نشيد الحريّة

نشيد الحريّة

ريشة: أمين الباشا

أتساءل عندما آخذ قلمي وأفلش صفحة بيضاء لأكتب. أتساءل هل أن ما سأكتبه سيكون للأطفال أم إلى الراشدين والراشدات؟ لكن تساؤلي لا يطول، إذ إن قلمي يسبقني ويخربش على الصفحة البيضاء محفزاً لي أن أرسم حرفاً أو كلمة، يتابع القلم خربشته ويأخذني إلى حلم ناتج عن الخطوط المستقيمة المتداخلة والدوائر والنقط، فأرى حقيقة ما كنت أريد أن أكتبه في هذه الخربشات «التعبيرية»، التي أغنتني عن رسم أحرف وجمعها بأحرف لتصير كلمة ثم كلمات، ثم سطراً وأسطراً ومقالاً وقصة، هنا أقف، هل ستكون القصة للأطفال أم للكبار؟

أنظر إلى الصفحة وأدخل في أجوائها وأتسلل بين خيوطها وأسافر من خط مستقيم إلى دائرة قافزاً على كل نقطة، واصلاً إلى شاطئ ترسم موجاته خطوطاً ودوائر ونقاطاً بيضاء على صفحة رمل ذهبي، فأغفو حالماً على وشوشات الأمواج المنشدة بلغات تأتي بها من شواطئ البحر المتوسط كلها، مبتدأة بشواطئ برشلونه إلى شواطئ مرسيليا إلى شواطئ بيريه اليونانية إلى إسكندرية إلى ليماسول، هنا أتساءل: هل أعود إلى شواطئ بيروت؟ وأقول لنفسي وماذا سأفعل هناك؟ لم أشأ أن أجيب، تابعت سفري، لمست رمال الشاطئ، قبّلت يدي الأمواج، حملت يدي إلى شفتي، لقد سمعت ما قالته لي وما أخبرتني قارئة علي رسالة، لن أقول ممن؟ فرحت جداً، هذا صحيح، فأنا لا أفرح سوى للأمواج الحاملة معها رسائل من الذين غابوا، من الذين تركوا الأرض ولحقوا بالأسماك الملوّنة، حيث الهدوء والسعادة ولقاءات الأحبّة، حيث لا يوجد سوى أحبّة لا يعرفون إلا أن يحبّوا ممتزجين بالماء الأزرق الهادئ الحامل في طياته أخضر جديداً ليس كأخضر الأعشاب.

***

ثم أتساءل: هل أن ما سيكتبه القلم سيكون للأطفال أم إلى الكبار؟ عندما لم أجد جواباً على أسئلتي، قلت وما الفارق بين طفل ورجل سوى فارق السنين؟ وهل أن السنين هي التي تخلق الطفل أو الرجل؟ هو الطفل الذي لا يعرف السنين، والرجل هو الذي يعدّها ويسجلها في رأسه خائفاً من أرقامها المتراكمة، بما ينظر إليه الطفل شامتاً ضاحكاً باكياً مبوِّلاً نائماً جائعاً ضاحكاً للاشيء، ضاحكاً على بكاء الشيخ الذي لا يفعل سوى عدّ السنين.

***

لم أجد جواباً على أسئلتي، كأني وأنا أداعب قلمي وآخذه من يد إلى يد، وجدت جواباً، ضحكت، سررت لأني ضحكت، وهل هناك أجمل وأفرح من أن تضحك للاشيء، أنا ضحكت للاشيء، هذا هو الضحك الصحيح، ضحك كله صحّة بدنية، ثم توقفت عن الضحك وعاد إلى وجهي الجد لماذا؟ لا أدري، حاولت أن أعود إلى الضحك، عدت إليه.. لكنه كان ضحكاً تعيساً قريباً من البكاء، وضعت القلم على الطاولة، شربت بعض الماء.

***

عندما شربت قليلاً لم أرتو، قلت القليل منه يفرح ففرحت، عندها قمت من على كرسي وأخذت أوراقي بين يديّ ومزّقتها، ثم أخذت القلم فكسرته، وسرت منتصراً في الشارع أغنّي، وأنشد نشيد الحريّة، حريّتي واستقلالي من الأوراق والأقلام والكلمات التي تجعل من الحيوان إنساناً ينثر أفكاره بقوّة وتصميم، مدخلاً عقائده وعقده في رءوس المساكين، جاعلاً منهم جنوداً مدافعين عمّا أوجدته الأوراق والأقلام والكلمات التي مزّقتها وكسّرتها ورحت أنشد الحرية.

ثم وقفت جامداً في مكاني، شعرت بوحدة لم أشعر بمثلها من قبل، بقيت لدقائق كالسنوات حزيناً وحيداً لا صديق ولا رفيق، حتى أن ظلي انسلخ عني، ما أقسى أن يكون الإنسان وحيداً، أكرّر هذه الكلمة التي تمثل أعمق تمثيل للضياع، لضياع كل ما يملكه إنسان، الصداقة، الحب، الفرح، الحوار، وأكثر أيضاً.

قلت الحوار، ولا سبل إليه إلاّ بالكلمة، وقد تبعثرت كلماتي وتكسّرت ثم ذابت، وكنت أعتقد أن حريتي هي في تمزيق أوراقي ورسومي، عكس ما كنت أبحث عنه، لم أجد حرّيتي في تمزيق أدواتها، الورقة والقلم، الذي فيهما تخلق الأشياء والكلمات، من دونهما لا رسم ولا شعر، مددت يديّ لألملم الأوراق والأقلام، وما بقي من كلمات، جمّعتها في يدي ورحت أجمعها ببعضها، وقد عادت الابتسامة إلي واختفى ذاك الشعور القاسي الذي انتابني عندما تخلّصت وتحرّرت من وحدتي، ورحت أسلّم على الناس في الشّارع حراً طليقاً حاملاً بين يدي أحرفاً وورقاً وأقلاماً ملوّنة.

 

 

أمين الباشا