لقاء بالعمر كله محيي الدين صبحي

من دفتر الذكريات

الحياة مجموعة من الخبرات المتنوعة، وليس بالضرورة أن تتشابه وتتكرر، إنما كثير من الخبرات منفردة تضيف معنى جديدا للحياة، وتعطيها لذة التراكم، وقد اختارت "العربي" مجموعة من المتميزين العرب ليروي كل بطريقته الخاصة بعضا من ذكرياته التي أصبحت دروسا في الحياة.

كان أبيض أزهر أكحل، طويلا رشيقا جهير الصوت طلق المحيا، معتدا بعروبته وكفاح أجداده، فهو من نسل الجزائريين الذين قارعوا فرنسا ثم انسحبوا مع الأمير عبد القادر إلى دمشق، ذاك هو سعيد الجزائري، ذواقة الشعر، طلقة الفكر، عاشق الإبداع ومكتشف المواهب.

كلهم طلعوا من صفحات الجرائد والمجلات التي عمل فيها، كلهم دون استثناء كبيرهم وصغيرهم: جميل صليبا، ميشيل عفلق، فؤاد الشايب، شاكر مصطفى، وجميع قصاصي سوريا: عبد السلام عجيلي، سعيد حوارنية، وليد المدفعي، زكريا تامر، ياسين رفاعية. وجميع شعرائها: عمر أبوريشة، شفيق جبري، نزار قباني، وصفي القرنفلي، عبدالباسط الصوفي، نديم محمد.. وغيرهم وغيرهم ممن لا يزالون ملء السمع والبصر في الأدب العربي المعاصر بنتاجهم أو بذكراهم.

وقفت أمامه وجلا أجيل الطرف لكيلا أجابهه. كان جالسا وراء مكتب أنيق في غرفة صغيرة تتسع لأريكتين وديوان. من هذه الغرفة كان يشع كل الإبداع السوري طيلة عقد الخمسينيات، على صفحات مجلة "النقاد" التي كان مديرا لتحريرها، وفيما كنت انظر حولي كان صوته يتدفق بمزيج من رجولة الكهل المحنك، والمثقف المحكك، والمعجب المشفق:

- أنت الأستاذ محيي الدين صبحي إذن! أهلا.. أهلا بالأستاذ محيي الدين، تفضل استرح، كنت أسأل عنك معجبا بما نشرته لك، أنا أحب أن أتعرف على الموهوبين من الشبان. لم أكن أظنك شابا تماما. كتابتك أكبر من عمرك. هكذا يفعل النقد الأدبي، يزيد في عمر أصحابه، يحتاج إلى موازنة بين العقل والحساسية مما يجعل صاحبه يبدو كبيرا على الورق (وضحك).

بدأنا نترشف القهوة، كانت فاخرة، وكان يتابع:

- أخي محيي الدين أنت كاتب، الشاب الموهوب تظهر على حروفه خملة مثل خملة المخمل، ولكن يجب أن تستمر في الإنتاج حتى تصير كاتبا، ويجب أن تستمر في الثقافة حتى لا تنقطع. علة أكثر كتابنا أنهم يبدأون بمستوى أعلى مما ينتهون إليه. هل تريد أن تحترف الكتابة؟ تعال انظر من هذه النافذة، هل ترى الناس في الشارع؟ هؤلاء لا علاقة لك بهم.

علاقتك كناقد، ستكون مع الذين يكتبون وينشرون معك في المجلات، لا تتوهم.. الكتابة غير مربحة، لن تكسب غير الأعداء، لكن الناقد الحق نزيه بطبعه. سأكون مساء في مقهى الهافانا بعد السابعة. أدعوك للسهرة معي، بالمناسبة إذا كان لديك شيء جاهز للنشر هاته معك.

ذاك المساء من صيف 1956 كان البداية الفعلية لحياتي الأدبية. فقد اجتمع في المقهى على طاولة سعيد الجزائري نزار قباني وعبدالسلام العجيلي ووليد المدفعي. بعيد التاسعة انتقلنا إلى مطعم صغير أنيق حيث عرج على المائدة عبدالباسط الصوفي وإبراهيم كيلاني فمرا مرور الكرام.

كان هؤلاء أعلام الأدب والفكر في سوريا. وكان من كرم النفس في سعيد الجزائري أن يقدم إلى هؤلاء المشاهير شابا لم يتجاوز العشرين. ومن هذه الجلسات الغنية بالمترف من الشعر والفاره من الفكر عرفت أن الحياة الأدبية ليست أن تكتب وتقرأ لوحدك، بل يرافق ذلك ظرف الحديث ولطف المعشر وطرافة المناقشة وحضور البديهة وأناقة المجلس وحلاوة المنادمة.

رحم الله سعيد الجزائري فقد كان ذلك كله وأكثر منه وأكبر.

أما المقالة التي استحقت الثناء من نقادة ذواقة مثل سعيد الجزائري فكانت تحليلا لقصيدة أمين نخلة "القصيدة السوداء" من ديوانه دفتر الغزل وكنت أمضيت شهورا أتملى ما فيه من أناقة الكلم وحسن النظم ورقة النغم. فقد كان في أبياته شيء من موسيقى الكون التي تربط أرضنا بالكواكب. وكان يناجي كل ما في الطبيعة، يسحرها بنداءاته، ويأخذ بلببها في تقسيمات جمله الصغيرة الموقعة:

لا تعجل، فالليل أندى وأبرد

يا بياض الصباح، والحسن أسود

ليلتي ليلتان في الحلك الرطب

فجنح مضى وجنح.. كأن قد

ففي هذا المطلع من صنوف الحسن ما يعز على الحصر أنه يناشد بياض الصباح أن يتأخر لأن الحسن أسود، وليلته ليلتان: الزمان الذي يخيم فيه الظلام والذي أوشك أن ينقضي، وهذه الزنجية السوداء "في الحلك الرطب" وقد أوشكت أيضا أن تفارقه بعد أن أضفى عليه بهاؤها آلاء من الحسن الفريد.

سحر المطلع يأتي من التحولات: الليل الحالك يتجسد في امرأة سوداء، والمرأة تشف كالأثير حتى تتحول إلى زمان شفاف تطرزه النجوم والغيوم فتغدو شجرة. ويتحول الشاعر طفلا يتسلق أغصانها ويقطف الثمار:

وكأني على الغصون، من اللين

وهز الثمار، ما تتأود

فجأة تنقلب الحظوظ، فيغدو الشاعر عبدا يشقى لإسعاد معبوده، وهذا الجمال الأسطوري المتحول يرهق الشاعر، ويتوعده ثم يستفرغ جهده وطاقته:

ست، نحن العبيد، في مجدك الأسود

أهل البياض، نشقى ونسعد

من حوالي فرقيك، في مسحة الطرة

شيء كأنه يتوعد

من خلال التحولات تطل المرأة المرعبة، المرأة المفترسة التي يخشاها الرجل ويفتن بها، وكلما زاد ذعره زاد افتتانه؛ لأنها تتملص منه فيما تسيطر عليه وتجذبه:

يشهد اللين والملاسة والزلق

بأني في غير ما متوسد

عند ذروة القصيدة تتلاقى ذروتا الخيال والتعبير لكي يكتمل التحول السحري في القصيدة، التحول الذي تلتهم فيه المرأة الرجل: تحوله إلى صبي عابث ثم رجل خائر القوى وفريسة متهاوية، لكنه بعد استكمال التجربة لا يلبث أن يولد من جديد.

طولي، ليلتي، على المرمر الرخص

وفي اللمح من سواد الزبرجد

مهرجان لنا، ونهزة سعد

تحت ستر الدجى، وزاد مزود

لك كانت أولى محاولاتي في النقد الأدبي، وذلك كان أول لقاء مع سعيد الجزائري، المعلم والصديق.