ملف: جمال عبد الناصر 40 عاماً على الرحيل

ملف: جمال عبد الناصر 40 عاماً على الرحيل

تجربتان ناصريتان تتذكرهما شهادتان، بعد مرور 40 عاماً
على رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر
تجربة الوحدة مع سورية، وتجربة التصنيع الوطني.

قامت بالعاطفة ولم تستمر بالسياسة
شهادة على أول وحدة عربية

كنت في القاهرة آنذاك فتى عروبيا مدعوا إلى المؤتمر الأفرو - آسيوي، متحمسا للحدث الجاري، مبهورا بحشد الشخصيات الآسيوية والإفريقية المهمة الوافدة إليها بمناسبة المؤتمر العالم ثالثي المنعقد هناك للمرة الأولى، بمثل هذا التمثيل الدولي والإنساني العالمي الحاشد. أما النجم الأبرز بين الحضور فهو الزعيم الهندي جواهر لال نهرو. والمواضيع المطروحة جليلة فهي خطر الحروب ذات الأغراض الاستعمارية وإيجابيات النضال التحرري لشعوب آسيا وإفريقيا. فالعالم الثالث في نظرة أبنائه ليس العالم المتخلف والمغبون فحسب، بل هو إلى جانب ذلك العالم الأكثر تعلقا بالمثل، والأشد تحسسا بالظلم، والأكثر عبرة عن السلام والعدل بين الشعوب.

ذلك كان المؤتمر الآسيوي الإفريقي المنعقد في القاهرة آنذاك وتلك همومه. وليس منها بالتأكيد تشجيع جمال عبدالناصر على الوحدة مع سورية كما قالت بعض الصحف السورية وكذّبها مسؤولون رسميون عن المؤتمر الآسيوي الأفريقي. أما مصر بالذات والعرب الوافدون إليها في تلك المناسبة كصاحب هذه السطور، فهمهم الأول ليس العالم ثالثيته وقضاياه، بل مشروع عربي محدد وباهر في زمانه هو وحدة مصر وسورية الشقيقتين المتقاربتين وكانت الاجتماعات الدائرة في القاهرة والأكثر جاذبية للعرب هي تلك التي تختص بقرب إعلان الوحدة التي كان عرضها الرئيس السوري شكري القوتلي آنذاك على عبد الناصر، مقدما سورية على أنّها صاحبة المبادرة الشجاعة وما عروبة عبدالناصر إلا تحت الامتحان، وليس أمامه إلا قبول مطلب سورية بالوحدة.

في تلك الساعات المصيرية وعلى بعد من العالم ثالثيين ومؤتمرهم الجاري في القاهرة كانت وحدوية سورية هي محور كل الحديث ومحل إعجاب كل عربي، ولا ينقصها في اكتمال البهاء إلا تجاوب مصر عبدالناصر معها.

وهنا لا بد من القول إن القوى العالم ثالثية الوافدة إلى القاهرة والتي تلقت وهي هناك خبر قرب قيام وحدة سورية مصرية لم تكن في أغلبيتها مهتمة أو متحمسة للفكرة بدءا بنهرو بالذات الذي كان يقول إن مصر وسورية ينبغي أن تكونا وتستمرا حليفتين، لكن الوحدة بين البلدين هي في الأغلب سابقة لأوانها وأن سورية مخطئة في الدعوة إلى الوحدة والضغط على عبد الناصر بشأن ضرورة إعلانها.

كان قيام الوحدة السورية-المصرية في زمانها إنجازا مشرفا للطرفين في نظر جماهير الأمة العربية قاطبة، بل في نظر شعوب عدة من العالم كله، فلا دولة من دول العالم تملك حق الممانعة أمام إرادة قطرين عربيين بإقامة وحدة بينهما إذا هما شاءا ذلك، بل كما قال الكثيرون، سميت المشاورات الجارية من أجل إقامة الجامعة العربية بمشاورات الوحدة العربية، فإرادة الشعوب في مثل هذه الأمور هي الأساس. والواقع أن حديث الوحدات بين الشعوب أخذ طريقه إلى العقول والقلوب، والحرب العالمية الثانية لم تنته بعد. بل إنّه ما بدأ الحديث عن قرب انتهاء الحرب يجري على الألسن وفي الصحف والإذاعات، حتى بدأت تبرز خرائط جديدة لعالم في طور الولادة، الكل يريده جديدا ولكن على صورة دون أخرى أو نهج دون غيره.

لاشيء ينافس سحر الوحدة ولكن الوحدة تقوم عادة على أساس الجغرافيا كما كان يقول المتفقهون من أهل ذلك الزمان، فهي تكون بين سورية والعراق أو بين سورية ولبنان أو بين مصر والسودان... أما الوحدة بين سورية ومصر فهي مشروع ضد طبيعة الأشياء في نظر الساسة المخضرمين وهي سباحة فوق أجواء العدو الإسرائيلي بين البلدين العربيين. ولكن كل ذلك كان دون الثقة الشخصية المطلقة عند الإنسان العربي بالاسمين العربيين المحبوبين عربيا جمال عبد الناصر وشكري القوتلي.

داعمون بلا حدود

كنا نحن الشبان العرب المتجمعين آنذاك في القاهرة داعمين بلا حدود للوحدة. وكم كنا ناقمين على الزعيم الهندي جواهر لال نهرو الموجود معنا آنذاك في القاهرة، وغير المتفائل بما كان يشاع بيننا بالخطوة الوحدوية، وهو كما سمعنا منه كثيرا في تلك الفترة، لم يكن يتحفظ في إعطاء رأيه بتجنب خطوة وحدوية ستقوم عليها بلا شك قيامة إسرائيل وأصدقائها في أمريكا وأوربا، وكل مكان آخر متقدم فيه استعماريون حاليون أو سابقون، بيض الوجوه وشقر الشعور.

لم يتحمس آسيوي إفريقي واحد معنا للوحدة السورية المصرية على ما لاحظت في تلك الأيام، وحدهم العرب رأوا في الخطوة السورية المصرية إنجازا قوميا من الطراز الأول، وحده القلب العربي كان ينبض للخطوة التاريخية، ووحده العقل العربي أيضا رأى فيها إنجازا. أما الآخرون المتسلطون من سادة العالم وجبابرته فقد رأوا فيها رعونة وتجرأوا على موازين القوى الدقيقة التي وضعتها سياسات الاستعمار ومخططات الانتدابات الأجنبية للمنطقة. وقد ارتسمت وقتها علامات عدة على أن العقل الاستعماري الغربي لن يهادن لحظة ذلك التجرؤ العربي في الإقدام على وحدة بين قطرين عربيين، شديدة التجرؤ واضحة التحدي للكيان الإسرائيلي المزروع هناك عن قصد في وجه أي تطلع للنهضة الحقة.

لا مهادنة لمشروع الوحدة السورية المصرية. ذلك هو أمر العمليات الذي أعطي من قوى دولية كبرى منذ اللحظة الأولى لقيام الوحدة. وقد نجح أعداء النهوض العربي في إعداد العدة لإسقاط الوحدة، وكل معانيها بأكثر مما نجح العرب في الحفاظ على الكيان العربي المصري - السوري المفترض أن يصمد ويتحول إلى نموذج مشجع لكل إرادة وحدوية أصيلة على أرض العرب. إن أسوأ ما تركته تلك المرحلة من عبر هي أن أعداء الوحدة من مستعمرين وصهاينة وغيرهم عرفوا قوة الوحدة العربية، وكادوا لها بأكثر مما فهم العرب ضرورتها وإيجابياتها.

وها هي السنوات تتوالى والوعي على أولوية منهج التوحيد الإيجابي لقوى الأمة ليس معطلا فقط، بل غائب عن الفكر الوحدوي المفروض أن يكون قد اغتنى بالتجارب، لاسيما بتلك التجربة المصرية - السورية المفروض أن تكون لعبت دور مؤذن الفجر في نهضة العرب.

كان تحقق الوحدة المصرية - السورية في زمانها ثم انهيارها أقوى على أعصاب الأمة من أن تحتفظ بعدها برباطة جأشها. فالناس في مرآة الإعلام وعلى ألسنة العامة إما وحدويون أو انفصاليون. أما دافع الثمن فهو العروبة، تلك الفكرة الأساس في دعوة الوحدة ومع الأسف قليلة جداً هي الكتابات التي تناولت العروبة، ونقاط جاذبيتها للخاصة والعامة وكيف هي كانت ولاتزال العمود الفقري لميول ومقاييس العرب الأحياء، كما كان يسميهم المرحوم الدكتور نبيه أمين فارس أستاذ التاريخ العربي في جامعة بيروت الأمريكية إنّها العروبة أحبها المؤرخون لأنّهم والناس الطبيعيين يحلون بالعروبة مشاكلهم، ويعتبرونها وسيلتهم في التغلب على الجهل وعلى الأعداء.

ليس أهم من الأحداث التاريخية إلا إعادة قراءتها والعرب محظوظون بأن يكون لهم تاريخ حي قريب أيضا وليس بعيدا فحسب شرط أن يعرفوا دائما كيف يقرأونه، جاعلين منه قوة لهم في حاضرهم ومستقبلهم. وحسنا فعل الفكر السياسي العربي حين توجه لا للثناء على الإنجاز الوحدوي فقط بل لدراسة ظاهرة الانفصال أيضا. فالمطلوب وحدة قادرة على الدوام يحميها نجاحها في إقناع الشعوب على صعيد جعل العرب أقوى بها في وجه أعدائهم، وأقدر على منافسة جبابرة هذا العالم في إيجابياتهم والصمود في وجه أطماعهم. والوحدة الحقة هي التي تقوم لتدوم, ولتصل حاضر الأمة ومستقبلها بالمنعة والقدرة على منافسة الدول الأكثر تطورا ومنعة، وقد سبقتنا وكنا قبلها السباقين.

 

 

منح الصلح





ابتسامة تفاؤل تعكس إيمانا بالمباديء التي ناضل ناصر من أجلها





جمال عبد الناصر بريشة الفنان محمد حجي





توقيعٌ على الورق، وأحلام في السماء، وثقة شخصية مطلقة باسمين عربيين محبوبين: جمال عبد الناصر وشكري القوتلي