الخريف في صلالة محمد المنسي قنديل تصوير: سليمان حيدر

الخريف في صلالة

جبل وبحر في حوار لا ينتهي. صخب الموج وصمت الصخور ولمسة من الضباب الشفيف وقبضة من طين، وشعاع تائه. بذور الخلق الأولى. يرتفع صوت المؤذن من مسجد "صلالة" فيتنفس الصبح وتفرد النوارس أجنحتها بحثا عن وجبة لا تنتهي من أسماك السردين، ويقشعر الموج تحت شبكة صياد عجوز. تغسل جبال "ظفار" أحجارها تحت أمطار الخريف الاستوائية وتزهو أوراق الشجر في نضارة قصيرة العمر ما تلبث أن تأتي عليها شمس السطوع فتتساقط ، ورقة لوعود البحر الغامضة، وورقة لرهبة الجبال، وورقة لنفوس البشر الذين عمروا هذه الأرض صيادين ورعاة، وورقة لكل أغنيات العشق القديمة. ولا تكف أوراق الخريف في صلالة عن التساقط.

قال لي مرافقي "نجيب" الشاب الهادئ الذي تبدو عليه مسحة من الشاعرية:

- إنها فرصتنا الوحيدة حتى نتأمل شجرة.

كنا نصعد فوف طريق جبلي وعر. وخيل لي أن الأمر لا يستحق كل هذا العناء، وكنت أعرف أيضا كيف تكون الأشجار في الخريف ذابلة وواهنة. تبـدو فروعها من الخارج مثل حروف الموت الغامضة. ولكـن لأشجار "صلالة" سرها الخاص. كانـت الألوان تتـداخل في فوضى أشبه "بالبالتة" التي يضع عليها الفنان ألوانه.

الأغصان المنخفضة منها تشـع باللون الأخضر وتتوهج الأغصان التي في الوسط بالألـوان الصفراء المتـداخلة، مـع البرتقـالي، وتحترق الأغصان العليا بالأوراق البنية الداكنة.. وخلف كل هذا تبدو البراعم الصغيرة التي فات أوان تفتحهـا أو لم تستطع لمسات الخريف الاقتراب منها.

أغنية للأشجار

صمت نجيب وجلس السائق على مبعدة، واقتربت من الشجرة أكثر أود لو أغوص فيها.

تأملت الأغصان العارية في قمة الشجرة وهي مرفـوعة كأنها مخالب. والأوراق التي تساقطت منها راقدة حول الجذع مثل سجادة خشنة. كانت الشجرة قد جمعت في غصونها كل فصـول السنة الأربعة، الربيع والصيف في تلـك البراعم والأوراق الزاهية الخضرة، والخريف والشتاء في الأوراق الصفـراء والغصون العارية، كيف يمكن أن تفوت علىّ مراقبة الشجرة كل هذه السنوات، وكيـف لم أفطن إلى أنها تختصر كـل عناصر الوقت وملامح الكون؟.

هذا هو من سحر الخريـف في صلالة. بعد شهور ثلاثة من زخـات المطر الهادئة، والضباب النائم على الجبال، تفتح الأرض أرحامها كي تخرج هذه الألوان وتكتسي الجبال والتـلال بثوب أخضر زاه يبدو غـريبا وشـاذا وسـط جبال الجزيرة العربيـة القاحلة، ولا تكتفي جبال صلالة بذلك ولكنها تفتح للإنسان عيونها السرية وتخرج الماء مـن حنـايا صخـورها وتنساب في "أفلاج" متواصلة كي توفر الري له ولزراعاته وحيواناته.

كنا في وادي دربـات، واحد مـن أجمل وديان عُمان، وسط الزهور والفراشات النادرة.

رحالة بريطانية أقامـت طويلا في هذا الوادي وألفت كتابا عن "فراشات صلالة" جمعت فيه صورا نادرة عن هذه الفراشات البالغة الجمال. الوادي ليس خاليا. تتناثر فيه خيام قليلة للرعيان، خيام هي أيضا مكونة من ألوان مختلفة كأنها تحاول التداخل مع ألوان الطبيعة. منذ سنوات قليلة كانت أراضي هذا الوادي تزرع على أيدي الفلاحين، ولكـن مـع انتشار الحياة المدنية، وارتفاع الرواتب التي تدفعها الحكومة هجر الفلاحون الوادي وتركوه للأعشاب البرية ولقطعان الجمال التي تسير فيه في استرخاء.

الجمل هو أقدم صديق للإنسان العربي. ومازال يحافظ على صداقته للإنسان العُماني.

وطوال سيرنا كنا نشاهد العشرات منها وهي تجلس مسترخية تحت الشمس حتى تترك الفرصة لطيور الوادي كي تهبط على رءوسها وتلتقط ما فيها من حشرات.. أو تبحث عن بحيرة تشرب منها وتتمرغ في استمتاع بالـغ في الطين المجاور لها وهي طريقة أخرى تتخلـص بها الجمال من الحشرات التـي تضايقها في جسمها.

ولا تكتفي قطعان الجمال بأعماق الوديان، ولكـن يحلـو لها أحيانـا أن تصعد للطرق السريعة ولحظتها تتوقف السيارات وتترك الفرصة لأصحاب الأرض الأصليين حتى يمارسوا نزهتهم. لمسة التطـور شملت عملية الرعي أيضا، لم يعد الراعي يسير خلف الإبل المسافات الطويلة المرهقة ممسكا بالعصا والسكين ولكن بعضهم أصبح يركـب السيارات نصف النقل ويسيرون بها الهوينى خلف الجـمال.. ويسبقها أحيانـا حين يجد أحدها يوشك على الشرود ليعيده إلى القطيع. ترى ماذا كـان يفعل عروة بن الورد إذا حاول الإغارة على هذه الإبل وطارده الرعاة بسياراتهم؟.

وسط الوادي أصابني إحساس آخر بالـدهشة. وفي المرة الأولى استولى علي مشهد الشجـرة، وهذه المرة استولت علي حواس أصوات الطيور، كان هناك صمـت مطبق لـدرجة الجلال. فيـه شيء من رهبة الصخور وتباعد السحب والطيور وحدها تعزف أنشودتها الحرف خلاصا للروح وانعتاقا من الجسد الضيق.

همس لي المرافق أن الكثير من الأجانب يأتون إلى هذا المكان ويجلسون دون حراك الساعات الطويلة. وعندما رآني أجلس بلا حراك صمت، كانت الجـمال موجودة في كل مكان، وكـذا الأشجار وينابيع المياه، ولكن لم يكن هناك مثل هذا الصمت الممنوح لشدو الطيور.

والأصوات الصافية تأخـذ بمجامع القلـب وتزرع فيه بهجة حزينة. حرية واهنة في المدن يتحول الضجيج المتواصل إلى صمـت وقضبان تحاصرك. تأخذ جزءا غاليا من سلامك الداخلي، لو أن هذا الصمت الغني بشدو الطيـور يدوم قليلا..! كان دائما بالفعل ولكـن كان علينا نحن أن نتحرك إلى مكان آخر..

وللطرق الوعرة..

"مبارك" سائق السيارة الأسمر يحكـي بعضا مـن تفاصيل حياته. الحكـاية مـؤثرة وهـو يحكيها بنفس التدفق العاطفي للإنسان العربي ولكن السيارة تنحدر بنا إلى طرق وعرة إلى حـد الخوف. كـان على جانب الطريق جرف هائل مستعد لابتلاعنا.

ولكنه كان سائقا بارعا ولا بد أنه واحد من أحفاد حداة القوافل القدامى الذين كـانوا يعبرون هذه الطرق. لقد استأنس أهل عُمان الجبال منذ زمـن طويل وفي صلالـة ترتفـع الجبـال إلى مدى بعيد وصولا إلى حدود السلطنة مع اليمن. لقد كانت هذه المنطقة مشتعلة بعوامل التمرد والفتنة منـذ سنوات قليلة وظلت هذه الجبال وطرقها المتشعبة في حـالة بدائية معـزولة عن العالم ولكـن مع عودة الهدوء والسلام استطاعـت الـدولـة أن تمد أصابعها دون خشيـة الاحتراق وأن تنشئ طريق صلالة الغـربي الذي يعتبر واحـدا من أهـم وأعقد الطرق الجبلية. فهو طريق ممتد يتلوى كـالثعبان وسط الصخـور الجيرية صعـودا إلى القمة. استغـرق إنشاؤه خمس سنوات كـاملة وبـدت فيه أهميـة الاستقرار وكيـف يؤدي إلى زيـادة رخـاء النـاس والتخفيـف عـن معاناتهم. وإنشاء الطرق يحظى بأهمية كبيرة في عمان فقد بلغـت الاستثمارات الحكومية فيه 10,4% من ميزانيتها وفي مقـابـل 8 كيلـومترات مـن الطرق المسفلتة كانت موجودة قبل عام 1970 أصبح هناك الآن حـوالي 4722 كيلو مترا مربعا من الطرق المسفلتة بشكل ممتاز.

وللأنبياء الغامضين

وتقودنا "صلالة" إلى مزاراتها الدينيـة وحكاياتها الغامضة. بعض هذه المزارات يوجد في وسط المدينة، والبعض الآخر فـوق قمم الجبال. ففي وسط المدينة توجد آثار ناقة النبي صالـح، صخرة صلدة كـانت تكوّن سقفا لإحدى المغارات ولكنها اندكت عندما سارت عليها الناقة. الآثار مازالت واضحة ومحفورة في الصخر، الخف الغائر والأصابع المفلطحـة، خف وراء آخر، كأن الناقة ترتجف وهي تحمل على ظهرها النبي الغريب الذي عجز عن هداية قومه، تبحث له عن أرض أخـرى قبـل أن تقـع في الشراك ويتـم اغتيالها.

هل كانت هذه هي آثار الناقة فعلا؟ وكيف جاء نبي الله صالح إلى هنا؟ ربما لأن الصحراء مفتوحة والبأس يلقي حتى بالأنبياء إلى حافة البحر واليابسة.

ولكن رحلات الأنبياء الغامضـة إلى صلالـة لا تتوقف. هناك ضريح آخر لنبي آخر يثير أكثر من لغز إنه قـبر النبي عمران التـوراتي الشهير، وليس الغريب فقط أنه ترك أرضه في فلسطين وعبر الصحراء ليدفن في "صلالة" ولكن الغريـب حقا هو ذلك الضريح المفرط في الطول إذ يبلغ أكثر من ثلاثين مترا بالتمام والكمال ممتـدا ومغطى بـالرخـام والأبسطة الملونة والزهور النضرة وتتصاعد من حوله روائح البخور واللبان.

كان الزوار يجلسون في المكـان الضيق على امتـداد الضريـح الطويل، يرددون آيات القرآن في خشوع ودون مبالاة بأسئلتي الساذجة.

ويبعد قبر النبي أيـوب عن صلالة، فهو يرقد فوق قمة جبـل "أتين" العالي. هـذا النبي الذي صبر كـما لم يصبر أحد من قبل، ولا أدري كيف قاده صبره إلى هذا المكان، اهتمام الدولة يبدو واضحا بإعداد الضريح مثل غيره من الأضرحة، فهو ملحـق به مسجد أبيض واستراحة تبدو متألقة فـوق قمة الجبل. وضريح النبي نفسه يبدو معقولا. فهو لا يتجاوز الأمتار الأربعة وهو بذلك يبدو قصيرا في مقابل النبي عمران. وهو كثير الزوار أيضا يأتي إليه المتزوجون حديثا لعله يمنحهم شيئا من الصبر على الحياة الزوجية الشاقة المقبلة. ويأتي إليه الأطفال الصغار تحملهم أمهاتهم كـي يمسح حارس الضريح على رءوسهم بالعطر.

هل وجد هؤلاء الأنبياء حقا في هذه الأماكن؟ لا أحد يثير هذا السؤال، ولكنه يشير إلى جزء من الإحساس الديني العميق الذي يكتنف الإنسان العماني. فهو إنسان قدري استطاع أن يتعايش مـع أهواء الطبيعة وتقلبات البحر وكـان دخـوله إلى الإسلام سمحا وسهلا ودون قتال. وظلت تلك المسحة الدينية تلازمه حتى الآن فهو شعب محافظ ولكنه ليس متزمتا بأي حال من الأحوال.

البحر والجبل

قال الصياد العجوز وهو يشير إلى السفن الخشبية الراقدة في ميناء مرباط:

- هذه "اللانجات" تشبه تماما تلك اللانجات التي ترحل من فيلكا.

نطقت ملامح العجوز للحظة بالسعادة وهو يتذكر الأيام التي قضاها في جزيرة الخلود الكويتية.

قلت له: إن اللانجات لم تعد ترحـل وإن الجزيرة ما زالت تعاني من جراح الحرب والخوف من الألغام المدفونة.

وعلى الفور تبددت ملامح السعادة من على وجهه وجلس على الأرض وهو يضرب كفا بكف:

- حرام والله فيلكا تنهجر

كانت بقية السفن على وشك الإبحار، والصياد يجلس على الشاطىء متأسيا، ومرباط التي تبتعد عن صلالة بحوالي ثمانين كيلومترا تستعد لموسـم صيد السردين. كان الصيادون الذين يعشقون كـل جزر الخليج يحسون بالافتقاد لضياع أحـد اللآلىء وبدا كأن الصياد العجوز غير راغب في الرحيل.

مدينة مرباط بقلعتها القديمة ومدافعها الثلاثة تطل على الخليج. تتطلـع إلى العشرات من قوارب الصيد وتتابـع أيضا ذلك الجدل العُماني الشهير بين الجبل والبحر. جدل يمتد من تضاريس الجغرافيا إلى لحظات التاريخ. ففي مرباط مثل صلالة وغيرها من المدن تتراجع الجبال قليلا إلى الوراء كي تتيح الفرصة للناس حتى يبنوا بيوتهم ويقيموا أودهم وترحـل القوارب مع هدأة الموج وتتألق الأسماك الفضية تحت الشمس، كـانت هـذه لحظات الخريف الأخيرة وأسماك السردين بدأت في التدفق عبر الشباك. وعلى طول الطريق المؤدي إلى مـرباط كنا نشهـد مساحات من هذه الأسماك منشورة فوق الرمال حتى تجف وبعـد ذلك تجمع لتقدم علفا للحيوانـات بل ويتحول إلى سماد للزرع أيضا. إن السردين مؤشر على بداية فصل جديد هو "الصرب" الذي تتكـاثر فيـه الفراشات وتدر الأبقار لبنا غزيرا ويبلغ النحل ذروة إنتاجـه فتمتلىء المناحـل بالعسـل وتفقم النراجيل بماء جوز الهند الذي يقول عنه المثل إن من يشرب منه مرة يعود إلى صلالة مرة، ومرة.

ويستمر الجدل بين البحر والجبال عندما تنفذ المياه إلى أعماق الوديـان. في خور "روري" يتـوغل البحـر بين الصخـور، وتمتزج المياه المالحة بمياه الأمطار المنحدرة من أعلى الجبال دون أن تكـون هناك حدود فاصلة. وتبقى طوال العام بحيرات من الماء نصف العذب نصف المالـح تشرب منه الحيوانات التي ترعى في المنطقـة. لقد كـان هذا الخور واحـدا من الموانىء المهمة لتصدير "اللبان" شجرة عمان الفريدة، إلى الهنـد وشواطىء إفريقيا، وعندما كـانت تثور العواصـف في الخليج كانت السفن تلجأ لهذا الخور بحثا عن مكان آمن لها.

وفي منطقة المغيسل يحتـدم الجدل بينهما. ويشهد الخريـف كـل عام الارتطامـات العنيفة بـين الموج وحـواف الجبل التي لا تكـف عـن التحور مـع هذه الهجمات التي لا تهدأ. ويدخـل الماء في مغارات خفية تحت الصخـور ثم ينـدفع هادرا من بين الفتحات في شكل نافورات عالية نحو السماء ..

بحارة عُمان.. الحقيقة والأسطورة

تاريخ عُمان كله هو نوع من الجدل الدائم بـين الجبل والماء. في جوهر هذا التاريخ يكمن سر الإنسان العُماني الذي هبط من فوق وعورة الجبال ليركـب وعورة الأمواج، ويصنع تاريخا وعرا ما زالت سطوره محفورة حتى الآن.

الخطوة الأولى للحضارة بدأت مـن هذا المكـان. كانـت هذه المنطقة هي البوابة التي عبر منها الإنسان الأول في طريق الهجرات الأولى من وسط إفـريقيا إلى آسيا. في تلك الحقـب البعيدة كـان المناخ في الجزيرة العربية معتدلا كثير المطر وبذلك كـانت تمثل منطقة جذب للرحيل والإقـامة . ومازالت هناك الكثير من الحفائر التي تكتشف كل يوم والتي تدل على وجود إنسان ما قبل التاريخ، وأن تاريخ هذه المنطقة النائية لم يكن أبدا نائيا عن التاريخ البشري.

أطلق عليها السومريون اسـم قجان وهو جذر الاسم الذي تحول إلى عُمان فيما بعد. وكان يعني اسم خام النحاس الـذي تخصصت هذه المنطقة في إنتاجه وصنعت منه سـلاح الحضارات القديمة. وما زالت آثار هذه المناجـم موجـودة بل وما زالت المراجل تنفث نارها في مناجم "سحار" حتى الآن وبسبب هذا الخام الثمين تعـرضت البلاد لموجات من غزو الفرس الأكاديين والساسانيين وفي هذه الفترة شقت قنوات الري المعروفة بـاسم "الأفلاج" التي مازال الفلاح العُماني ستعملها في الزراعة حتى الآن

جاء العرب مع بداية تاريخهم أي بعد انهيار سد مأرب، واستوطنـت قبائل الأزد شاطىء الخليج وأقـاموا أول مملكـة عربيـة عرفها التاريـخ وأصبحـوا ملـوكـا للجبـال والصحاري، وظلت هذه المملكـة مزدهرة حتى قيام الإسـلام عندما أرسـل إليهـم النبي عليـه السلام رسوليه عمرو بـن العاص وأبـا زيد الأنصاري فدخلوا في الإسلام. ومنذ ذلـك الحين انضـم إلى الجسـد الإسلامي عضو نشـط شارك جنوده في الفتوحات وعلماؤه في نشر الدعوة وقضاته في مناصب الحكم.

خلال كـل هذا التاريخ لم تتوقف سفن"البوم" الشهيرة عن تحديها للعواصـف، حتى وصلت إلى شواطـىء الهند والصين وحتى جزر إندونيسيا وشرق إفريقيـا كانت عاملا مهما في نشر تقاليد الحضارة وتعاليـم الدين الإسلامي ومازالـت تقاليد البحارة العُمانيـين ومفرداتهم اللغوية منتشرة بين أهالي هذه البلاد، وكـانوا السبب في نشأة اللغة السواحليـة التي تختلط فيها اللغات الإفريقية القديمة بالمفردات العربية وهي لغة التفاهم الرئيسية في شرق إفريقيا.

لقد اختلط في سيرة بحارة عُمان الحقيقـة بالأسطورة وخلقوا ما يمكـن أن نطلق عليه جغرافيا الوهم في التراث العـربي، جزر الواق واق، وبلاد السند والهند، وبحـار السندبـاد السبعة. اختلطـت حكاياتهم بالواقع الأكثر غرابة وتسللوا إلى صفحات ألف ليلة وكل حكايات البحر القديمة.

ثم جاءت الغزوة الأوربية عندما استدار البرتغاليون من حول رأس الرجاء الصالح. جاءوا في وقت كـانت تعاني فيه عُمان من ضعف خـارجي وانقسـام داخلي. وكـان جـدلهم مـع البحـر مختـلا. انشغلـوا بالفتن الـداخلية وتركـوا السـواحل نهبا للغزاة. جـاء القـائد البوكـريك يحركـه طموحـه الشخصي ورغبته التدميرية ليخرب مسقـط وغيرها من مدن الخليـج، ورغم ذلك فقد أدرك منذ الوهلة الأولى أهمية عُمان كمدخل للخليـج العربي وكمحطة أساسية في طريقهم الطويـل إلى الهند. ورغم المقاومة الشديدة التي أبداها أهل عمان فقد سقطـت بلادهم في أيـدي البرتغـاليين في عام 1507 لتبدأ صفحـة حزينة في تاريخ عُمان استمرت قرنا ونصف قرن.

عبر هذه السنوات كـانت تفاعلات القبـائل على أرض عمان لا تتوقـف. أدركوا أنه لا أمان لهم ما دام البحر غير آمن، وأنهم لن يكونوا أسيادا على الأرض إلا إذا كانوا أسيادا على الماء أولا.

وأيقن حاكم عُمان ناصر بن مرشد اليعربي أن سر تفوق البرتغاليـين يكمن في أسطـولهم، فـاهتـم ببناء أسطول قوي قادر على المواجهة، وبدأت حرب المعاناة الطـويلة وأخذت القلاع التي أقـامها البرتغاليـون ليتحصنوا داخلها تسقط واحدة إثر الأخرى.

كانت عُمان هـي أول دولة عربية تهزم قـوة أوربية في العصر الحديث ولم تظفر بحريتها فقط ولكنها أصرت على طرد الغزاة من الخليج والمحيط الهنـدي والسيطرة على مياهه وتجارته، وأصبحت عمان هـي القوة البحرية الآسيوية الأولى..

إن صعـود وهبوط عُمان في تلـك الفترة هو إحـدى الزاجيديات العربية الحزينة. ففي أوج القوة والصعود يدب الوهـن المفاجىء وتتصاعد الفتن، وتشهد البلاد مـزيدا من الضعف ومزيدا مـن جيوش الاستعمار التركي والأساطيل الإنجليزية، ولا يستقيم الأمر إلا بعـد صعود أسرة البـوسعيد إلى دفة الحكم والقيادة، وكان اهتمامهم الأول هو استعادة عافية الأسطول..

لعب الأسطول العُماني دورا حربيا وتجاريا مشرفا. فلـم يكتف بفرض الأمان والقضاء على القراصنة الذين كـانوا يروعون الخليج، ولكنه سـاهم أيضا في حماية البصرة مـن السقوط في أيـدي القوى الأجنبية ومد نفـوذه إلى سواحل المحيـط الهندي. وأصبـح الشعـب الجبلي الصلـدي بحـارا مـاهـرا يحكـم إمبراطورية واسعة الأطراف يجوب بينها بسفنـه التجـارية والحربيـة. وجـاء السلطان "سعيـد بن سلطان لما أو السيد البحار كـما كان الأوربيون يطلقون عليه فقد كـانت سعادته الحقيقية هي أن يقود بنفسه سفينته "شاه علم " إلى سواحـل البلاد التي يحكمها من ساحل عمان إلى ميناء جـوذار في مكران وجزيرتي زنجبار وبمبا على الساحل الشرقـي لإفريقيا كـما كان يستأجر بندر عباس في إيران وجزيرتي قشم وهرمز.. وقد مات هذا السيد وهو يقود سفينته كـما تمنى وكـما عاش دوما.

وفي عام 1840 سـافـرت سفينـة عُمانية هـي "سلطـانة لما إلى الولايات المتحـدة الأمريكية تحمـل مبعـوث السلطـان الخاص إلى الرئيـس الأمريكـي، وكـانت بـذلك أول سفينـة عربية تقوم بمثل هذه المهمة فى التاريخ.

لقد فقدت عُمان جزءا كبيرا مـن إمبراطوريتها بعد ذلك وتعرض مدها للانحسار وتقوقعـت بعد ذلك داخل حدودها ومرت عليها فترات طـويلة قاسيـة انعزلـت فيها نهائيا عن العـالم الخارجي.. ثم عادت إلى الظهور مرة أخـرى بعد عام 1970 كـأنها طائر العنقاء يخرج جديدا من وسط الرماد، وسوف تثبـت أنها بلد لا يستطيـع إلا أن يعيـش حـالة مـن الجدل المستمر، وليس جـدل البحر والجبال فقـط، ولكن جدل الجبال والسهول، وجدل الواحات الخضراء والرمال الصفراء، وفـوق ذلك جـدل الإنسـان العُماني نفسه في مواجهة كل عناصر الطبيعة.

أشجار وأناس

لا أدري لماذا تذكـرني شجـرة اللبان بالكثير من صفات الإنسان العُماني.

إنها تقف وسط عراء الصحراء تنمو وتتفرع تضرب جـذورها في الصخـر وتستقي مـن ماء المطر وتقاوم عوامل القيـظ، شجـرة صبور كـما يبدو مـن شكلهـا، غصـونها جـافـة وأوراقها قليلـة وصغيرة، منذ أقـدم العصور، وقـد اكتشف إنسان عمان تفرد هذه الشجرة فهي لا توجـد في مكان آخر. ولكي تجمع اللبان هناك سكين خـاص لذلك يزيـح بواسطته جزءا من لحاء لشجرة كي يعري جزءا من الفرع وتبدأ المنطقة العارية في إفـراز سائل اللبان الـذي يشبـه اللبن ويزكها لمدة أسبوع تواصـل هذه الإفرازات حتى تتكـون كرية صغيرة من اللبان ويأخذ في جمعها..

كانت هذه الشجرة مصدرا مهما للتجارة في العصور القديمة، ومثـل طريق الحرير وطريق البهار كان هناك طريق للبان يبدأ من عمان ثم يعبر من اليمن إلى مصر والقدس ثـم إلى أوربا. وقـد عرف المصريون القدماء اللبان واستخدموه في التحنيط وعلاج بعض الأمراض وتضوعت كنائس روما وأوربا بالرائحة الـذكية للبان المحترق وما زالت هذه الشجرة قائمة تحمل ذكريات هذا الماضي البعيد..

الإنسان العُماني في صلادته ومقاومته يشبه تماما هذه الشجرة، العطاء أقرب إلى طبيعته من الأخـذ، والكرم جزء مهم من التقاليد والخصال التي يحرص عليها.. سمات وأعراق وثقافات حضارية.. عوامل كثيرة ساهمت في صنع الجذور الرئيسية لأهل عُمان.. إنهم "الأنظف والأكمل والأفضل ثيابا والأكثر لباقة بـين سكان الجزيرة". هكذا وصفهم الرحالـة الإنجليزي جيمس سيلك ببكنجهام عندما زار مسقط في أواخر القرن التاسع عشر. وقد أكـد ذلك الحفاوة التي تـم استقباله بها، ولأن العُمانيين شعب متجـانس انصهرت قبائله وعناصره على هـذه البقعة من الأرض فإن ما ينطبق على أهل مسقط ينطبق على كل عُمان.

يـؤكـد هـيرودت المؤرخ اليونـاني المعـروف أن الفينيقيين الذين سكنوا أرض لبنان وبنوا سفنهـم من شجـر الأرز وأبحروا حتى أطراف المعمورة ترجـع أصولهم إلى عُمان فهو يقول: "هؤلاء البحـارة المهرة الذين جاءوا إلى فينيقيا مـن بحر ايرترين" وهو اسم يطلق على قبر ملك قـديم كـان موجودا على إحـدى الجزر في بحر "هرمـز"، وتؤكـد بعض الشواهد هذا القول، فهـم يحملون نفس الصفات ونفس درجـة الشغف بركوب البحر وهنـاك تشابه واضح في أسماء بعض المدن. وعلى سبيل المثال فإن مدينة صور العمانية ما زالت تصنـع فيها السفن التقليدية حتى اليوم وكذا مدينة صور اللبنانية كـانت مهـدا لبزوغ أهل فينيقيا ومنها بدأوا كل رحلاتهم.

وتدل الآثار القديمة التي اكتشفت حديثا في عُمان أن هذه المنطقة كـانت مهـدا لحضارة بحريـة عظيمة ما لبثت أن انهارت وحدثت هجرات بشرية متواصلة إلى الشمال.. إلى شواطىء بحر آخر حاملين معهم نقوشهم وطرق معيشتهم ومهارتهم كبحارة.

أهل الساحل.. وأهل الجبل

ولا تنتهي تفاعلات التاريخ، فعُمان أرض غنية بهذه التفاعلات، ورغم التكون القبلي لسكانها فإن الجغرافيا فرضت نوعا مـن التجانس فيما بينها. وفي ظل الاستقرار الطويل تحت وطن شامل استقرت التقاليد وتنوعت في إطار الوحدة فكل قبيلة في عُمان سواء كان تعدادها بالآلاف أو مكونة من عائلتين فقط لها تقاليدها التي تعتز بها.

وفي ظفار يمكـن التمييز بوضوح بين سكـان الساحل، وسكان الجبال. كل فئة تحمل صفاتها المميزة بل ولغتها المميزة أيضا.

فقد أثرت الريح الموسمية على نمط حياة أهل الساحل. ففي ديسمبر من كل عام تهب رياح شمالية شرقية تحمـل سفن البوم الشهيرة إلى شـواطىء زنجبار وإفريقيا الشرقية حاملة التمر واللبان. ثم تعود مرة أخرى مع الرياح الجنوبية الغربية التي تهب في أبريـل محملة بالعـاج وبالعسـل وأصداف السلاحف التي تصنع منها مقابض الخناجر العُمانية الشهيرة.

ولا تتوقف رحلات البوم الشهيرة فهي ترحل للبنغال لتحضر الحريـر والبهار وإلى ملبـار لتحضر أخشاب السفن والأرز وتصنـع بذلك صلة حميمة من الوصل بين هذه المناطق وأوربا.

وأهل الساحـل رغم أنهم ما زالوا يعتمـدون على الصيد إلا أن البوم لم يعد صالحا اليوم للإبحـار في المحيطات الصعبة. في ظفـار تحول ميناء "الريـوث" القديم إلى ميناء حديث تخرج منه سفن الصيد وتأتي إليه سفن البضائع من كـل مكان. وتمتد شواطـىء ظفار تحت شمس خليجية هادئة، ويبدو الموج أكثر قدرة على الحركـة والثرثرة عنه في بقيـة شواطـىء الخليج، وهناك اهتمام كبير بتنظيف هذه الشواطـىء وإمدادها بـالمرافـق وفي كـل يوم تنام النوارس على شاطئها وتظل أشجار النارجيل سامقة، شاهدة على هذا الازدهار البحري القديم.

ولكن إذا تراجعنا قليلا عن الشـاطىء وجدنا غطاء آخـر من الحياة يعتمد على الرعي وعلى السكنى في الجبال، إنهم البدو الـذين أثاروا خيال كل الرحالة الذين جاءوا إلى جزيرة العرب.

ولم يعشق أحد بدو ظفار مثلما عشقهم الرحـالة "ألفريد تيسجـر" لقـد عاش حياتهم الخشنة التي تعتمد على التنقل والرعي وأسرته تصرفـاتهم المليئة بالنبل الفطري.

ولد في إثيوبيا عام 1910 وبدأ حياة الترحال عام 1945، وجاء إلى جنوب الجزيرة العربية تحت قناعة أنه سيجـد "واحدا مـن الأماكـن القليلة المتبقية حيث يمكنني الذهاب إلى حيث لم يذهب الآخرون، وحيث يتسنى لي أن أجد الأمان المشبع بالوحدة وأنعـم برفقة البدو في عالم شرس".

وكانت عُمان في ذلك الوقـت بالفعل بلدا بكرا، وكان الجزء الداخلي منها مجهولا أكثر من التبت ومن أجل أن يصل إلى البلاد أقنع مصلحة مكافحة الجراد في لندن بأن يكون مندوبا لها ليقوم بالمسح اللازم عبر صحراء الربـع الخالي. وعاش سنوات طويلـة وسط البدو النبلاء القساة كـما كان يطلق عليهم، وأطلقوا عليـه هم اسـم "مبارك"، بل لقد دخـل مجتمعهـم وثقافتهم، بل ولم يستطع أن يمنع نفسه من أن يصبح جزءا من الخلافات التي تدب بينهم..

إن بدو ظفار ما زالوا يحافظـون كثيرا على تقاليدهم، ومنها اللغة الخاصـة التي يتكلمون بها، وهي لغـة تعود في جذورها إلى اللغة الحميرية القديمة، ويحافظون على نفس أسلوب الحياة رغم أن الحكـومة لا تكف عـن محاولة جذبهم وتبني لهم مساكـن شعبية تتنافس في مستواها مع أرقى "الفيلات".

وسواء كانوا أهل جبل أم أهل ساحل فإن خصال أهل عُمان لا تختلف عـن بعضهـا كثيرا، فـالكـرم وحسن الضيافة سمة أساسية، ومهما كان الفرد فقيرا أو غنيا فهو يجود بـأفضل مـا عنده. لقد بدأ زوار الخليج يعرفون الطريق إلى صلالـة. لقد اكتشفوا أن هناك جنـة خفية في جزيرة العرب خاصـة في فصل الخريف. فالحرارة لا تزيد في هذا الفصل الذي يمتد من يونيو حتى سبتمبر على 25 درجـة مئوية وهبوب الرياح الموسميـة بـما يصاحبها مـن مطر هادىء وضباب شفاف يجعل الجو ساحـرا ويضفي نوعا من الألق الطبيعـي الخلاب الذي تعيشـه "صلالـة". إنها تمثل نوعا من "السياحة الشريفة" التي يتطلعون إليها وأسرهم، فهم يحسون أنهم في وسـط اجتماعي يحمل نفس قيم الخليج وتقاليده العريقة.

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





الخريف في صلالة





الخريف في صلالة





الخريف في صلالة





الخريف في صلالة





الخريف في صلالة يتشكل مع أوراق الأشجار والزهور





الخريف في صلالة يتشكل مع أوراق الأشجار والزهور





الخريف في صلالة يتشكل مع أوراق الأشجار والزهور





الخريف في صلالة يتشكل مع أوراق الأشجار والزهور وهو يلخص كل فصول السنة في شهور قليلة يهطل فيها المطر





صلالة من أعلى والمدافع القديمة مازالت منتصبة على شواطئ مرباط





خريطة صلالة وموقعها من سلطنة عمان





برج النهضة الذي يتوسط الميدان





أقدم صديق للإنسان العربي، مازالت الجمال تمرح في السهول الطليقة





أقدم صديق للإنسان العربي





أقدم صديق للإنسان العربي





طيور الفلامنكو المهاجرة تجد لها مستقرا على الشاطئ الدافئ





طيور الفلامنكو المهاجرة تجد لها مستقرا على الشاطئ الدافئ





علاقة الإنسان العماني بالبحر لم تنقطع فهو بحر فياض بالخير





أسماك السردين المنشورة تصلح علفا للحيوانات وسمادا للزراعة





صياد عجوز يصلح شبكته بصبر وأناة





الجبال قد تركت طابعها الخشن القوي على وجوه رجال البدو بها





شجرة اللبان الشهيرة بخورها يعبق المساجد





صناعة المباخر التقليدية في عُمان وهذه السيدة فنانة بالفطرة تلونها بالفرشاة





غطاء الرأس المنقوش الذي يميز لباس أهل عُمان





مزار النبي أيوب فوق قمة الجبل العالي





أشجار نخيل النارجيل أو جوز الهند





من يشرب ماء جوز الهند يرجع لصلالة مرة أخرى