جمال العربية

جمال العربية

عبدالرحمن الخميسي
المبدع الشامل والفنان المتمرد

أما أنه مبدع شامل، فلأن موهبته اتسعت لألوان من الإبداع الفني والأدبي لم تجتمع لغيره. فهو شاعر، وقصاص، ومؤلف مسرحي، وكاتب صحفي، ومؤلف إذاعي. وهو ممثل ومخرج وعازف وصاحب فرقة موسيقية، ومكتشف لكثير من المواهب الفنية والأدبية، من بينها على سبيل المثال: سعاد حسني ومحرم فؤاد، وهي مواهب كُتبت لها الشهرة وذيوع الصيت.

وهو فنان متمرد لأنه اعتنق الفكر اليساري منذ بداياته المبكرة، وهو الفكر الذي صبغ عالمه القصصي والشعري، وجعله في طليعة المناضلين من أجل تحقيق العدل الاجتماعي ومواجهة الظلم الواقع على الإنسان بسبب الفوارق الطبقية، مؤمنًا بالعمل من أجل تغيير المجتمع، والثورة على الأوضاع التي سبّبت الظلم والفساد والخنوع. وقد سبب له هذا الفكر، بعدًا عن الاستقرار في حياته، التي أصبحت حياة قلقة، مضطربة، يتعرض خلالها للسجن والاضطهاد والمطاردة، وترْك الوطن، ومعاناة الغربة والاغتراب، بعد أن ضاقت به مصر. وكان ارتحاله إلى عدد من بلدان العالم العربي، قبل أن يستقر لسنوات طويلة في الاتحاد السوفييتي (روسيا الاتحادية الآن ) ويكون له نشاطه الأدبي والإعلامي، الذي تُوّج بحصوله على وسام لينين للسلام.

وعلى مدار حياته التي استمرت سبعة وستين عامًا (1920 1987) استطاع الخميسي أن يبدع عددًا من مجموعات القصة القصيرة، وديوانين اثنين هما «أشواق إنسان» و«دموع ونيران»، يتوهجان بشاعرية ثورية غاضبة متمردة، في إطار رومانسي، هو إطار رفاقه في جماعة أبولو، الذين سبقوه إلى الاتجاه الوجداني، واختلف هو عنهم بمضمون شعره الوطني، والاجتماعيّ، الحادّ النبرة والصارخ الأداء.

وقد أتاح له تمرسه بالعمل الصحفي طويلاً، مشرفًا على الصفحة الأدبية لجريدة «المصري» باعتباره يمثل الطليعة الوفدية ذات الاتجاهات التقدمية والثورية، وتمرّسه الكبير بالكتابات الإذاعية والمسرحية، لغة قادرة على النفاذ والوصول إلى المتلقي من أيسر سبيل، وحسًّا جماهيريًّا يوجهه إلى اختيار مفردات هذه اللغة وتعابيرها وتراكيبها اختيارًا ذكيًّا ومؤثرًا.

وبالرغم من أنه لم يتلقَّ إلا تعليمًا متوسطًا، إلا أن اتصاله العميق بمثقفي عصره وأدبائه ومفكريه، وتعدد مجالات إبداعه واهتمامه وإسهاماته، حقق له سقفًا ثقافيًّا عاليًا، ورصيدًا من التكوين الفكري والفني، وقدرة واسعة على الحركة والمشاركة، وتبني المواقف المتسمة بالمعارضة والرغبة في التغيير. كما ساعده صوته العميق القرار، ونبراته القوية الواضحة، وأداؤه الإذاعي والمسرحي، على أن يضاعف من تأثير شعره في وجدان متلقيه، باعتباره واحدًا من المؤدين الكبار في خمسينيات القرن الماضي وستينياته.

يقول عنه الشاعر والكاتب كامل الشناوي في تقديمه لديوانه الذي يضم مجموعتيه «أشواق إنسان» و«دموع ونيران»: «كلما تذكرت حياة الخميسي تذكرت كلمة الفيلسوف الألماني نيتشه: ليكن شعارك في الحياة أن تعيش في قلق، وأن تقيم بيتك فوق بركان».

ويقول عنه أيضًا: «ترك الخميسي الشعر فترة طويلة من الزمان، فاشتغل بالصحافة والإذاعة والتمثيل، وعالج القصص القصيرة، وكتب بحوثًا في النقد الأدبي، ولكن الشعر لم يتخلّ عن الخميسي».

آخر الرومانسيين

أما الناقد الدكتور لويس عوض فقد كتب عنه يقول: «فالخميسي إذن هو آخر الرومانسيين في الأدب العربي الحديث، ولقد أخذ الرومانسية عن كهنتها الحقيقيين في بلادنا، فتعلم ألف بائها على خليل مطران وأدباء المهجر، وتعلم قواعدها على زكي أبو شادي وفي مدرسة أبولو، ولكن الذي عمّده بنار الحب الرومانسي هو في اعتقادي أستاذه وصديقه إبراهيم ناجي».

ثم يقول: «أما تطور الخميسي من الوجدان الخاص إلى الوجدان العام فهو واضح من تغير مضمون شعره تغيرًا كاملاً. فشعره الأول شعر غنائي، يتحدث عن تجارب إنسانية فردية، كالحب وعذابه، وتحدّي خطوب الدهر. وشعره الأخير يتحدث عن تجارب إنسانية عامة كالشوق إلى الحرية والكفاح في سبيلها والاستشهاد من أجلها، فشعره الأول إذن يعبر عن الوجدان الفردي الخاص، وشعره الأخير يعبر عن الوجدان الجماعيّ العام».

ويرى الناقد الدكتور محمد مندور أن الخميسي شاعر وجداني في كلّ شعره، سواء كان الوجدان ذاتيًّا أو جماعيًّا أو قوميًّا، وأنه قد بلغ بشعره حدّ السحر، كلما تحدث عن ذاته وأشواق روحه وآماله وآلامه كإنسان.

يقول عبدالرحمن الخميسي في قصيدة عنوانها «الماضي»:

حوّلي عينيْكِ إني لا أُطيقْ
ما تصبّانِ بنفسي من حريقْ
حوّلي عني سطوعًا فيهما
قد أراني الجرح في غوْري السّحيقْ
حوّلي عني سماءً فيهما
طيرُها قلبي، ونجواها خفوقْ
حوّلي عني لهيبًا فيهما
لفحْهُ يوغلُ في مسرى العروقْ

***

حوّلي عينيْكِ يا قاتلتي
أنا لا أَقْوى على ما فيهما
ليت لي القوةَ أستنزفها
في معاناة المنايا منْهما
ليت لي القوة، لكنْ ما نجا
في احتمالي رمقٌ أو سلِما
ما نجا لي رمقٌ يُسعدني
أن أُضحّيه ذبيحًا لهما

***

حوّلي عينيْكِ يا قاهرتي
واسمعي القصة تنْدَى بالدماءْ
قد نبشْتُ القبر فاصْحُ الآن يا
ماضيَ الحبِّ قتيل البرحاءْ
واغتفرْ لي أنني قد هتكَتْ
فَأْسيَ الحرمةَ في وادي الفناءْ
أيها الماضي أفقْ واخطرْ كما
شئت بالأكفان في هذا الفضاءْ

***

أيها الماضي أفقْ واقذفْ بما
فيك من هولٍ إلى مرأى العيونْ
كلّ يومٍ فيك كأسٌ ملْؤُها
دمُ قلبٍ ونفُاثاتُ طعينْ
وثوانيك شجونٌ رزَحتْ
تحْتها مهجةُ غِرِّيدٍ أمينْ
سَقرٌ أنت، وقد كابدْتُها
في نعِيم الحبِّ فياضَ الشئونْ

***

أيها الماضي أفقْ واجهشْ بما
فيك من رعد البلايا والعذابْ
كي تُريها ما بأيامكْ من
حُرقات ودموعٍ وسرابْ
جثة أنت وقد مزَّقها
سوط حرمان شبابٍ من شبابْ
اسلخ الأيام من ظُلمتها
تتساقطْ حوْلَها فوق الترابْ

***

ابعثِ الآنَ دفين الذّكرِ
لتريها كيف ولّى عُمري
في هلاك اليأس قد طاردني
خوف قلبٍ باللظى مُدّثرِ
خوف حرمانٍ تردّيْتُ به
وارتوى من نابعاتِ الفِكرِ
وتلوّى في ضلوعي نهمًا
يغتذى بي في شقاء السّهرِ

***

كم حنينٍ قضّ وجداني، وما
كفّ حتى صبغت ليْلي الدماء
وعذابٍ طحن النفْسَ فلم
يبْقَ منها ما يُذرّيه الهواء
وبكاءٍ كنت أستدني به
في خيالي رحمةً لي أو عزاء
وأَحرُّ الدمع ما تبذلهُ
عين مظلومٍ شديد الكبرياءْ

***

هذه الغيلانُ عبّتْ من دمي
فانتشت تقصفُ في هول الظلامْ
نهشت لحمي، فدوَّتْ من فمي
صرخات الذُّعْرِ والناسُ نيامْ
وأنا وحديَ دكّت أعظمي
رهْبةُ المُشْفِي على مهوى الحِمامْ
هذه الغيلانُ، غيلانُ الأسى
أكلتْ راحة قلبي المستهامْ

***

هذه الغيلانُ لم تُبْقِ سوى
هيكلٍ من جسدي مُرتعدِ
وعظامٍ زلزلتْها في الدُّجى
سطوةُ الحمّى التي لم تُعهدِ
طللاً أسعى، وزادي لم يعدْ
غير أشواقٍ أضاءت معبدي
طللاً أسعى، وفي أركانه
روحُ آمالي التي لم تُلْحد

***

طللٌ منتفض يمشي، وقد
قصَمتْ أضلاعه فأْسُ القضاءْ
خرِبُ الأنحاءِ، يستوطنهُ
من مُعدّاتِ المنايا ألفُ داء
شاحب الجلد كأني ميتٌ
طرد اللحدُ رُفاتي في الخلاء
إن تجدْهُ العين، لا تنكرهُ
إنما تمطرُه سيْلَ بكاءْ

***

يغتدي الأحياءُ في قبضته
رحمةً لو يستدرّ الرحماء
إنَّما يعْنيه قلبٌ واحدٌ
هو في صدركِ يا كُلَّ الرجاء
انظري، كيف استحالت نضْرتي
صفرةً يُنكرها حتى الفناءْ
غائرُ العينيْن معروقُهما
أطفَأتْ سحْرهُما ريحُ الشقاء

***

أيها الماضي ... ألا تعرفني؟
شدَّ ما ألقاك قد أنكرْتني!
أنت مني قطعة كفَّنْتُها
بسنيني، وطواها زمني
أنت بنيان أقمْنا فوقه
حاضرًا، يا ليته لم يكنِ
حاضرًا يمتصُّ أعصابي، ولا
ينثني بالويل يستنْزفني!

***

أين تمضي أيها الماضي؟ وفي
أيّ كهفٍ تختفي بالعُمرِ؟
بعد موتي هل ستلقاني، وهل
سوف ألقاكَ جميلَ الصور
أم ستنساني وأنساك؟ وما
عُدْتَ تحيا نابضًا في ذِكري
شدَّ ما أرهبُ لُقياكَ، إذا
حان حيْني، وانتهى بي سفري!

***

أنت رجعٌ للأغاريد التي
كنتُ أستودعُها قلْبَ الزمانُ
عُدْ إلى ساحرتي، واقطُرْ بما
فيك من شجْوٍ لديها وهوانْ
واحتفرْ لي مسْلكًا في قلبها
يحتويني مرّةًَ منه الحنانْ
أيها الماضي، وطهّر كعبةً
حولها تُعبدُ فيها وتُصانْ

***

كم نهارٍ فيك أستوقفهُ
في هُوىِّ الزمن المنصرمِ
قبل أن يلتحف الليلَ على
مهد ذاك الأُفقِ المضطرمِ
كنت أستوقفهُ مسترحمًا
أن يُعيد الكرَّ حول الأنجمِ
علَّ في أوقاته لي موعدًا
تائها يُشْرى بروحي ودمي

***

كم غروبٍ كنتُ أستمهلهُ
في اجتياح الهادرِ المُنصرفِ
فزِعًا أجأرُ في تيّارهِ
بضميرٍ راعدٍ مرُتجفِ:
«أيها التيار لا تطرحْ لَقًى
خلف أنوارك نهْبَ السُّدُفِ
إنني أخشى الدجى يا سُمَّه
لفؤاد الصبِّ من مُغْتَرفِ!»

***

كم مساءٍ كنتُ أستلُّ به
زفرتي كالخنجرِ المُنغرسِ
صغتُ أنفاسي به أنشودةً
للهوى، رفّافةً كالقبسِ
كم تماثيل بأحضانكَ قد
شِدْتَها بالأملِ المُنْدرسِ
شِدْتَها للحبِّ، تستعْبدني
وهي من صُنْعي سوادَ الغَلسِ

***

كم ربيع فيك، قد روّيْتُ من
روضه بالدمع زهْرَ الأملِ
وخريفٍ عاطفيٍّ غال ما
أَنْبتَ السّاقي بماءِ المُقلِ
كم ربيعٍ فيك قد داهمني
بشتاءٍ في ضميري مُوغلِ
بردهُ يصطكُّ من قفصي
ورَادهُ زاحفٌ في أَجلي

***

هكذا ولّت حياتي، فانظري
أيَّ موتٍ جرَّعتنيه الحياةْ
أنقذي قلبي ففي دقّاته
هتفاتٌ لكِ يا كُلَّ مناه
هتفاتٌ شقّت الصدْرَ، لها
من سِنانِ الصدق حدٌّ لا أراهْ
فاسمعيها، وارحمي مُرسلها
فهو يهواكِ، ولو كنتِ رداهْ!

***

لا نملك إلا أن نردّد ما ردّده كثير من نقاد شعر الخميسي ودارسيه، وهم يتأملون هذه الظاهرة الشعرية المتفجرة، وهذا الفضاء الشعري الرحب، المزدحم بالصور والأنغام والألوان وهم يُعيدون ما قاله مندور: «أيّ سحرٍ في هذا الشعر، وأية عذوبة في موسيقاه ذات المدات الطويلة امتداد الشجن، وأيُّ قوة ونفاذٍ في بناء تعبيره، ورسم صوره المنسجمة الجميلة، في رؤية شعرية واضحة محددة، لأنها رؤية صادقة، وأيُّ تركيز شعري في الخواطر والأحاسيس التي يزخر بها هذا الشعر».

وفي قصيدة «الماضي» هذه أنسام من شعر إبراهيم ناجي، وظلال من صوره، وأسلوبه الشعري في التجسيد والتجسيم، وأسلوب الرومانسيين في تراسل الحواسّ، وفيها من قصيدته «الأطلال» صورة الطلل المنتفض الذي يمشي، وصورتا المعبد والكعبة، حيث كانت عبادة الحسن وصوْنه، وهي الصور التي أبدعها ناجي في مطلع قصيدته «العودة»:

هذه الكعبة كنَّا طائفيها
والمصلين صباحا ومساءَ
كم سجْدنا وعبْدنا الحسن فيها
كيف بالله رجعنا غرباء!

وفيها من الخميسي الشاعر المبدع : قلقه وتمرّده، وجُنونه وثورته، وشاعريته التي لم تطمسها وجوهه الإبداعية الفنية والأدبية الأخرى. فقد كان الشعر يطلبه ويسعى إليه حتى لو انشغل عنه بغيره أو تناساه.

 

 

 

فاروق شوشة