سر معركة " طلس " نقولا زيادة
أول مواجهة بين العرب والصين
هذه قصة معركة هادئة بين العرب والصين. استمرت يوما واحدا ولم تأخذ حظها من التأريخ، ومع ذلك تركت أثرا حضاريا هاما.
بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انساحت الجيوش العربية تفتح بلاد الشام وما إليها غربا، وأرض الرافدين وما جاورها شرقا، وبعد ثلاثة عقود كانت الجيوش المتجهة شرقا قد أتمت فتح العراق وإيران، لكن الحروب الأهلية التي لفحت دولة الخلافة بنيرانها أوقفت الفتح من جهة، وسمحت لبعض أولي الأمر في إيران أن يتفلتوا من القبضة الجديدة.
أعاد الحجاج هيبة الحكم في العراق، وعاقب الثائرين في خراسان (الجزء الشمالي من إيران) على يد نائبه المهلب بن أبي صفرة (78 ه/ 697 م) ثم اتجه نحو ما وراء النهر، وهي الرقعة من الأرض التي يحيط بها من الشمال نهر سيحون (سيراداريا) ونهر جيحون (أموداريا) من الجنوب، فاجتاز نهر جيحون، ويبدو أنه وصل طشقند في بعض غزواته، ولما توفي المهلب (82 ه/ 701 م) خلفه في الإدارة ابنه ثم أخو هذا، وأخيرا انتدب الحجاج قتيبة بن مسلم للعمل في خراسان (86 ه/ 704 م).
وقد نجح قتيبة، خلال سنة واحدة، في إعادة هيبة العرب إلى مكانتها ثم استعاد إقليم طخارستان (وعاصمته بلخ)، ثم اجتاز نهر جيحون ثانية لفتح ما وراء النهر من جديد، وكان الوليد بن عبدالملك قد تولى شئون الخلافة (86 - 96 ه/ 705 - 715 م)، وكان محبا للتوسع فشد أزر قتيبة في مخططه وحروبه فانتشر هذا فيما وراء النهر واحتل الصفد وهاجم فرغانة، وقد قال البلاذري عن قتيبة إنه هو الذي غرس العرب فيما وراء النهر، واتخذ له في الشاش (طشقند) مركزا للإدارة والحرب.
الطريق إلى الصين
ومع ذلك فإن وفاة قتيبة (96 ه/ 715 ه)، وتوقف اليد الجديدة عن الإمساك بالأمور أعادا إلى ما وراء النهر بعض ما كان فيها من اضطراب، لكن الأمر لم يفلت بالمرة، إلا أن الحجاج كان قد توفي قبل ذلك بسنة (95 ه/ 714 م)، وهذا ترك الأمور في تلك الأنحاء النائية على شيء من الهوان.
كانت الصين قد أخذت في التوسع نحو حوض تاريم أيام دولة تانغ (618 - 906 م)، وخاصة في أوائل القرن الثامن للميلاد، وقد توغل الصينيون فيما بعد حتى بحيرة إسك - كول، حيث تغلبوا على فئات من الأتراك، وبذلك وطدوا سلطانهم في المنطقة، وقد تم هذا بشكل خاص أيام الإمبراطور هسوان - تسونغ (713 - 756 م)، ومن ثم فقد كانت مواقعهم قريبة من مواطن العرب فيما وراء النهر.
وكان أن ظهرت في تلك المنطقة جماعات من قبائل تركية اسمها ثورغوش، فاغتنمت تشتت العرب، وتصدت لهم بعض الشيء، وكان أهل الصفد قد استجاروا بهؤلاء الأتراك لينقذوهم من العرب ففعلوا، ومن هنا أراد مسلم بن سعيد - وكان عاى جند ما وراء النهر - أن يوقفهم عند حدهم، فقاد حملة إلى فرغانة، ولكن الترك تغلبوا عليه في معركة العطش سنة 106 ه 724 م، وقد سميت هذه المعركة بهذا الاسم بسبب ما أصاب الجنود العرب من انقطاع الماء عنهم، إذ حال الترك بينهم وبين النهر.
وقد سولت لخاقان الثورغوش واسمه "سو - لو"، نفسه - وقد استقر الأمر له في فرغانة - أن يجتاز نهر جيحون لقتال العرب في معاقلهم، إلا أن أسد القرى الذي كان قد عين على خراسان لفترة ثانية، تصدى له وأوقع به هزيمة منكرة سنة 116 ه (أو 117)/ 734 م (أو 735)، وحدث بعد ذلك أن اغتيل الخاقان، فتفرق الثورغوش أيدي سبأ، ولم يعد في مقدورهم أن يؤذوا العرب.
مواجهة لا مفر منها
وقد أصبح توسع الصين الذي ألمحنا إليه قبلا، عبئا ثقيلا على مركز السلطة الصينية، بحيث أصبح من البين أن الحفاظ على هذه الدولة الممتدة فوق الحاجة لم يعد أمرا ممكنا، وزاد في صعوبة الموقف أن العرب أصبحوا في شبه مواجهة للصين، وكان الصدام بين الفريقين محتمل الوقوع في أي وقت.
وقد وقع الصدام فعلا في طلس (أو طرس) فقد اقتتل الفريقان - العرب والصينيون - على نهر طلس الذي كان يومها رافدا من روافد نهر سيحون (سيراداريا) وهناك في مجرى نهر طلس الأعلى آثار مدينة عرفت باسم طلس (أو طرس) (أو طرز) تقع على مقربة من مدينة أولاي - آتا الحالية، وقد كانت يومها على الطريق الذي كان يصل بين أسفيجاب (على نحو 130 كم إلى الغرب) ومركي أو بركي (على نحو 160 كم إلى الشرق) وطلس نفسها كانت في القرن الرابع/ العاشر مركزا عسكريا وتجاريا مهما.
ومعركة طلس كانت معركة يوم واحد تمت سنة 134 ه/ 751 م (أي في مطلع العصر العباسي) وانتصر فيها العرب على الصين في المعركة الوحيدة التي وقعت بين الفريقين، ولم يرافق القتال شيء من الحماسة والعنف اللذين عرفا عن عشرات من المعارك العربية. والعرب لم يتابعوا نصرهم، ولا حاول الصينيون أن ينتقموا لانكسارهم، فقد ظلت مركي (أو بركي) الموقع المتقدم للعرب في تلك الربوع لمدة طويلة. وحتى معركة بلاط الشهداء (تور أو بواتييه) التي وقعت بين العرب والفرنجة سنة 114/ 732 م كانت أعنف وأشد، ومع ذلك فثمة وجه للشبه بين المعركتين: في بلاط الشهداء كانت موجة الفتوح التي بدأت باليرموك وسارت عبر مصر وشمال إفريقيا وإسبانيا قد بلغت غايتها واستنفدت قوتها، فكانت خاتمة مطاف، صحيح أن معارك كثيرة تلت في تلك الجهات، لكنها لم تكن تتمة الموجة، كانت أمورا محلية.
ومعركة طلس بالنسبة للعرب كانت نقطة بلغت موجة الفتوح المشرقية عندها غايتها فلم تحدث زوابع ولا عواصف.
وأدرك الصينيون - فيما يبدو - أنهم يجب أن يكفوا عن العمل الحربي فلبوا نداء الواقع وتوقفوا عن الادعاء بأنهم يجب أن يضموا ما وراء النهر إلى إمبراطوريتهم الواسعة بل إن الأمر تعدى ذلك، إن مواقع الدفاع الأربعة وهي (خوطان وكشفر وكوتشي وقراشهر) عن الصين في تلك المنطقة انهارت، وبعد مدة خسرت الإمبراطورية الصينية ما يسمى داخل آسيا، ولعل تقوقع الصين وتجنبها العالم الخارجي (إلى أيام المغول تقريبا) يعود إلى انكسار جيشها أمام العرب في معركة طلس سنة 751. أما بالنسبة للعرب فقد جاءت هذه المعركة بعيد زوال الدولة الأموية وقيام الخلافة العباسية، فكأنها كانت أمرا ذكر أصحاب الحل والعقد والقول والرأي، بأن التغيير الذي حدث هو شيء حري بالتأمل الداخلي، وكانت طلس بعيدة عن عاصمة العباسيين ومشاغلهم، وقد اكتفى الحكام بأن ضمت ما وراء النهر إلى عالم الإسلام.
ولما قامت الدول المختلفة في ظلال الخلافة العباسية في المشرق الإسلامي، توزعت مراكز العلم على عواصمها، فكانت نجارى عاصمة السامانيين (204 - 395/ 819 - 1005) واحدا من أكبر هذه المراكز، وقد وضعت اللبنة الأولى لذلك حين ضم العرب ما وراء النهر نهائيا إلى دولة الخلافة.
المعركة وأثرها الحضاري
على أن معركة طلس كان لها أثر حضاري كبير في تطور البشرية.
كان الكاغد (الورق) المصنوع من القماش والخيوط وورق التوت معروفا في الصين، فهو من مخترعاتها، وقد كان أهل سمرقند يستعملونه للكتابة، ولو أن ورق البردي (البابيروس) والرق (الجلد الرقيق جدا) كانا الأساس في مواد الكتابة في العالم وحتى في سمرقند بالذات.
وقد أسر العرب عددا من الصينيين في معركة طلس، ومن المهم أن نذكر أن حاجة الدولة الصينية إلى العدد الكبير من الجنود كان يحتم عليها أحيانا أن تجند الناس لا أن تترك لهم أمر التطوع للجندية، ومن ثم فقد كان بين الأسرى عدد من مهرة الصناع، وبينهم جماعة من صناع الكاغد، وقد علم هؤلاء هذه الصناعة لأهل سمرقند، ولما أتقنت هناك نقلت غربا.
ويحدثنا الجغرافي العربي الكبير المقدسي أن طبرية ودمشق كانتا تنتجان الكاغد في أيامه (القرن الرابع/ العاشر).
ولنتصور الفائدة التي جناها العلماء والعرب أولا وغيرهم فيما بعد في مشارق الأرض ومغاربها، لما أصبح بإمكانهم الحصول على مواد الكتابة التي يرغبون فيها. ولنتصور ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن ما أصاب العالم العربي فقط من اهتمام بالعلم والتدوين كان يجب أن يقتصر فيه على أوراق البردي، القليل من جهة والثقيل الحمل من جهة أخرى.
وهكذا ظهرت آثار المعركة الهادئة في صناعة هادئة، لكنها بالغة الأهمية.