من المكتبة العربية.. مذكرات جزائري

من المكتبة العربية.. مذكرات جزائري

صدر في الجزائر أخيراً الجزء الثاني من «مذكرات جزائري» للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الوزير الجزائري الأسبق في عهدي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد. وقد حمل العنوان الفرعي لهذا الجزء «سنوات البناء 1965 - 1978» وهي ترمز إلى فترة بناء الجزائر المستقلة في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي عهد لصاحب المذكرات منصباً وزارياً في أول حكومة يشكّلها بومدين.

يقع الكتاب في 774 صفحة من القطع المتوسط، وهو مقسم إلى أربعة فصول بخلاف الملاحق والوثائق، وتتصدّره صورة لكاتب المذكرات إلى جانب الرئيس الراحل هواري بومدين وهما يتدثّران بـ«البرنوس» الجزائري الشهير.

والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي إلى جانب تقلّده العديد من المناصب المهمة والحقائب الوزارية المختلفة في الدولة الجزائرية على مدى ربع قرن، هو ذو شخصية عالية الثقافة وعميقة المعرفة وسليل عائلة عريقة، فهو ابن الشيخ البشير الإبراهيمي الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين، الشخصية الجزائرية المعروفة، والمناضل الكبير ضد الاستعمار الفرنسي.

وقد أثرت تلك المؤثرات الإيجابية في شخصية الوزير والمسئول أحمد طالب الإبراهيمي، فلم يصرفه المنصب الوزاري عن القراءة والمطالعة، ولم يغيّر زخرف الموقع وبهرجة المكان من الطبيعة الإنسانية للوزير. ولم يؤثر موقعه كمسئول في الدولة الجزائرية في الدفاع عن حقوق المواطن للحصول على حقوقه الأساسية في الحرية والعيش بكرامة معززاً في وطنه دون خوف أو وجل.

دقة التوثيق وتأثير الأب

أول ما يلاحظه قارئ المذكرات ويستوقفه هو هذا المستوى العالي من التوثيق والدقة التي طبعت منهج كاتب المذكرات لدى سرده للأحداث والوقائع المهمة التي شهدها وعايشها، فالإبراهيمي يدهشك بحرصه على تدوين وتبيان ما حدث في اليوم والتاريخ، ويعرض أسماء شهود الحدث، ولا يكتفي بذلك، بل يسوق المعطيات المرتبطة بالحدث، ويسوق الأجواء والظروف التي أحاطت به ويسجل مواقف أبطاله.

الملاحظة الثانية التي نلحظها من كاتب المذكرات هي مدى تأثر الكاتب بشخصية والده البشير الإبراهيمي الذي يعد بحسب المذكرات المنشورة الشخصية المحورية الأبرز في حياة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، فتأثير «الأب» على حياة وسلوك ومواقف الدكتور الإبراهيمي حاضرة حتى بعد وفاة الشيخ الوالد، ويظهر اسم الشيخ الوالد ظاهراً في أكثر من حادثة وموقف مر بها صاحب المذكرات، ولا عجب في ذلك، فالشيخ البشير الإبراهيمي من الشخصيات المهمة التي لعبت دوراً بارزاً في تاريخ الشعب الجزائري، وكان له دور في الخدمة العامة عبر ترؤسه لجمعية العلماء المسلمين في الجزائر، والتي قادت نضالاً ثقافياً وجهادياً علمياً للذود عن مكانة الإسلام واللغة العربية أثناء الاستعمار الفرنسي للجزائر.

وزيراً للتربية

كانت أول التحديات التي واجهها قطاع التعليم عقب الاستقلال هو تعريب التعليم والإدارة، فكما هو معروف، فقد حاول الاستعمار الفرنسي خلال استعماره الطويل للجزائر طمس الهوية الجزائرية واللغة العربية، وقد استعرض كاتب المذكرات الجهود المبذولة في التعريب وتبنيه مبدأ التدرج في التعريب سنة بعد سنة، حيث تم تعريب السنة الأولى في التعليم الابتدائي تعريباً شاملاً اتبع بتعريب السنة الثانية بالمستوى نفسه.

وفي الجانب الإحصائي يذكر الإبراهيمي أن مجموع الطلبة الجزائريين في السنة الأولى من الاستقلال بلغ 880.000 طالب في جميع المراحل.

ارتفع عام 1970 وهي آخر سنة للإبراهيمي في الوزارة إلى 1.398.000 أي أن العدد تضاعف ثلاث مرات خلال سبع سنوات.

ويوثق الإبراهيمي خلال توليه الوزارة افتتاح جامعتي وهران غرب البلاد وقسنطينة شرقها.

وزيراً للإعلام

عام 1971 انتقل الإبراهيمي إلى وزارة الإعلام والثقافة، ويبسط كاتب المذكرات رؤيته في ارتباط مسمى الإعلام والثقافة في وزارة واحدة، فهو يعتبر أن هذه التسمية الجديدة لها الفضل في الإلحاح على أمرين اثنين على الأقل: فمن جهة فإن هناك علاقة بديهية بين الإعلام والثقافة، ذلك أن الإعلام له مضمون ثقافي «وقد يكون له مضمون مضاد للثقافة»، وعليه يجب النظر إليه نظرة واعية، ثم إن الثقافة من جهة ثانية في حاجة إلى أن تنتشر انتنشاراً جيداً لكي تعرف الازدهار خاصة عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية المتمثلة في الصحيفة والإذاعة والتلفزيون والسينما.

ومن أعماله في وزارة الإعلام يذكر الإبراهيمي قيام وزارته عام 1971 بتعريب صحيفتين يوميتين هما «النصر» (الصادرة في قسنطينة شرق البلاد) و«الجمهورية» (التي تصدر في وهران غرب البلاد).

كما تولت وزارة الإعلام والثقافة في عهد الإبراهيمي إصدار مجلة الثقافة الموجهة للمثقفين. ومجلة ألوان، وتورد المذكرات بالأرقام والإحصائيات مدى التطور في الإعلام المرئي والمسموع في الجزائر، والتطورات التي جرت على مستوى توسيع تغطية البث الإذاعي والتلفزيوني ليبلغ أقاصي الجزائر بأريافها الواسعة وصحاريها الشاسعة، ويعرض أرقاماً لتطور المنتوج الثقافي الجزائري وارتفاع أرقام الطبع والنشر للكتاب في الجزائر.

الوزير المثقف

من المواقف التي مر بها مؤلف المذكرات مروره باختبار بين واجباته كمسئول ووزير وبين مبادئه التي يؤمن بها ويدافع عنها.

فقد حدث أن الرئيس بومدين اغتاظ ذات مرة بعدما قرأ قصة «الزنجية والضابط» للروائي الجزائري المعروف الطاهر وطار، وطلب من الإبراهيمي بصفته وزيراً للإعلام والثقافة أن يرد وطار إلى جادة الصواب.

عندها رد الإبراهيمي كمثقف لا كوزير بالقول «إن رقابة الدولة على الأعمال الأدبية والفنية ينتهي بها الأمر دائماً وأبدا إلى أن تنعكس آثارها سلبياً عليها. انظر إلى ما حدث في مصر عندما أريد منع كتاب علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وإلى ما حدث في فرنسا عندما أريد محاكمة «أزاهير الشر» و«مدام بوفاري».

لم يقلل ذلك أبداً من شأن علي عبدالرازق، ولم يمنع بودلير وفلوبير من أن يعتبر الأول منهما أكبر شاعر، والثاني أكبر روائي في فرنسا، وأرجوك أن تصدق بأنه بعد ثلاثين سنة، فإن قليلاً من الجزائريين سيتذكرون أسماء الوزراء الحاليين، بل على العكس من ذلك سوف يواصل الناس قراءة روايات الطاهر وطار، والإعجاب بلوحات الفنان محمد راسم، وترديد أغاني المطرب رابح درباسة. وفي النهاية، فإن الفنون والآداب هي الوحيدة القادرة على قهر الموت».

مستشاراً للرئيس

في الواحدة ظهراً يوم 9 أبريل 1977 استقبل الرئيس الراحل هواري بومدين كاتب المذكرات، ليبلغه قراره بنيته إجراء تعديل وزاري يقترحه وزيرا للعدل في الحكومة الجديدة. إلا أن الإبراهيمي اعتذر عن المنصب لدواعٍ أخلاقية إنسانية، وعن ذلك يورد الإبراهيمي رده على الرئيس بقوله: كيف يمكن أن أنام قرير العين إذا ما سجن مواطن بغير وجه حق, أو ما إذا حكم بالإعدام ظلماً على شخص ما؟ وأنا كمواطن أعارض الحكم بالإعدام إلا في الحالات القصوى. وألح الإبراهيمي على الرئيس أن يسمح له بالابتعاد عن العمل الوزاري المرهق.

وبعد مرور أسبوعين على هذا اللقاء، وإصرار الإبراهيمي على رفض عرض الرئيس بالرغم من الوساطات المرسلة له لتغيير موقفه، استدعاه الرئيس بومدين المنزعج من تأخر التشكيل بسبب موقف الإبراهيمي، عندها قال بومدين لن تخرج من هنا قبل أن يتم تعيين وزير للعدل، إذا لم يكن أنت فقدم لي اسماً مقترحاً، فاقترح عليه الإبراهيمي عبدالمالك بن حبيلس، وعندها انتهى الإشكال.

إلا أن بومدين وبالرغم من يأسه من انضمام الإبراهيمي للتشكيل الحكومي، فلم يقبل بابتعاد الإبراهيمي، فطلب منه البقاء إلى جانبه من منصب أنشأه خصيصاً له، وهو منصب وزير مستشار للرئيس، وهو منصب فيه الكثير من الراحة.

مصارحة نادرة

تكشف المذكرات عن نقاش تاريخي ونادر تم في زيارة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين إلى كوريا الشمالية في عهد رئيسها السابق الدكتاتور كيم إيل سونغ، وكان تاريخ الزيارة في الثاني من مارس 1974، وقد شاهد الوفد الجزائري مظاهر عبادة الفرد ولاحظ درجة التقديس للرئيس، عندها بادر الرئيس الجزائري الرئيس الكوري الشمالي بالقول «سيادة الرئيس ألست محرجاً من تقديس الشخصية الذي لاحظناه منذ وصولنا. صورتكم معلقة في كل مكان، بل وحتى على صدور المسئولين الذين قابلناهم».. لم يتخل الرئيس الكوري عن هدوئه، فأجاب دون تردد: «أنت ترى يا سيادة الرئيس، أني أمثل بلداً صغيراً محصوراً بين عملاقين اثنين لن يحرما نفسيهما من شهية ابتلاعي، ولهذا السبب، فإن الطريقة الوحيدة لمقاومة محاولة مثل هذه هي تغذية عبادة الشخصية».

-----------------------------------

وصف الدّنيا كثيرون
ولـكن ما أصابـوا
إنما عندي في تصو
يرها القولُ الصوابُ
هي حسناء ولكن
صـبّها ليس يُثابُ
شرها لابد منه
عن هـواها لا يُتاب
قبحها يطري وأما
حُسنها فـهو يُعابُ
هي في العينِ عجوزٌ
وهي في القلبِ كعاب
إنها شمطاءُ في نظرَ
تِها يزهـو الشـبابُ
حلوها في الفم عند
الـبذلِ بالمرّ يُشابُ

جميل صدقي الزهاوي

 

 

 

أحمد طالب الإبراهيمي