حلمي التوني .. رؤية محبة للحياة فاروق بسيوني

حلمي التوني .. رؤية محبة للحياة

في أعماله شيء إنساني خاص، بسيط رائق فرح. جامع بين فرح التعبير في بكارته التلقائية وهندسة البناء العقلي الحذر للأشكال في صياغتها المتعددة، جمعا لا نستطيع أن نتبين فيه أين يبدأ القصد وما هي حدود المصادفة.

يبدو "حلمي التوني" بعدم لجوئه لعبث "الشخبطة" بحجة التجريد والحداثة، وعدم انسجانه في قوالب سلفية مؤطرة- انتهى زمنها- واعيا بماذا يفعل وماذا يقول، وما هي حدود كل من "الحذر" الواعـي، والمغامرة المستكشفة. حيث بدت أعماله في مجموعها متحولـة بشكل مستمر من تعقيـدات معالجة السطح التصـويري باللمسات المتداخلة والمتراكمة والمحددة في قسوة لعلاقـة التناقض بين الظل والضوء، نحـو التبسيط البليغ لملامح الأشكال وفانتـازيا اللون ونثر الزخـارف الفرحة على السطوح تحولا ليس طفرياً، قدر ما هو "إنماء" واع بلغة الشكل الخالصة، بعيدا عن مباشرة التعبير أو الانسجان في أسر الموضوع.

فهـو يرسم ما شاء له من موضوعات، بدءا من زهرة بسيطة في إناء وحتى تكدس الناس والخيول والأسماك والأهلة والنخيـل كرموز تنبني عليها تراكيـب معقدة، حسبه فقط أثناء الفعل الفني، أن يظل النبض الإنساني حـاضرا في قـوة، سواء جـاءت النتـائج ذات ملامح هندسية ساكنة مجردة، أو عضوية تعبيرية هادرة، أي أنـه وببساطة شديـدة قد "فهم" وبوعي أن الفن لغة إنسانيـة بسيطة وبليغة معا، تخاطب "العقل" يتفرد صياغاتها، و "الوجدان" برقة ما تحمله من مشاعر وما تطرحـه من موضـوعات، ثم راح يرسم بذلك المفهـوم أعمالا شديـدة الرقة حتى وإن "ارتطم" فيها الضوء بالقتامة، أو تناقضت فيها الألوان الليلية البـاردة، بالنهارية الساخنة، أو حتى تباينت فيها معالجات السطوح بين الخشونة والنعومة، لأن المضمون فيهـا بدا إنسانيا بسيطا دائما.

مفهوم طازج للفن

ولا شك أن الفن بذلك المفهوم هو الذي بقي على مر التـاريخ مؤثرا وطازجـا، مهما تقادمت تواريخ إنتاجه، أو تغيرت ظروف عصره، لأنـه لم يأت مرهـونا بظرف تاريخي، أو مقيدا بطرح رأي موقوت، وإنما يأتي مجردا عن المبـاشرة، مرتبطـا فحسب بإنسـانية الإنسان وبمشاعره وأحلامه، وبصياغات بسيطة رائقة وحاذقة معا، وهو ما نرى أن الفنان "حلمي التوني" يعمد دائما إلى فعلـه، فالموضوعات بسيطة العناصر والمظهر مهما تعقدت مضامينها والصياغات التقنية تجيء لـديه دائما مواكبة في أسلوبها للموضوع المطروح، دون تقيد بأسلوب أدائي محدد ومتكـرر- كما يفعل بعض الأنصاف الذيـن يتصورون أن ثبات طـرائق الأداء والصيـاغـة هي تأكيـد للشخصية الفنية، بينما الأمر ليس كذلك، "فبيكاسو"- الهائل- لم يتقيد يوما واحدا بما حققه من نتائج تقنية رفيعة المستوى، وإنما بدا دائما متغيرا ومتناميـا دون انقطاع، وهو ما حقق لـه ذلك التنوع الثري فيما تركه من نتاج وبنفس المنطق- مع فارق الرؤية والأسلوب نجد أن "التوني" قد تحرر من أسر الثبات المقيد بأسلوب واحـد، وراح ينتقل في حرية من الواقعيـة التشخيصيـة نحو التجـريد، ومن تعقيد البناء الهندسي للأشكـال ذات البعد المنظوري في بساطة التسطيح، بل ومن تـراكب اللمسـات اللونية الكثيفة وتكدس العناصر إلى تجاور الزخـارف وانتشارها على سطوح منبسطة مسالمة.

مهارة الأداء

خلاصة القول أن "التوني" يرسم ويلون ويزخرف كيفما شاء له ذلك، دون حدود أو قيود، حسبه فقط مهارة الأداء والوعي بلغة الشكل، والرؤية المثقفة الواعية، وتلك الحرية قد أتاحت له أن ينتقل من أسلوب أدائي لآخر، ومن منطق صياغي لآخر، بل ومن "رؤية تشكيلية" لأخرى ما دام كل ذلك مشحونا بنبـض إنساني عال، كـما أنها أيضا- الحرية- قد أتاحت له أن يعيد قراءة خلاصة عـديد من نتاجـات الفخام أمثال "ماتيس" و "رووه" و "بيكـاسو"، قراءة واعية مستوعبة وهاضمة ومتجاوزة بعـد ذلك ما قدموه، وقد تحول إلى خبرات ذائبة في مجموع خبراته الأخرى الآتيـة من وعي جيد بفنون التراث العربي الإسلامي والشعبي، ثم راح يصوغ تراكيبه وبناءاته بمفهوم ذاتي خالص، لا يهم فيه أن يأتي هنـدسيا صـارما ذا حس زخرفي، أو أن يهدر بالتعبير الفطري البدائي، أو حتى يتحول إلى همس لوني شاعري رقيق، قدر ما يهم مدى التوافق بين المشاعر والأفكار وأساليب الصياغة، وهو ما يجعل نتاجاته تبدو متعـددة الهيئات والأسـاليب والصياغات، برغم ما يربطها جميعا من روح واحدة إنسانية شاعرية النكهة.

روح مصرية

والـواقع أن أهم ما يميز نتاجـات الفنان "حلمي التوني" هـو تلك الـروح المصريـة التي تتبدى في كل نتاجاتـه مهما تنوعت، روحا خالصة ليست مرتبطة بالموضوعات التي يطرحها، ولا بأساليب الصياغة، ولا حتى بـالعنـاصر والـرمـوز الشعبيـة التي تمتلئ بها اللوحـات، وإنما هي لشيء آخر لا نستطيـع أن نمسكه بوضوح، بل نستشعره كالرائحة أو الشذى الذي ينتشر في عوالمه مهما تباينت. صحيح أنه يجمع بـين السـيريالية والميتافيزيقية والواقعية وحتى التجريد في توليفة واحدة، جمعا ناتجا عن الوعي بها جميعـا والاستيعاب الهاضم لمعطياتها، وليس عن قصد عقلي مباشر، وصحيح أيضا أنه يختار مـوضوعات إنسانية عامة، ليس بالضرورة أنها مصرية، ولكنها جميعا تبـدو ذات نكهة مصرية شرقية، ربما بسبب عشقه الذاتي الخاص للزخارف الشعبية على عربات الباعة الجائلين، وواجهات البيـوت الشعبية، ورسوم الوشم، والتصاوير الشعبية لألف ليلة وليلة وقصص البطولة كسيرة عنترة بن شـداد وسيف بن ذي يزن والزناتي خليفة، وربما أيضا بسبب أنه يـرسم في حرية كـاملة، دون تقيـد بموضوع محدد، أو أسلوب وأداءات واحـدة، وأن عمليات ترك العنان للفن كي يتوالد ويتشكل كالمغامرة في كل مرة، فتخرج خبرات الطفولة والصبا، ومواريث حكايا الجدات، ومخزون الـرؤية للموروثات الشعبيـة في القاهـرة القـديمة واحتفالات الأعراس وحلقات الذكـر والموالد وما تحويه من ألعاب شعبية وزخارف تغطي عربات النشان ومقـاعـد المقاهي وغيرها.. اجتمـع كل ذلك لديه كخبرات اختلطت بخبرات الصياغة والأداء، فأضفت- دون مباشرة- تلك الروح والنكهة المصرية الشرقية اللذيذة الآسرة.

حضور قوي للإنسان

قدم "التوني" في تجربته الأخيرة ثلاث مجموعات رئيسيـة من الأعمال، انبنت جميعـا على حضور قوي للإنسان بمشاعره الرقيقة ورغباته النزقة وأحلامـه الشاعرية وخصوبته الفائرة، حيث بـدا المضمون فيها جميعا إنسانيا بسيطا، بينما اختلفت البناءات وتنوعت، فقد بدت في مجموعته الأولى هنـدسية صارمة، انتشرت فيها المثلثات والمربعات لتملأ السطح كله، كبيوت وأبواب ونوافذ يطل منها فتيات رقيقات مدهوشات، فيبـدون كما لـو كن سجينات لتلك الأطر السـاكنـة الصارمة، وقد بدا التـلاقي بين "حيـوية" النبض الإنسان الـذي يعكسنه و "سكون" الأشكال الهندسية الصـارمة التي تحيطهن مـولدة للتعبير المتـوازن بين العضوية والهندسة.

بينما في مجموعته الثانية يبدو وقد جمع بين استيحاءاته لرسوم الوشم وتصاوير الحوائط ورسوم الزجاج الشعبية في تـوليفة خاصـة ذات نكهة زخرفيـة فانتزية فرحـة صداحة بالألوان الزاهية الصافية.

أما مجموعته الثالثة بشخوصها الفائرة. ، وبناءاتها المعتمدة على تقاطع الأقواس المحيطة بتلك الشخوص، وتناقضات العلاقـة بين الضوء الساطع والظل القاتم، وانشحانها برموز الخصوبة والتوالد، فقـد بدت ذات حس تعبيري عال، مؤكدا لتلـك السمة الأساسية التي تتمحور حولها تجربته كلها مهما تعددت طرائق الأداء أو اختلفت أساليب الصياغة، وهي أن الإنسان بهيئتـه وروحه وأحلامه ونزقه ونزواته هو محور الفن ودافعـه وعنصره الأساسي، وسـواء تواجـد الإنسـان بهيئته كما هي، أو تحورت ملامحه لتزيـد قـدر التعبير، أو حتى بقيت آثاره وانفعالاته في هيئات لونية وشكلية مجردة، وسواء أيضا جـاء وحيدا مجابها لفراغ شاسع يحيطـه كالمجهول، أو تـزاحمت حوله العناصر والمفردات، فإنه ظل دائما لديه بحضوره القوي، عاصما من الوقوع في شر "الشخبطة" القاصرة. لقد حقق "التوني" أسلوبا خاصا بسيط المظهر عميـق المخبر، رائقـا قريبـا من النفس بنزعته الإنسانية الفرحة المحبة للحياة.

 

فاروق بسيوني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




استيحاء من الفن المصري القديم ومزاوجته بالتجريد الهندسي





 





 





نساء وضوء وظل "زيارة العصفور" والفانتازيا الشعبية





"فرح الهداهد"





تزاوج الهندسي والعضوي "حلم ليلة صيف"





من الفانتازيا الشعبية "خطوبة الست نازلى"





استيحاء من رسوم الوشم والزجاج





نساء وضوء وظل "ذات الثوب الأحمر"





لوحة من الزخارف الشعبية





"حوار الهندسي والطبيعي "فتاة الفاكهة"





من الفانتازيا الشعبية "حلم الصبي"