إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

لنمنح كتابتنا مروقًا جميلاً...

عادة، ونحن ندبج الشهادات أو نترصد شوارد الكلام لتأثيث نصوصنا الإبداعية، لا تستهوينا فكرة الحكي أو الحديث عن تجاربنا كذوات مبدعة إلا من خلال حضور حالتي البكاء والمناحة، وتضخم الإحساس بقدرية مفجعة تترصدنا، وبانفجار نبرة كافكاوية تغلف كلماتنا، وبانهمار صوت أنثوي دائم التذمر والشكوى من سلطة بطريركية، وحيف وإقصاء ذكوري، سواء كان أبا أو زوجا أو أخا أو ناقدا، لدرجة عيرنا بضعفنا وبتقوقعنا في ذواتنا هربا من الواقع، وبتجاهلنا لقضايا إستيطيقية وإنسانية كفيلة بجرف متاريس أنانيتنا.

صحيح أننا كنا في البداية متعطشات للبوح ولرفع عقيرتنا بالشكوى ولملمة أشلاء ذواتنا المتشظية، بعد تاريخ من التغييب والإلغاء، لدرجة غدا الرجل بؤرة اهتمامنا والكوكب الذي تحوم في فلكه كل انكساراتنا وهزائمنا وخيباتنا وأحلامنا وسعادتنا وألمنا، لكن هذه النبرة أو اللغة بدأت تتسخ من كثرة الاستعمال كما يقول الماغوط، وآن الأوان لتقمص دور آخر غير دور الضحية، وطرح أسئلة جديدة، كسؤالي الإبداع والجمال في أبهى تجلياته، والتفكير في استعادة إنسانيتنا المستلبة في ظل سطوة المال وغطرسة السرعة وقسوة الآلة، وإن استلزم الأمر أحيانًا الكتابة بنبض الأنثى المنتشية بجسدها وخصوصيتها، دون الخوف من السقوط في فخ التصنيفات الواهية، آن الأوان لتجديد علاقتنا بالكتابة لتغدو علاقة انتشاء وحرية وغواية ومتعة، بعدما كانت علاقة ألم وبكاء وشكوى. ولنحرر أجسادنا من كل الأصنام التي عبدناها طويلاً كي يتحرر قلمنا، ولنمنح كتابتنا مروقًا جميلاً نستلذ به، ولنمارس الكتابة تمردنا الهادئ والمهادن، تمرد ضد صمت الواقع وبشاعته وزيفه وابتذاله، وضد خطابات متوارثة كبلتنا وأرهقتنا، تمرد ضد آلة اليومي وقيم برجماتية ومنظومة قيم مترهلة، وضد عين ذكورية طالما تجاهلتنا، ولنمارس حقنا في المتعة والغبطة والغواية والشوق في حضن كتابة لا تضيق بجنوننا وبوهيميتنا وانزياحاتنا، «فالعالم ينزع إلى الجمال» كما يقول باشلار، فلنحتف بالجمال، بذواتنا، بإنسانية الإنسان، وبالإيروس خيانة لقبح العالم، ولنحترق، وعوض أن نجعل جسدنا غذاء للهب، فلنجعل عشقنا وهوانا غذاء له، كما يقول الغزالي، ولنجعل كتابتنا نارًا تلتهم قارئها عند كل إطلالة، ولا بأس وإن تماهينا في عشقنا السري في كهف مهجور قصي خيانة لـ«المدن الضخمة» حسب بودلير، تلك التي تنوي وأدنا، تنعشنا فقط مزهريات الدهشة، تسكننا رعشة المستحيل والمجهول واللانهائي، يؤلف بيننا تناغم خفي يذيب كل تناقضاتنا وفوضانا وشطحاتنا، ولنمارس عشقنا السري باللمح والإشارة خيانة لكل تصريح أو وضوح.

واغفري لي أيتها الكتابة إن استحضرت أصواتًا وأصداء محجوبة وروائح تنسرب من بين شقوق الزمن، ليس خيانة لك، فقط كي يسري في شرايين عشقنا دم متجدد، متحرر، خيانة لكل رتابة وجاهزية ولكل ضجر وملل، ولا يهم أن نقيم عقدا يثبت شرعية علاقتنا، فالعقد في الشعر هو إلغاء العقد كما يقول دريدا، فعقدنا صدق ينطلق من القلب ليصل إلى القلب حسب الجاحظ، عقدنا صفاء نقيم فيه، حرية ننتزعها بهدوء. عقدنا نرفانا نعرج إليها، عقدنا وعد صريح بعدم الهجر والمجافاة، عقدنا إصرار على مقاومة غربة الذات وعزلتها.

 

 

إكرام عبدي