افتتاحيات رئيس تحرير «العربي» الممارسة البذرية وأحجية التاريخ

افتتاحيات رئيس تحرير «العربي» الممارسة البذرية وأحجية التاريخ

  • الفرجة على الآخرين وهم يفكرون ويبدعون لن تعلمنا التفكير والإبداع، لأن الممارسة هي الأساس، فالطفل يتعلم الكلام - مثل المشي - عبر تداعيات الممارسة وليس بمجرد رؤية أو سماع غيره يتكلم.
  • الثقافة حقيقة متغيرة متطورة تعبّر دوماً عن مرحلة تاريخية بعينها، وتتشكّل في كل مجتمع وفق خلفيات واحتياجات وإمكانات وأولويات وتحديات وغايات.

توثقت علاقتي بالكاتب الكبير أحمد بهاء الدين عام 1986، وكان بهاء في لحطات القنوط المعنوي يلومني على هجري الهندسة كمهنة لها ثقل مادي خلاّق، من أجل العمل في «هلاميات» الثقافة والصحافة، مهما أكّدت له من أهمية وإلحاح تخصصي في «العمران الإنساني والمستقبليات». لكنها لم تكن سوى لحظات قنوط. ففي يناير 1989، نشر بهاء في مجلة «الهلال» عجالة بعنوان «فزورة التاريخ»، وهاتفني طالباً تقديم حل لها. كانت فزورة بهاء: «منذ صارت القراءة أحد همومي، وأنا أسأل هذا السؤال: ما الذي يجعل شعباً ما ينهض ويتقدم؟ وما الذي يجعل شعباً ما يكون متقدماً وناهضاً يضمحل ويتقهقر؟». وكان بين ما جاء في عجالة بهاء: «من حق الكاتب أن يطرق باله سؤال ما، ويحار معه ولا يجد له رداً وتفسيراً.. فيطرح هذا السؤال على القارئ حتى إذا كان لا يفعل إلا أنه مشاركه في حيرته، فهذا أمر مفيد، يشحذ الأفكار، وقد يخف لنجدته كاتب أو مفكر آخر، و..». وهكذا يلفت النظر أن طرح بهاء الفزورة لم يكن مجرد سؤال، قدر ما كان حثاً بالغ الذكاء على التفكير والحوار والسعي الجماعي إلى إجابة للسؤال الأهم في وجودنا (أو انقراضنا لا قدّر الله). والوقائع تؤكد أن هذا ما يسعى إليه الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس تحرير «العربي» في سلسلة افتتاحياته عن النهضة العربية «كوكب الشرق وانقراض العرب، الترجمة، الديمقراطية..». ونشر التعليقات عليها، ولنقرأ مثلاً قوله: «كيف تستطيع شعوب المنطقة تجاوز تراثها السياسي وأعرافها وتقاليدها وثقافتها التقليدية التي رسختها أزمان من التسلط في إدارة الحكم واتساع رقعة الجهل وتفشي الخرافة و.. لتصبح مؤهلة لأن تختار حاكمها وممثلها في مجالس التشريع والإدارة» (افتتاحية يونيو 2010 عن الديمقراطية)، وقد لفتتني هذه الافتتاحيات كما لفتت غيري، ولابأس من محاولة لتمحيص الأمر عبر افتتاحية عدد مايو 2010 عن الترجمة العربية التي تعاني، وفق ما جاء في مقدمة الافتتاحية العديد: «من المعوقات والسلبيات التي قد تعطل نتائجها بشكل أو بآخر، أو تؤخر أهدافها على أقل تقدير». بالذات وأن ما تعانيه الترجمة وثيق الصلة بما جاء في افتتاحية سبتمبر 2009 عن فشل محاولات التحديث المتتالية في الوطن العربي، وفي افتتاحية يونيو 2010 عن الديمقراطية و..، ومن هذا المنطلق يمكن أن تتجاوز الترجمة معناها المباشر إلى معناها الرمزي المعنوي الشامل بصفتها محاولة للالتحاق بالعصر.

الممارسة الإبداعية

وأستأذن في معالجة الأمر هنا عبر واقعة فزورة أحمد بهاء الدين، كان الأستاذ بهاء يعرف أني قضيت سنوات طوالاً - في إطار الاهتمام بالعمران الإنساني والمستقبليات - أبحث عن إجابة لسؤال فزورته، ومن هنا طلبه الكتابة عن حل الفزورة، الأمر الذي تحمست لتلبيته فنشرت عدداً من الدراسات المعنية بدءاً من عدد «الهلال» التالي (فبراير 1989) ولعدد من الشهور في المجلة نفسها، وفي مجلات «إبداع ووجهات نظر والمصور و...»، وكان بين حصيلة الإجابة - مع حماسة وتشجيع بهاء - ما نشرته بعد ذلك في كتابين: «سر النهوض والتقدم: لماذا لا يبدع المصريون؟» (مكتبة الأسرة 1999). و«مصر ومجتمع المعرفة من الانهيار السوفييتي إلى التحدي الإسرائيلي» (مركز الدراسات الإستراتيجية في الأهرام 2002). وكان «سر النهوض والتقدم» إذا بلورته في جملة واحدة: «العمل الإبداعي الجماعي المطرد، القائم على المعرفة»، وهذا هو الإطار الذي أراه واجباً عند مناقشة قضايا النهضة، فلا جدوى من نشاط إنساني ارتقائي التوجه لا يسهم الناس فيه إسهام ممارسة. ولعل هذا يندرج ضمن ما أكّد عليه الدكتور العسكري، وهو يتحدث عن الترجمة، حين تطرق إلى غياب الأفق الاستراتيجي لحركة الترجمة العربية. بينما نرى وفق ما أكّده رئيس التحرير في افتتاحية الديمقراطية أن: «الشعوب صاحبة الأرض والثروة والحق في الحياة لا مكان لها في هذا الصراع على السلطة ولا مكان لها في هذا التداول بين مالكي القوة العسكرية والأجهزة الأمنية».

انطلاقاً من ذلك يبقى - ونحن ندور في إطار «العمل الجماعي المبدع المطرد الذي يقوم على المعرفة» - التأكيد على أن الممارسة الإبداعية التي تنطلق من الواقع مهما كان متدنياً هي الأساس، حتى لا تبقى خطوات إيجابية (مثل مشروعات الترجمة العربية أو المساعي الديمقراطية أو..) في إطار الفرجة أو الحلية الحضارية أو حتى المهرب من المأزق أو الاغتراب عنه، «وكأنها هروب من رصيد حضارتنا إلى منتجات الآخر، لن يحقق لنا أي نهضة مرجوّة، بل نكون كمن يحرق حقله ليأكل من حقل جاره!» (افتتاحية سبتمبر 2009 ص10).. وحتى نوضح ضرورة الممارسة لابأس أن نأخذ مثالاً - مجرد مثال - الإبداع الأدبي.

إن المعتاد هو نصيحة تقدم للراغب في مثل هذا الإبداع: «اقرأ واعرف. اقرأ لكبار الكتّاب والمفكرين، وامتلئ قراءة حتى تنطبع في نفسك صورة الثقافة الصحيحة». وهي نصيحة صادقة بلاشك، ولكنها حين تقال للمثقف الناشئ تبدو أشبه بالإدلال وأدنى إلى تثبيط الهمّة، وهي - بعد - لا تحوي الصدق كله. فصحيح أن التفكير وإنتاج الثقافة (بمعناها الشامل)، لا يكون إلا إذا انطبعت صورها الصحيحة في الذهن. ولكن الناشئ لا يتعلم التفكير بإدمان قراءة الأعمال الممتازة فحسب، كما أن الطفل لا يتعلم الكلام بمجرد سماع غيره يتكلم. بل لابد من الممارسة الفعلية لكل من الكلام والتفكير لتصقل التجربة الدفعات المبهمة الأولى، وتحذف آلافاً من الخطوات الخاطئة التي لا يشعر المبتدئ بوجودها حتى يقع فيها فعلاً. إن نتاج الفكر نظام، وهو نظام يبدو في صورته الكاملة طبيعياً سلساً لا ارتباك فيه، وقد تنطبع هذه الصورة انطباعاً كاملاً في الذهن، فإذا أراد من لم يعان تجربة الخلق أن يخلق مثلها وجد نفسه تجيش بآلاف الدوافع المشوّشة أو غير المنظمة، وهو أمر طبيعي، ووجد نفسه عاجزاً عن أن يصنع منها شيئاً له تلك الصورة الصافية الرائقة، فيخيل إليه أن المادة التي يصنع منها الفكر غير تلك، وأنه لا يملك إلا أن ينتظر حتى تواتيه المادة الصالحة. وواضح أن هذه المادة لن تواتيه أبداً. وكلما أمعن في القراءة وازدادت صورة الفكر الصافية وضوحاً في ذهنه مع قعوده عن تجربة التفكير وممارسته زاد الأمر صعوبة عليه، وأصبح مفحماً، ومن هنا اعتقاد الكثيرين أن كثرة القراءة تميت قدرة الخلق، وهو اعتقاد يناقض النصيحة التي أسلفناها.

إن التفكير فن لا يدرك إلا بالتعلم، وتعلم التفكير المبدع لا يستقيم ولا يكمل إلا بممارسته، بل إن هذه الممارسة هي أهم شيء فيه.

الترجمة.. الترجمة

والممارسة الإبداعية كما أشرنا ليست مجرد تأليف روايات وقص وأشعار، فهي ونحن نتحدث عن «العمل الجماعي المبدع المطرد الذي يقوم على المعرفة» حجز الزاوية في كل المجالات، بالذات كلما واجهنا الوطأة الثقيلة للواقع المحيط بنا في أي من مجالات النهضة.

هكذا ينبغي النظر إلى «مشروعات الترجمة» لا في إطار الانفتاح على الغير والتعلم منه فقط، وإنما أساساً في إطار التفاعل مع ما يثري الإبداع الذاتي. وهنا تأتي قيمة الترجمة الترجمة الحقيقية، بوصفها جزءاً من كل، هو مشروع العمل المبدع.

لقد أسيء فهم الاقتران بين وقائع النهضة وازدهار الترجمة (وقل نفس الشيء عن التحديث والانفتاح على الآخر والديمقراطية و.. و.. النهضة عامة)، فليس الرباط بين الاثنين رباطاً ميكانيكياً، أو شكلياً، بل رباط جدلي، لأن النهضة مشروطة باختيار المترجمات بناء على احتياجات الذات في تطورها. ومن هنا، فعلينا في الأساس مواجهة عثراتنا في إطار عمل جماعي مبدع، أيّا كانت النقطة التي ننطلق منها، وعدم الاكتفاء بالفرجة على الآخرين وهم يفكرون ويبدعون و.. فلن تؤتي «الترجمة الترجمة»، ثمارها، إلا بالاستقبال الفعّال، وبتنمية الحسّ النقدي القادر على المساءلة الخلاقة. وإلا إذا كانت بذرة ومدخلاً و«مادة خاما» يستخدمها العقل العربي، ضمن ما يستخدم، في نسج الجهود الإبداعية اللازمة للارتقاء بأوضاعه، وإلا إذا تحوّلت المعرفة من الفرجة والتخزين والمباهاة، إلى إكمال دائرة الممارسة والإبداع والفعل الذاتي، وإلى اقتحام يصوّر ممارساتنا ومعارفنا، ويدخل ما نترجمه في دورة حياة المجتمع ككل ويجعله يؤثر في أنشطته ككل، بحيث لا نظل في إطار التأثيرات الهامشية المحصورة في نخبة مثقفة، سرعان ما تذوي تحت معاول العزلة والحصار.

إن «الترجمة الترجمة»، بمعناها الأشمل فعل حضاري له وظيفة اجتماعية وتاريخية، ومن هنا فهي تتطلب استراتيجية تتناسب مع أهدافها، تضع في اعتبارها قيمة العمل المترجم وجدواه الاجتماعية والتاريخية، ولا يمكن أن تظل أصداء لما يحدث بالخارج، أو رهناً بالمصادفة أو الانتقاء العشوائي أو المجهودات الفردية المرتبطة بالرغبات الذاتية، وذلك حتى تسهم مساهمة حقيقية في التغيير الاجتماعي والإبداع والإنتاج والتقدم.

ولا مجال للتهاون عند تحقيق ذلك في مسألة الإتقان فبذرة معطوبة أقرب إلى عدم الإثمار، ومن هنا وكما ذكر الدكتور العسكري فإن «عدم نشر ترجمة سيئة أفضل كثيراً من أن تنشر بمساوئها وعيوبها».

نموذج عالم المعرفة

والمأساة أن العمل البذري المتقن المثمر ليس بعيداً عن تجربتنا، ولا نحتاج للترقي والاطراد في إنجازه إلا إلى مراكمة خبراتنا وتعميقها، وليس هدرها والبدء دوماً من جديد، وكأننا لا نراها. وهناك في المجال - الذي اخترناه مثالاً ومدخلاً - تجربة رائدة بكل المقاييس، ولعل الدكتور العسكري تحرّج في الوقوف أمامها، لأنه كان أحد القائمين عليها، وهي كتاب «عالم المعرفة» الذي يستهدف: «استعادة القدرة على بناء نهضة ثقافية جديدة تتناسب مع إيقاع العصر ومتطلباته، وابتكار منظومة فنية رفيعة بما تتضمنه من قيم أخلاقية واجتماعية يتحقق بها الارتقاء بالمستوى السياسي للمجتمع، ونهضة مجتمع عربي شاملة، عبر توفير ثقافة متكاملة للمثقف العربي غير المتخصص في شتى فروع المعرفة الإنسانية».

وقد أصبحت سلسلة «عالم المعرفة» عبر مسيرة تجاوزت ثلاثة عقود أوسع السلاسل الثقافية انتشاراً وتأثيراً في المنطقة العربية بأسرها، سواء من حيث عدد إصداراتها أو من حيث مستواها الثقافي والعلمي المرموق، حتى أن كتبها شكّلت في مجموعها موسوعة متكاملة تغطي مختلف فروع المعرفة. «وواقع الأمر أن التأسيس النظري لهذه السلسلة منجز إبداعي فريد، في الحقل الثقافي العربي، كما أنها من ناحية أخرى أحد تجليات التكامل المفتقد كثيراً في عالمنا العربي، مما كان، ولابد أن يجعلها نموذجاً يحتذى، وحدّث ولا حرج عن بساطة الإخراج والملاءمة والإتقان والتوزيع و..».

وأعتقد أن أي مثقف سيقرّني فيما ذهبت إليه، وليس عليه إلا أن يقلب رفوف مكتبته ويرى عدد كتب السلسلة فيها، ويقارنه بعدد الكتب التي تنتمي إلى سلاسل ثقافية أخرى، بما في ذلك نتاج مشروعات الترجمة العربية، ودع عنك الحديث عن المحتوى والإتقان والتوجه الإستراتيجي و..

إن التأسيس النظري الإبداعي جعل من سلسلة «عالم المعرفة» ليس «موسوعة عربية حديثة جامعة» فقط، وإنما جعلها نوعاً راقياً من «الجامعة الشعبية» الحقيقية الفاعلة، الأمر الذي كلّلها بنجاح غير عادي مقارنة بأي مشروع عربي مماثل.

إن الممارسة على مستوى جدل الفكر مع الواقع، وليس سراب الممارسة الفكرية المطلقة - دع عنك التخبّط والتخلبط والتهريج - أفضل إمكانية لنهضة مجتمعية حقيقية على طريق «العمل الجماعي المبدع المطرد الذي يقوم على المعرفة»، فضلاً عن أنها تنطوي على أفضل إمكانات التصدي للهجمات الخارجية، التي كثيراً ما وأدت تجاربنا - مستغلة مثالبها - وربما وهي قاب قوسين أو أدنى من الإثمار، مثلما حدث مع تجربة عبدالناصر لحظة اكتمال السد العالي وبدء الاستفادة من مياهه وكهربائه في تجربة كانت ستغير الواقع المصري تغييراً مادياً حقيقياً.

إن الثقافة والفكر وحدهما لا يصنعان نهضة، إذ لابد من جدلهما المتواصل مع الواقع، ومن دون ربط حركة الترجمة (وحركة الديمقراطية والتنمية والتحديث.. وحركة النهضة عامة) بالممارسة المبدعة المرتبطة بالواقع سنظل ندور في دائرة مفرغة لتحلق حركاتنا النهضوية في مختلف المجالات بما سبقها من حركات آل نتاجها إلى الصفر، لوقوفها موقفاً قاصراً يتوهّم النهضة بمجرد الفرجة على تجارب الآخرين والإعجاب بها، على أمل محاكاتها كالطفل الذي يود أن يتعلم الكلام أو المشي بمجرد الفرجة، دون ممارسة وتعلم وكبوات وعودة للوقوف والتقدم من جديد.

ليس أمامنا طريق آخر حتى تنتهي فصول أو استعراضات العجز العربي الجماعي والاستقالة الجماعية عن الخيال والإبداع والعصر، وحتى لا تظل محاولاتنا في الترجمة وغيرها، وعوداً على بدء «وكأنها هروب من رصيد حضارتنا إلى منتجات الآخر، لن يحقق لنا أي نهضة مرجوّة، بل نكون كمن يحرق حقله ليأكل من حقل جاره!». (افتتاحية سبتمبر 2009).

وأخيراً أقترح انتقاء عدد من الافتتاحيات وإصدارها في كتاب العربي بحيث تعطي تصوّراً بانورامياً عن موضوع «النهضة العربية» فالملابسات تتيح لرئيس تحرير «العربي» ما لا يتوافر إلا للقلة في عالمنا العربي من ظروف للتفكير المتمعن المخدوم.

 

 

 

محمد فتحي