من المكتبة الأجنبية.. مصرفي إلى الفقراء

من المكتبة الأجنبية.. مصرفي إلى الفقراء

لم تكن تجربة محمد يونس في بنغلادش أمراً عادياً يمكن أن يمر مرور الكرام، إنما تمثل تغيراً كبيراً في عدد غير قليل من المفاهيم والمبادئ في علوم الاقتصاد والاجتماع والإدارة وهذا ما يجب الوقوف عنده ملياً ليس من باب التعرف على التجربة ومحاكاتها وإنما في كيفية توظيف الأسس والمفاهيم التي جاء بها محمد يونس ومحاولة الاستفادة منها في قضايا عامة أخرى تأكل المجتمعات النامية واقتصاداتها، مما يشكل مدخلاً حديثاً لمعالجة كم كبير متراكم من المشكلات وهذا لا يمكن أن يحدث بسهولة ويسر وإنما يحتاج إلي عمل طويل وشاق ومستمر والأهم من ذلك إيمان مطلق بخيار التغيير فهو الخيار الوحيد.

نشر محمد يونس كتابه الموسوم «مصرفي إلى الفقراء» في سنة 1998 وأعيد نشره في سنة 1999 ومن ثم أعيد سنة 2003 ولم يتسن لي الاطلاع على هذا الكتاب بطبعاته الثلاث إلا أخيراً لأسباب كثيرة منها عدم اهتمامي بالموضوع آنذاك، وقد استطعت قبل أسابيع أن أحصل على نسخة ورقية إضافة لتوافر النسخة الإلكترونية على أحد مواقع الإنترنت وقد انهمكت في قراءته وبشغف كبير، والأهم من هذا تلك المتعة التي تملكتني أثناء قراءة الكتاب، ويبدو أن مصدرها الأسلوب اللطيف الذي عرض الكاتب به الكتاب والسمة الإنسانية التي اتسم بها العمل، ولا أنسى أمراً آخر كان يشدني للقراءة هو حالة توظيف ما جاء به محمد يونس على مشكلات بدت مستعصية في عدد من الدول النامية والمقاربات التي كنت أقارب بها ذهنياً وأنا أقرأ لحالات في عدد من الدول وحالة بنغلادش إبان المجاعة والموت الجماعي.

إن أهمية المشروع الذي جاء به محمد يونس تتمثل في كونه مشروعاً عالمياً يطبق في أكثر من 60 دولة نامية وهناك من يقول 100 دولة، والأهم من ذلك أنه ركز على الائتمان الصغير جداً أو على الائتمان الجزئي الصغير وهو ما يتوافق مع التطورات العلمية الكبيرة في مجال التركيز على الجزيء في العلوم الطبيعية الكيمياء الجزيئية والبيولوجيا الجزيئية والتي تقع في إطار التكنولوجيا النانوية التي يتم استعارتها الآن في مجالات عديدة ومنها إدارة الأعمال بوصفها منهجاً حديثاً يركز على التفاصيل الجزيئية في العمليات الإدارية، ومن هنا يمكن القول بأن محمد يونس قد سبق عصر التكنولوجيا النانوية والجزيئية بعقود.

ركز الكتاب في عرضه على قصة محمد يونس منذ نشأته ودراسته ومن ثم بعثته للولايات المتحدة بعد حصوله على زمالة فولبرايت، وحصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة فانديربلت Vanderbilt University في الولايات المتحدة الأمريكية وبداية مشروعه في مدينته جوبا في بنغلادش حتى تحقيقه النجاحات تلو الأخرى في مشروعه.

يقع الكتاب في 313 صفحة من الحجم الوسط وتضمن في البداية تقديما للكاتب، فيما قسم الكتاب إلى 7 أقسام وانتهى بعدد من الملاحق، فكان القسم الأول قد تناول البداية 1940 1976 تناول فيها تسعة عناوين كان أولها بمنزلة توصيف للقرية التي بدأ منها Jobra Village وليكون العنوان «قرية جوبرا من كتاب مقرر إلى الحقيقة»، ليعقب ذلك بالحديث عن البنك الدولي في واشنطن 1993، منتقلاً للحديث عن مدينة Chittagong التجارية ذات ثلاثة الملايين نسمة وأكبر ميناء في بنغلادش، وبعد حديث طويل يعرض فيه رحلته خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

أما القسم الثاني والذي عنونه بـ «المرحلة التجريبية 1976 1978» ويبدأ بعنوان مثير ومحور رئيس في نجاح تجربة محمد يونس «لماذا إقراض النساء بدلاً من الرجال؟» و«كيف تصل القروض إلى النساء المقترضات؟» و«كيف هو عمل النساء في المصرف؟» ويسترسل بعرض تفاصيل وآليات التواصل بين كل تلك التفاصيل وبعضها، ومنها آليات إعادة القروض وعقد المقارنات، ويشرح كيف أصبح مصرف جريمان، بوصفه تجربة رائدة، فرعاً من المصرف الزراعي. ويضيف المزيد عن علاقاته الخاصة بعائلته ومساهماتها.

الفقر في غياب الاقتصاد

تناول القسم الثالث جوهر الموضوع فكان بعنوان «الخلق 1978 1990» وكيف هيأ للعمل عبر خطة تواجه كارثة طبيعية، وكيف أن كوادر المصرف كانت بحاجة ماسة إلى التدريب وولادة المصرف الفعلية واستقلاليته، أعقب ذلك القسم الرابع الذي ركز فيه الكاتب على اتساع التجربة واستنساخ تجربة مصرف جريمان وتطبيقات محمد يونس على المستوى الدولي ويعرض لمقارنة مفيدة، فيما جاء القسم الخامس بعنوان «الفلسفة» وشمل 23 صفحة وبخمسة عناوين كانت مضامينها اقتصادية واجتماعية وسكانية وما يمكن أن يفعله الفقر في ظل غياب الاقتصاد، وهكذا تابع الكاتب القسم السادس عن الأفاق الجديدة بين 1990 1997 وشمل التوسع نحو القروض السكنية والصحية والتقاعدية والتعريف بالتقنيات الجديدة لمصرف جريمان تجاه الفقر. واختتم الكتاب بقسمه السابع الذي عنونه بـ«بالعالم الجديد» والذي افتتح بعنوان: كيف يساعد العالم الأكثر فقراً وكيف أن 100 مليون فقير قد وصلتهم القروض الصغيرة، وانتهى الكتاب ببعض الملاحق.

مضامين مهمة

بعد هذا العرض الموجز لابد من طرح سؤال غاية في الأهمية لا يمت لتجربة محمد يونس في مصرفه، وإنما يركز على الفائدة التي يمكن اكتسابها من تجربة محمد يونس وما هي المضامين القيمية التي يستفاد منها في مختلف مجالات الحياة؟

وبعد قراءة الكتاب واستيعابه لابد من إظهار عدد من القضايا التي تنخر مجتمعات الدول النامية ومحاولة الاستفادة من تجربة وإبداع محمد يونس في حل مشكلات خطيرة في مجتمعات الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.

إنّ قراءة ما جاء به محمد يونس يضعنا أمام عدد من المضامين المهمة وهي أولاً : الفهم الواضح والعميق للمجتمع فما كان لمحمد يونس أن ينجح في مشروعه لو لم يكن مدركاً لكل الحلقات والتفاصيل للمجتمع الذي ولد فيه وترعرع بين ظهرانيه، وأنه حال ما حاق بذلك المجتمع الجوع والموت أدرك محمد يونس أنّ دوره يكمن في هذا الزمان والمكان، والأهم من هذا ثانياً: تكريس قيم العمل في المجتمع البنغالي ومساعدته على مساعدة نفسه بنفسه والابتعاد عن المطالبة والتشكي، وما يحسب لمحمد يونس أنه ركز على النساء من دون الرجال فكان هذا إيذاناً بتغير عميق في القيم والتقاليد المجتمعية والتي تكون عمليات التنمية هي أحوج ما تكون لها، وثالثاً: أن التجربة أبدعت في مجال نقل التطبيق والتطوير في العلوم بعيداً عن الانغماس في النظريات والنماذج الاقتصادية الكمية الرياضية والإحصائية ودونما غرق في طلاسم ورموز لايفهمها حتى الاقتصاديون أنفسهم، وذهب باتجاه الميدان وتوظيف الخبرة العلمية في مساعدة أناس قاب قوسين أو أدنى من الموت، فكان توظيفاً رائعاً لآلية باتت تعرف بالائتمان الصغير والصغير جداً والمتناهي الصغر، وعندها يكون محمد يونس قد تقارب مع ما ابتدعته أرقى النظريات العلمية ما بعد القرن العشرين، وهي الظاهرة الجزيئية النانونية في مختلف العلوم الكيميائية والبيولوجية وغيرها، وهذا ما يشير إليه محمد يونس على صفحات كتابه وهو يدخل تفاصيل حياة الناس والعائلات في مدينته والقرى المحيطة بها ويقول إن مذكراته تحتوي على أكثر من مليوني قصة مرعبة ومخيفة مضامينها الجوع والفقر والموت.

إن الدروس المستفادة من تجربة محمد يونس عبر العقود الأربعة الأخيرة وحصوله بجدارة على جائزة نوبل في الاقتصاد لابد أن تعد منطلقاً لمنهجية جديدة للعمل مستندين إلى تجربة الرجل وكفاحه وصبره وكيف أنه آثر العمل الميداني على أن يكون أستاذا لامعاً في الجامعة مثل الكثير من الأكاديميين من الاقتصاديين وغيرهم ومن يقضون عقوداً من الزمن في البحث والكتابة والتدريس ولكنهم لا يشبعون جوع طفل رضيع. إنَ تطبيق منهجية محمد يونس واستلهام تجربته يمكن أن يخلصا المجتمعات النامية ودولها من عدد غير قليل من المشكلات التي تعصف بها سواء في التربية والتعليم أو في الصحة أو ربما في محاربة الفساد أو في قطاعات ونشاطات المجتمعات الأخرى.

إن عمل الرجل ليل نهار ولعقود من الزمن في ظل بيئة تعصف بها المجاعات والبؤس والموت وتعرضه للمزيد من المخاطر وإصراره على تنفيذ مشروعه من خلال إقناع الآخرين أياً كانوا يعد عملاً نابعاً من إيمان وإدراك للدور الذي وضعه لنفسه من خلال رؤية إستراتيجية واضحة ليحقق لمجتمعه والإنسان فيه حقاً طبيعياً وهو حق الحياة والعمل.

-----------------------------------

قد سقتني الشهد من
فِيها فأغراني الشراب
وطلبت الوصلَ ملحاحاً
فـأعـيـانِي الطِلابُ
قد طلبتُ الماءَ أعدو
وإذا المـاءُ سراب
ذهب الماءُ وفي
القلبِ إلى الماء لهابُ
أعرضت دنياي عني
ما على الدنيا عتابُ
وكأن الحب ذنبٌ
وكـأن الصدقَ عاب ُ
وكأن الشيب لي
منها على ذنبي عقابُ

جميل صدقي الزهاوي

 

 

 

محمد يونس 




غلاف الكتاب





محمد يونس مع إحدى المستفيدات من بنك الفقراء





المصرفي محمد يونس





طبعة آخرى للكتاب