واحة العربي

النفوس ليتماوج ظاهرة واضحة في الشوارع، والبيوت، وغرف النوم، والأزياء، والعقائد، والمأكل، والمشرب، والتاريخ، والموت، والإنجاب، والمقتنيات، والزرع، والضرع، الكل يلمس هذه الظاهرة، ويحتك بها، ويستعيذ بالله من شيطانها، ويدرك مدى نشوب أظفارها في الجماعات البشرية ـ حتى تلك التي تتذرع بالعلم لترفضها، إذ إن العقل البشري لا يزال معانداً يأبى الخضوع لهذه الظاهرة مادام غير قادر على تفسيرها، ويغمض ـ هذا العقل ـ عيونه عن قيامها الواضح.

وأي واحد ـ مهما كان ـ داهمته نزعة الحسد ذات مرة: أي تمنى زوال النعمة عن شخص ما، ومن أدمن الحسد صار حسوداً، واتسم بهذه الصفة الشريرة التي هي محصلة لقوى الغضب والحقد والكراهية، تدمر راحة الليل وحركة النهار، وتغيب بسببها متعة الدنيا ليتحقق عذاب الدنيا والآخرة، حيث تنخر مخالبه وأنيابه في الفؤاد ليصبح ملائما لنفث هذا الوهج الشرير.

وأول حاسد كان إبليس ضد أبينا آدم فور أن خلقه الله، لتبدأ تلك الكارثة التي أودت بآدم وزوجه إلى الهبوط من الجنة إلى الأرض، والتي نعاني منها حتى الآن، ثم كانت ثانية حالات الحسد في واقعة قابيل وهابيل التي نعرف جميعاً تفصيلاتها، بعدها اتسعت نوازع الحسد باتساع العالم، ووصلت إلى درجة أن يتمنى شخص زوال النعمة ـ أي نعمة ـ من شخص آخر ـ أي شخص آخر دون سابق احتكاك، إنه الحسد في حالاته الأقصى، إنه الشر المجرد، يحسدون الغجر على ظلال الشجر، والغجر ـ كما نعلم ـ أقوام رحل لا يقيمون في مكان محدد، يهيمون بلا استقرار على حافة الوديان في التقائها بالصحاري. ثم إن الأمر يصبح مدهشاً عندما يدخل الحاسد إلى ساحة ذات أضواء باهرة، فما يكاد نظره يطوف بها حتى تنفجر المصابيح واحداً تلو الآخر في إيقاع مرعب. حدث ذلك أثناء تنفيذ مشروع السد العالي في أسوان، وكان العاملون يتابعون بعيونهم هذا الحاسد في توجس وقلق، أشعل النار ـ أعوذ بالله ـ في أثاث قاعة المطعم، استدعاه المدير الإداري وطلب منه أن يستريح في البيت دون عمل، فوقع سقف المكتب على المدير الإداري. ويوم تحويل مجرى نهر النيل في مايو 1964 صدر أمر بترحيله عنوة من جميع مواقع العمل، لقد كان الموقع غاصاً برؤساء الدول الضيوف القادمين من الشرق والغرب ـ عدا أمريكا وغرب أوربا ـ وقيل إنه وقع صريع عملية حسد ضد مواطن صعيدي فقتله أهله سراً، إذ إننا لم نره، ولم نسمع عنه بعد ذلك. ولعل الحسد ـ في الجماعات البشرية الفطرية والبدائية والقبلية أكثر قياماً وتفاعلاً وانتشاراً، ونرى آثاره في طقوس ورموز اتقائه أو الحد من تأثير عيونه التي تفلق الحجر، ابتداء من ليلة الفرح ـ التي تسبقها ليلة الحناء الشهيرة عندنا، وللحناء دور كبير في قطع الطريق على الحسد كي لايصل إلى العروسين. وفي معتقداتنا الشعبية أن شيطاناً معيناً يعمل نشيطاً في هذه المناسبات ولايحد من تأثيره سوى الحناء، ولهذا السبب فقد كان الطقس يقضي بألا تقترب الراغبة في حلقة الزار من تضميخ أطرافها بالحناء تسهيلاً لترويض الشيطان الذي يرافقها، ثم بعد ذلك مباشرة تتم عملية تضميخها بالحناء، وفي موقف مضاد يهتم الناس في بلادنا ـ أو كانوا ـ بالحناء تطهيراً للولد قبل الطهور ـ أي الختان ـ حماية من الحسد. كما أن الخرزة الزرقاء ـ كعنصر من عناصر اتقاء الحسد ـ تزين جبهة العروس، كما تختفي تحت إبط العريس التحويطة، وهي تميمة تحوي كتابات غامضة، ومن باب المغالاة يضعون هذه التميمة مع خليط من الكمون والحبوب والملح في حرز متين، وبذلك تكون التحويطة أكثر فاعلية في إحاطة العريس بالحماية المناسبة خشية تدمير هذه الليلة الحساسة. ثم لاتنس الحجاب المدسوس تحت الوسادة، والحرز المعلق فوق دورة المياه، والكف المشغولة من سعف النخيل والمعلقة على الحائط المواجه للفراش السعيد، ولايخلو الأمر من سنابل القمح المنسوجة والمنمقة في تكوينات المثلثات البديعة، والتي تزين أول حائط مواجه للباب. والراغبون في إنجاب الذكور يفرزون قلقهم في طقوس كثيرة اتقاء الحسد، أولها إخفاء نوع المولود الذكر والإعلان عن إنجاب أنثى، ثم يقومون بدور التأنيث لهذا الوليد الذكر: خلخال صغير في رسغ القدم، حلق في الأذن، مع ارتداء ملابس الإناث، وكثير من الذكور يعانون من هذه الحالة حينما يكبرون ويقعون في دائرة السخرية من الآخرين، وقد تلاشت هذه المسائل في السنوات الأخيرة، وإن كان باقياً منها آثار في جماعات البشارية جنوب مصر، والجماعات القبلية المنتشرة في الواحات الخارجة والداخلة بالصحراء الغربية، وعلى سواحل البحر الأحمر حول جبال العوينات قرب الحدود المصرية مع السودان. وتتمتع الحيوانات ـ أيضا ـ بطقوس اتقاء الحسد، حيث يقوم أصحابها بنثر الدقيق على جبهة الأبقار والجواميس عند دخولها لبيوت أصحابها الجدد لأول مرة، كذلك فإن الأمر لايخلو من حجاب يعلق في رقابها، ويغلف حجاب هذه الحيوانات بالجلد المانع لتسرب المياه، كما يلقى بالملح مع خليط الشبة تحت الإناث فور تواصلها مع الذكور. واتقاء الحسد يكمن وراء تعليق جثث التماسيح المحنطة فوق أبواب بيوت القاهرة القديمة، وتقوم معارك كثيرة بسبب ما قد يحدث لها من عبث بالحراب والأسياخ، كذلك فإننا رأينا ـ بالضرورة ـ إحدى الجدات المسنات وهي ترش الماء المالح أو بذور الفول النابت في عرض الطريق المؤدي لبيتها ـ وفي الفجر بالذات، ولا تزال عائلات تمتنع عن قتل البرص لاعتقادهم بأن في موته إتاحة للحسد لينتشر، إنهم يطردونه فقط. وبعد كل ذلك فللحسد نصيب معروف في الأغاني الشعبية، "ياحاسدين الناس مالكم ومال الناس"، وفي الأمثال أيضا ـ وبشكل وافر، ابتداء من حسد العريان على شراء الصابون، وانتهاء بعينك الصافية ماخلت عافية ـ أي لم تترك لنا القوة اللازمة، وعليك أن تتلو في إيمان:سورة الفلق آية 5 قل أعوذ برب الفلق. من شر ماخلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد والله هو الصادق العظيم.

 

محمد مستجاب