اللغة حياة.. اللغة مَلَكة وبديهة قبل أيّ شيء آخر مصطفى علي الجوزو

اللغة حياة.. اللغة مَلَكة وبديهة قبل أيّ شيء آخر

يتّخذ الساسة، عادة، أعواناً لهم من الاختصاصيّين في اللغة، أو من البارعين في استعمالها، حتّى تخرج أقوالهم صحيحة رائقة. لكنْ هل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر؟ فبين كثير من هؤلاء وبين سيبويه عداوة قديمة، فهم لا يتقنون العربيّة، وما ينبغي لها من نحو وصرف وبلاغة، ويريدون مع ذلك تكلّف الصواب والفصاحة، فيقع لهم ما يقع للطامح إلى قيادة السيّارة، الذي يكتفي بقراءة قوانين السير، ويستدلّ نظرياً على طريقة القيادة، ويسأل عن أقسام السيّارة، والسيّارة رابضة في مكانها، حتّى إذا مضى بها في الطريق صدم أوّل شيء يصادفه.

فاللغة كما وصفها ابن خلدون مَلَكة تُكتسب بالتكرار، فتصبح أوّلاً صفة، ثم حالاً، ثم ملَكة، أي صفة راسخة أو طبعاً. ونستنتج من ذلك أنّها معاناة طويلة ومتكرّرة للخطأ والصواب، حتّى تصبح عادة عفويّة، واستعمالاً لا تكلُّف فيه ولا جهد. حتّى الولد لا يتعلّم لغة والديه إلاّ بعد مكابدة الخوف والخجل، وتلقّي التشجيع والاستحسان. فإذا دخل إلى المدرسة وأخذ يتعلّم الفصحى عاد إلى المعاناة؛ فإن كان التعليم تقليديّاً يقوم على التلقين والحفظ، لم يُحسن الولد لا كتابة ولا كلاماً فصيحاً؛ أمّا إذا اتّخذ التدريس سبيل الممارسة، فزاول الولد الحديث والمناقشة والكتابة بالفصحى، وخضع للتصويب الرفيق والتهذيب، وتأثّر بالتوجيه والتشجيع، فإنّ اللغة تغدو عنده عادة وملَكة، لا عبئاً يثقل كاهله.

والساسة الذين يجهلون اللغة قد يصمتون، أو يُقلِّون من الكلام، أو يحتالون لتحاشي الحرج؛ وقد روى نائب سابق أنّ أحد المديرين العامّين لمجلس النواب اللبنانيّ كان أديباً معروفاً، فكان يلجأ إليه النواب ليكتب لهم خطبهم البرلمانيّة، كلاًّ بحسب ميوله؛ ويوماً كتب خطبة لنائب على جفاء مع العربيّة، فادّعى ذلك النائب لرئيس المجلس علّة في عينيه، ورجا منه أن يقرأ المدير العامّ عنه خطبته، فأجابه الرئيس: «هذا كثير! يفكّر عنك، ويكتب كلمتك، ثم ينوب عنك في قراءتها»؟

وبعضهم يكثرون التصدّى للكلام، لكنّ معاونيهم اللغويّين ربما ورّطوهم في المآزق؛ وقد لاحظتُ مرّة أن أحد رؤساء الوزراء أخذ يتلعثم على غير عادته، ويحدّق بكثرة في خطبته المكتوبة، ولا ينظر إلى الناس أمامه، ويخطئ أكثر ممّا اعتدنا فيه، وأنّ في كلامه من الفصيح العالي ما لا يتقنه إلاّ العلماء؛ فرفعت سماعة الهاتف بعد قليل واتّصلت بمساعده الأدبيّ، وقلت له :«حرام عليك، ارْحم صاحبَك من العبارات الجزلة التي لا قِبَل له بها، ولا تُحرِّكْ له إلاّ الضروريّ من كلامه، وإلاّ شغلْته بالألفاظ الفخمة والحركات الكثيرة عن المعاني، وعن الناس، وزدت خطأه بدل أن تنقصه، وصحّ فيكما قريب مما قاله ابن زُريق البغداديّ:

جاوزتِ في لَوْمهِ حَدًّا أضرَّ بهِ
مِنْ حيثُ قدَّرْتِ أنَّ اللومَ ينفعُهُ

والحقيقة أنّ ذلك الرئيس من أقلّ الرؤساء ضعفاً في العربيّة، لأنّه من متذوّقي الشعر، وعلى معرفة لا بأس بها ببعض النثر، ومع ذلك جرى له ما جرى، لأنّ اللغة لم تكن ملَكة فيه، بل تكلّفٌ وتصنّع، فكيف بالضعفاء؟

وقد طمح أحد الساسة يوماً إلى أن يوصف بالنائب الشاعر، فادّعى قول قصيدة، وراح يلقي ما ادّعاه في وسائل الإعلام؛ وكانت القصيدة صحيحة الوزن واللغة، بصورة عامّة، لكنّ صاحبنا ارتكب في قراءتها من الأخطاء اللغويّة والعروضيّة ما كشفت زيف ادّعائه وقصوره. ولا أكاد أشكّ في أنّ ناظم القصيدة قد حرّك كلماتها، ودرّب السياسيّ على قراءتها، لكنّ التدريب لا ينفع مع الافتقار إلى الملَكة اللغوية، فهو عمل ساعة أو يوم أو حتى أسبوع، وهي مكابدة سنين.

وحين نتكلّم على الملَكة اللغويّة، بالمفهوم الخلدونيّ، فنحن لا نقصد السليقة، لأنّ بين المفهومين فرقاً، وإنْ خلَط بعض المعاصرين بينهما. فقد محض القدماء للسليقة معنى ضدّ معنى الملَكة، إذ جعلوها ضد التعلّم، لاعتقادهم أنّ اللغة طبيعة في الإنسان وإرْث، على حين أنّ الملَكة تقتضي التعلّم المتواصل الذي يجعل العمل عادة شبيهة بالطبيعة، وهو ما يوافق النظرية الحديثة للغة، بوصفها اكتساباً معرفيّاً.

أمّا جعل ابن خلدون الملَكة مرادفة للطبع فأمر آخر. ذلك أنّ اللغويّين حين كانوا يتحدّثون عن الإنسان كانوا يجعلون الطبع والطبيعة والسليقة شيئاً واحداً، ينسبونه إلى الفطرة والخلق الإلهيّ؛ لكنّهم حين كانوا يتحدّثون عن الأشياء كانوا يجعلون الطبع مرادفاً للصناعة وللخَتْم، وما أشبه ذلك. فتبدُّلُ معنى الطبع رهنٌ، عندهم، بتبدّل الطابع والمطبوع؛ فإذا كان الطابع هو الله وكان المطبوع بشراً، صار للطبع معنى الفطرة؛ وإذا كان الطابع إنساناً والمطبوع شيئاً، صار للطبع معنى الصنعة. لكن يبدو أنّ ابن خلدون حين جعل الإنسان هو الطابع والمطبوع، راعى المعنى الأساسي وغير النسبيّ للكلمة، جاعلاً الملَكة طبعاً، أي عملاً أو ختماً راسخاً في النفس، يؤدّي إليه تكرار العمل.

وهذا قد يوضح تحفّظنا من نظريّة الموحدّين بين السليقة والملَكة، وطالبي الاحتكام في صحّة اللغة ومصطلحاتها ونظرياتها إلى ما يسمّونه الإحساس السليقيّ. فالمعلمون الناجحون يعملون على أن تصبح اللغة ملَكة، ويصبح استعمالها بديهة شبيهة بالسليقة، لكن لا يمكن التعويل لا على الملَكة ولا على السليقة في الحكم على التعبير اللغويّ، بمعزل عن قانون ثابت، موحّد أو شبه موحد، يُرجع إليه. بمعنى أنّنا لا نستطيع الركون إلى مقياس نسبيّ، مهما اختلفت نظرتنا عن نظرة العلماء الذين وضعوا قواعد النحو والصرف وشرحوا معاني اللغة. نحن نناقش ونطوّر ونعيد التنظيم وقد نخالف، وقد نقترح طريقة موضوعيّة جديدة لاستنباط قواعد النحو من شأنها قلب النظريات القديمة رأساً على عقب، لكنّنا لا ننطلق من إحساسنا الذاتيّ، بل من منطق موضوعيّ دقيق قد يقرّنا عليه جمهور المستعمِلين، وقد يخالفوننا فيه. ونحن نعرف للغرب نظريّات لسانيّة متعدّدة، وأساليب مختلفة في دراسة اللغة، بعضها فرض نفسه، وبعضها سقط، لكنّها جميعاً أفادت في ناحية أو في أخرى. وهي في أكثرها طرق للبحث اللغويّ، وللوصول إلى القاعدة، أكثر ممّا هي قواعد. لكنّ القواعد النحويّة والصرفيّة، مازالت عندهم، هي نفسها، تقريباً، ويُحتكم إليها لا إلى غيرها.

فهناك خطان متوازيان: خطّ امتلاك اللغة بالاستعمال الطويل المتكرّر، وخط الحكم على الاستعمال من خلال قوانين اللغة المتعارف عليها؛ وحقّاً أنّ صاحب الملَكة اللغويّة أقدر على استنباط قوانينها واستعمالها، لكنّه لا يستغني بملكته عن تلك القوانين في الحكم على العبارات والمصطلحات.

 

مصطفى علي الجوزو