان ميرو بأن «الجناح السومري» في معرض اللوفر هو «جناحه»، وبأنه كان «يحضر في الماضي إلى اللوفر لرؤية هذا.. «مشيراً إلى الجناح السومري».

أما رمسيس يونان فيقول: إن بعض الرسامين الأوربيين في القرن التاسع عشر قد تأثروا «بالفن الياباني، فمالوا بفنهم إلى ناحية زخرفية، وشاعت في أعمالهم الرقة والطلاوة..».

وقد كان للفن الياباني التأثير الكبير لاسيما في أعمال فان جوخ وجوجان وموريس ديني.

ولعب الدين أيضاً دوره البارز في الاتجاهات الفنية الحديثة، كا بدا في أعمال الأنبياء، وفي عنوان مدرستهم أو تيارهم الفني، وكذلك الأمر في تيار أو مدرسة «الفن الجديد» التي استلهمت الشرق بروحيته وزخارفه وبنائه العملي ورؤيته الفنية، وكما تبيّنه أعمال بونار وفويار ورفاقهما.

لقد ملّ الفنان الأوربي من فن يخضع للقاعدة والقياس، فرأى في الفنون العريقة والتقاليد الأصيلة طريقاً للتعبير عن موقف فني بريء يتصل مباشرة بعالم الفنان المجرّد وبصيغ تحمل أفكاراً جديدة.

فاسيلي كاندنسكي 1866 - 1944

تبدأ الحكاية مع كاندنسكي Wassily Kandinsky ولا تنتهي. هو فنان من أصل روسي. مكث في ميونيخ ألمانيا عام 1897م، وبفضله تحوّلت هذه المدينة إلى واحة من المراكز الأوربية الأكثر حياة، والمنفتحة على التبادلات العالمية، اشترك في الأبحاث الفرنسية حول الوحشية كتابة وتصويراً ورسماً.

عام 1908م، كان الكشف الأوّلي له عمّا يسمى التصوير اللاتمثيلي، أول عمل تجريدي له يعود إلى عام 1910م (تلوين ورسم مائي) بدا كأنه حصيلة انفجار بقع وعلامات وخطوط مخربشة بشكل عصبي. تغلب على أعماله الصبغة الغنائية والشعرية، شعاره «الضرورة الداخلية» المأخوذة من عالمه الداخلي، قدّم أبحاثاً نظرية ستكون ذات فائدة كبيرة للفنانين المعاصرين ككتاب «الروحانية في الفن..»، وكتاب «نقطة، خط، مسطح» وكتاب «نظرة نحو الماضي».

فنان مثقف، يحمل دكتوراه في القانون، ساعده هذا الشيء على أن يمتلك منهجاً فريداً في التفكير والتنظير، تعددت مصادره الفنية من شرقية وعربية إسلامية وأرثوذكسية روسية.

كان أستاذا في «الباوهاوس» «بيت البناء» الذي أسسه المهندس «جروبيوس» في مدينة «فيمار» في ألمانيا، بل من أبرز أساتذة هذا الصرح الفني الذي غيّر وجه الفن في القرن العشرين.

كان عضواً في جماعة الفارس الأزرق والجسر، مرّ عمله بأساليب عدة ومنها التجريدية الهندسية التي عمل فيها على اللون والشكل وصولاً إلى مرحلة المخلوقات الغريبة.

لو مررنا على أعمال هذا الفنان في بداياته حتى نهاياته، لرأينا محطات منوّعة وتأثيرات مختلفة. ففي عمله «الحياة بالألوان» عام 1907م نرى زخرفة واستشراقاً لونياً غلب عليه دفء الشرق ورونقه، حتى لباس الأشخاص أتت شرقية الطابع من خلال النساء المحجبات والرجال المعتمرين قبعات كان يضعها العرب المسلمون. وكذلك الأمر مع عمله «نهار الأحد» عام 1904م، وعمله الحفر على الخشب المعنون «المغنية» الذي يظهر فيها تأثير الفن الجديد، الذي عرفته أوربا مع عدد من الفنانين، وعلى رأسهم كليمت وموشا. وهناك عمله المحفور على الخشب بعنوان «عصفوران» عام 1907م، ظهرت فيه خطية استلهمت روحية وحركة الخط العربي والزخرفة العربية، وكذلك الأمر في ملصقاته لمعارضه، لاسيما ملصق معرضه الأول عام 1901م، لنصل إلى أعماله في المرحلة الثانية «بداية التجريدية» التي غلبت عليها اللونية الزخرفية كمهرجان لوني وشكلي، حيث احتلت هذه الألوان المضيئة، والأشكال كل مساحات اللوحة، كما كان يفعل الفنان المسلم بتعبئة الفراغ، كأن نذكر - على سبيل المثال - عمله «دراسة للتأليف2»، «وتصوير على الزجاج» عام 1910م، الذي يشبه إلى حد كبير عمل «خيول مصابة بالنبال» في مغارة لاسكو. هذه النبال التي نراها أيضاً في عمل كاندنسكي أسفل الحصان الذي جاء شبيها بحركة حصان الفنان البدائي بحركته وجموحه واتجاه خطوطه وشكله! وكذلك الأمر في أغلب أعماله التي تمثل صراع السان جورج مع التنين. حتى إذا وصلنا إلى مرحلة ما قبل الأخيرة، ونعني بذلك التجريدية الهندسية التي غلب عليها الطابع الديني كصراع سان جورج مع التنين، أي صراع الخير ضد الشر. ونشير هنا إلى خلفية كاندنسكي الدينية الأرثوذكسية الشرقية، التي لعبت دوراً في هذا الإطار والتوجّه. يعبّر آلان باونيس عن ذلك بقوله: «ولكونه مسيحياً روسياً أرثوذوكسيا ذا قناعة دينية راسخة وآمن كاندنسكي، مثل العديد من أبناء جيله، بالحاجة إلى انبعاث روحي في الغرب الذي سيطرت عليه النزعة المادية. وذهب أبعد من ذلك، كما الحال مع موندريان وبرانكوزي، في اعتقاده بأن في الإمكان تحقيق ذلك بدراسة تعاليم الأديان الشرقية القديمة التي تقبلت التمازج المادي الروحي». أما جوزيف أميل مولر فيقول عن ألوان كاندنسكي بأنها «كثيرة التنوع، فهي ألوان خفيفة، لطيفة، باسمة، أو هي على العكس ألوان غنية، فخمة، كثيراً ما اكتسبت هذه الألوان عظمة تستحق أن تنعت بشرقية. لا ينكر أن التلوين يبدو أحياناً مبرقشاً مجرد زخرفي وأن بعض التآلفات بالنسبة للغربيين ذات طابع غريب، بل بربري. مع ذلك فإنه ليجدر بنا أن نتساءل عما إذا كان هذا الانطباع ناجماً عن أن تصوير كاندنسكي يعبر عن ضرب من الشعور يكاد يكون غريباً لأنه إحساس فنان من العرق السلافي نشأ في بيئة متأثرة بإشعاع الفن البيزنطي».

روحية الخط العربي

وإذا ما غصنا أكثر في تحليل أعماله لرأينا روحية الخط العربي في بعض أعماله عبر حركة خطوطها وانسيابها واتجاهاتها، تماماً كما فعل صديقه بول كلي بشكل أكثر وضوحاً وصراحة.

نذكر بعض أعمال هذه المرحلة كـ«أصفر - أحمر - أزرق» عام 1925 و«رفوف» عام 1929، الذي يمكننا أن نقرأ فيه روحية بعض الكتابة بالأحرف العربية. أما عمله «المتقلب» عام 1930م فيقترب من بعض أعمال كلي التي غلبت عليها الروح البدائية الطفولية، وكذلك الأمر مع عمله «صعود لين» عام 1934م. وهناك المرحلة الأخيرة المسماة «Biomorphe» الغنية برموزها وبأشكالها التي تشبه الطفيليات، والتي يمكننا أن نجدها في أعمال الإنسان البدائي والإفريقي خاصة الذي يستعملها في مختلف أعماله الحياتية والطقوسية، يظهر ذلك، على سبيل المثال، في عمل كاندنسكي «سماء زرقاء» أو «أزرق سماوي» عام 1940م، وعمله «بدون عنوان» عام 1941م.

نهل كاندنسكي، كغيره من فناني الغرب، من مصادر عدة لتغذية عمله: نهل من الشرق العربي والآسيوي، ومن الحضارات القديمة والبدائية، لقد قدم الباحث المستشرق جي.جي.كلارك دراسة بارونامية لعملية التفاعل والتأثير الثقافي المتبادل بين فكر الغرب وبين فلسفات وديانات وأفكار الشرق الأقصى. وتحدث عن تأثير المطبوعات اليابانية على الفن التشكيلي في الغرب حين قال: «... ولحظنا أيضاً التحديث الذي واجهته التقاليد الفنية نتيجة دخول المطبوعات اليابانية المصوّرة في القرن التاسع عشر، والتي لم تؤثر فقط في الفنون الزخرفية، بل أثرت كذلك على حركات فنية من مثل الانطباعية والآرت نوفو أو الفن الجديد. ووصف المؤرخ جون ماكينزي هذا التأثير بقوله إنه بمنزلة «قطيعة مع التراث، وأداة للتحول إلى الراديكالية»، ليصل إلى القول: «يعتبر تأثير الشرق على ميلاد الحركة الحديثة في الرسم موازياً من حيث النطاق والأهمية على الرغم من تحفظ النقاد والمؤرخين إزاءها. ونجد من أهم شخصيات هذه التحوّلات العميقة في الفنون البصرية كلا من كاندنسكي وموندريان.. غير أن هذين الرسامين اكتشفا في الشرق ما أوحى إليهما بطراز للتعبير منفصل تماماً عن الأهداف التي ارتبطت عندهما بالفن التمثيلي الغربي التقليدي». ليتابع قوله: «وإدراكاً أن النزعة التجريدية ليست مجرد أسلوب ثوري جديد في الرسم، بل إنها نشأت أصلا من رؤية لعصر جديد من الروحانية الراسخة. إنها وسيلة للنفاذ وصولاً إلى مستوى من الحقيقة الواقعة التي تتجاوز الظاهر المادي والحسي السطحي للأشياء». هكذا يراها هذا الكاتب، وهكذا تعامل معها الفنان الغربي.

لقد هضم كاندنسكي الحضارات المختلفة، وعرف، كغيره من الفنانين، كيف يمكنه أن يتعامل بذكاء مع تلك الحضارات لإنتاج أعمال جديدة تعبّر عن روح العصر بعد التغيّرات الهائلة التي عصفت بالغرب نتيجة الفتوحات الكثيرة وغزوة نابليون إلى الشرق، وظهور المطبوعات ووسائل الاتصال ووفرة المصادر والاطلاع على ثقافات وأعمال الشعوب عبر العصور المختلفة، فجاءت أعماله تمثيلاً صادقاً للحداثة الغربية التي تجسّدت في أعمال الطليعيين الذين يأتي على رأسهم كاندنسكي، الذي مزج الفلسفة والشعر والأدب والروحانية والرمزية والموسيقى والدين والنبوّة والإنسان الفريد الأمثل، فأنتج أعمالاً فريدة وكتباً لم تزل مرجعاً للفن والفنانين، يأتي على رأسها كتابه «الروحانية في الفن..» الذي يشكّل عنوانه خير دليل على توجّهه واقتباساته ما وراء البحار والأزمنة.

بول كلي 1879 - 1940

هو فنان سويسري، ولد عام 1879م في مونسن بوشزي قرب برنفي سويسرا، بعد دراسته الثانوية سافر إلى ميونيخ في ألمانيا حيث اشتغل في أكاديمية التصوير خلال سنوات ثلاث، ثم سافر إلى إيطاليا وفرنسا.

التقى كاندنسكي ومارك وماكه وآرب، واشترك في معرض جماعة الفارس الأزرق، ثم عيّن أستاذاً في الباو هاوس في فيمار وفي ديسو. سافر إلى تونس عام 1914م، ثم سافر إلى صقلية وكورسيكا ومصر. درّس في أكاديمية دوسولفورف، ثم منع من قبل النازيين عام 1933م من متابعة التدريس «كما حصل مع كاندنسكي»، فعاد إلى سويسرا، توفي عام 1940م.

يذكر عفيف البهنسي بأن كلي Paul Klee، كما كاندنسكي، تجريدي لا تمثيلي، فهو يتمسك بأسلوب فردي تتفاعل فيه تأثيرات عدة وخاصة الفن العربي، طالع كلي كتب الشاعر جوته وخاصة كتابه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» الذي حفل بصور الصوفية الإسلامية والمفهوم التوحيدي لله.

كانت غزوة نابليون إلى مصر بداية للفتوحات الغربية وللاستشراق ولغزوات ثقافية لمفكري وأدباء وفناني الغرب. وقد زار كلي تونس والمغرب العربي، وكانت تلك الزيارة بمنزلة حلم تحقق للتعرّف على الحضارة الإسلامية عن كثب، وللتعرّف على الضوء في بلاد الشمس التي انعكست في أعماله حينها، وبدأت تأخذ حيزا واتجاها مختلفاً عن سابقاتها، حين وصوله إلى تونس قال كلمته الشهيرة: «الآن بدأت الأشياء تراني». وعندما وصل إلى الشاطئ التونسي قال: «.. هناك قابلتنا الشمس الساطعة ذات القوة العاتمة، وكان الجو الصافي الألوان يثير في النفس أجمل الوعود». ولقد تسنى له حضور أحد الأعراس العربية التي رأى فيها ألف ليلة وليلة. «إن الحياة كانت بالنسبة لكلي بعد زيارته الدول العربية كانت أشبه بالقصص الخرافية»، وقد تعرّف هناك على الخط العربي وجماله وروحه، فانعكس ذلك في أعماله العديدة. يقول جوزيف أميل مولر في ذلك: «ففي بعض لوحاته نرى أن الخط هو المسيطر. بيد أنه خط ناعم، سريع، معبّر، في حسن، إن هذا الخط يصبح بطيء التحرّك، قصير الخطا، في لوحاته الأخرى، فيترك على اللوحة أثراً يبدو مترددا.. وهو، بعد هذا، خط يبدو من جهة أولى شبيها بخط الكتابة، مسرعاً أو متأنياً.. أما الألوان نفسها، فهي، في العادة، ذات طابع وديع، تتدرج برقة ونعومة..إلخ». وإن لم يعترف جوزيف أميل مولر، كغيره من الباحثين الغربيين باستثناء بابادوبولو، بصراحة تأثر الفنان بالخط العربي. إلا أن الأمر يبدو واضحاً وضوح الشمس العربية التي رسمت أعماله وألوانه.

وحدة الوجود

حاول بول كلي الاستفادة من الخط العربي الجميل في كثير من لوحاته، وكان هذا الخط يشابه أحياناً صفحة من مخطوط، أو صفحة من قرآن أو هيروغليف، أو هو مجرد حرف أو كلمة عربية أخذت مظهر صيغة مجردة، على حد تعبير عفيف البهنسي. وبدا الخط أحياناً واضحاً ولكن باللغة الألمانية وبأحرف لاتينية. كان يبحث كلي عما يقرّب الفنان من الله والأبدية وذلك عبر الطابع الصوفي. هذه الصوفية التي تجلّت في أعمال عدد لا بأس به من الفنانين الأجانب الذين زاروا الشرق العربي واطلعوا عن كثب على الصوفية الشرقية كالفنان موندريان الذي تأثر كثيراً بالثيوصوفية، والفنان مارك توبي الذي مكث فترة لابأس بها في الزن الياباني.. وغيرهم. يقول كلي: «إنني أبحث عن نقطة بعيدة في أصل الخليقة. إنها نقطة قريبة من الله حيث أبحث عن مكان لي».

وقد استوحى كلي أيضاً السجاد العربي، فظهر هذا في أعماله، كأن نذكر عمله «ورقة من تسجيلات البلدة» عام 1929م. وكذلك مبدأ تكرار العناصر كما في الزخرفة العربية كعمله «عالم هاربور» عام 1936م.. إلخ.

لقد اقتنع كلي بمفهوم وحدة الوجود، فقام بتحوير أشكاله وتفريغها من خصوصيتها لكي تعبّر عن الجوهر المشترك فيها. فأصبحت كل عناصر ومخلوقات اللوحة نسيجاً رمزياً متضامناً. لذلك وصف هربرت ريد عمله بـ«الفن الميتافيزيقي».

ذكر نعيم عطية أن كلي كان يعشق الموسيقى وعلى الأخص ألحان باخ. كما كان عازفاً بارعاً على الكمان وكثيراً ما نرى تأثير الموسيقى على ألوانه وخطوطه وتكويناته، تماماً كما فعل زميله كاندنسكي. «وقد اهتم أيضاً بالأساطير والحضارات القديمة، وزار الشرق، وجاء إلى تونس ومصر».

لو توقفنا عند بعض أعماله لرأينا تأثره بالفنون البدائية من خلال الاختزال في الخطوط والأشكال والحركة كما في عمله «ماكينة» عام 1922م.

وهكذا شكّلت الفنون البدائية والقديمة كـ«الآسيوية والعربية الإسلامية والإفريقية وغيرها» مصدراً غنياً لفنون الغرب الحديثة بعد أزمة الشح الفني في القرن التاسع عشر قبل بزوغ الانطباعية والتيارات الأخرى، التي لم تكن سوى نتيجة للعلم وانفتاح الغرب على الحضارات الأخرى بعد غزوة بونابرت لمصر، وما استتبعه من حركة استشراقية حملت الفنانين على الحج إلى موطن الشمس والنور والضوء والروح والأبدية واللاتناهي، ونتيجة للقلق والمعاناة التي وسمت القرن العشرين، والتي حدت بالفنانين إلى التفتيش عن مخارج نفسية وروحية وفنية أوجدت ذاتها في الفنون البدائية والقديمة كما رأينا مع الفنانين الذين تناولناهم في هذا البحث، ويأتي على رأسهم فاسيلي كاندنسكي وبول كلي كشاهدين على هذا التوجه الذي ظهر في أعمالهما.

 

 

سوزان شكرون





كاندنسكي، الحياة بالألوان، 1907، 162.5 × 130 سم





من أعمال الفنان بول كلي