صبري موسى وشمس الدين موسى

صبري موسى وشمس الدين موسى

  • أعجبت بقدرة إحسان عبدالقدوس على الكتابـة في أي وقـت.

لا نكون مبالغين إذا قلنا إن كل أعمال الروائي المصري صبري موسى قد جاءت متميزة بشكل ما.

فقد أثارت روايته "حادث النصف متر" جدلا واسعا في أوائل الستينيات حول قضية خروج المرأة إلى العمل وبحثها عن حريتها الشخصية، وأخذ منها فيلمان في وقت واحد أحدهما مصري والآخر سوري. واختار نادي الكتاب الأمريكي روايته الثانية "فساد الأمكنة" كأفضل رواية عربية أبرزت جماليات المكان ووظيفته كجزء عضوي من الفن الروائي. أما روايته الثالثة "السيد من حقل السبانخ" فقد جاءت مزيجا من العلم والفلسفة لتبين السعي الإنساني نحو "اليوتوبيا" أو المدينة الفاضلة. وهي رواية نادرة من الخيال العلمي ذلك الجنس الأدبي الشحيح في الأدب العربي.

وبين كل هـذا قـدم صبري موسى عشرات القصص القصيرة التي تدل على حضوره كـواحـد من صناعربية- وقد صدرت ضمن مجلدات أعـماله الكـاملة أخيرا- والتي أبرزت لغته الخاصة واستفادته من خبرته في العمل الصحفي دون أن يقع في مبـاشرتها ومحدوديتها. ومن المعروف أن الكاتب يعمل في مجلة "صباح الخير" القاهرية.

وقد اتسعت تجربة صبري موسى لتشمل أشكالا تعبيرية أخرى كالسينما ولم يهملها على عكس غالبية كتاب الأدب فقد أعـد العديد من سيناريوهـات الأفلام أبرزها "البوسطجي" و " قنديل أم هاشم" المأخوذان عن الأديب يحيى حقي وكذلك فيلم "الشيماء" عن علي أحمد باكثير و "قاهر الظلام" عن حياة عميد الأب العربي طـه حسـين. وبلغ عدد الأعـمال التي أعدها للشاشـة أحد عشر عملا وقد قام بإجراء الحوار الناقد والقصاص المصري شمس الدين موسى الذي ساهم بكتاباته في العديد من المجلات العربية وله أكثر من كتاب في مجالات النقد والإبداع.

  • ماذا عن البدايات الأولى.. أفي القرية كانت أم في المدينة؟ وكيف تم وصولك إلى عالم الفن والكتابة الإبداعية؟.

- البدايات الأولى كانت في مدينة دمياط، التي كان لها مذاق خـاص وتأثير شديد الخصوصيـة، حيث كنا نعتبرها نهاية العالم، فالبحر الأبيض الذي نسميه بالبحر المالح يمتـد بلا نهايـة أمام أعيننـا، والبحيرة العظيمـة الضخمـة- بحـيرة المنـزلـة- تحيطنـا من الشمال الشرقي، والنيل يجيء ولا نعلم من أين؟ هائلا متدفقا ليصب في البحر عندنا، والبرد والمطر والثلج الذي كنا نتسـابق في تجميع حبيبـاتـه وهـي تتسـاقـط من السماء، حيث كانت تمطر في بعض أيام الشتاء الباردة قطعاً من الثلج، هـذا المناخ كان له تأثير في بناء مخيلتنا وأمزجتنا وحواسنا، وأعتقد أنه من لم تصبـه موهبة الفن بشكل خـاص سواء كـان قصـة، أو شعـرا، أو موسيقى، أو غناء في مدينة دمياط - أصابته موهبة الفن بشكل عام فأصبح فنانا فيما يقوم به من عمل، فالنجار فنان في نجارته، والعامل فنـان في عمله، وعندما تتأمل الدميـاطي وهو يعمل، فإنك لا تشعر بأنه مجرد عـامل يؤدي عمـلاً مطلوبا منـه، وإنما تشعر أنك أمـام مبدع يستمتع بـما يقوم به من عمل، ويحاول الإجادة والتطوير بل وحتى الاختراع لكي يقدم شيئا غير مسبوق.

كـما تحفل ذاكرتي بالعديـد من الصور لتلك المرحلة البداية- في الأربعينيات حيث لم يكن هناك تليفزيون بعد، وكان الـراديو معلقا في سقف الصـالة لا يستعمله إلا الكبار، ودور العرض السينمائي المحـدودة لا تتاح لنا إلا مرة في الشهر أو كل شهرين، وهكذا لم يكن أمامنا سوى القراءة والاجتماع بالمقهى لمنـاقشـة مـا نقرأ. كنا مجموعة نادرة من المشروعات الصغيرة لفنانين كبار، فمنا من يغني، ومنا من يعزف الموسيقى، ويكتب القصة أو الشعر، ومن يمتلك حاسة نقدية رائعة، فيقوم بتحليل محاولاتنا، ويكشف عن جوانـب القصور، أو جوانب التميز والإبداع، وكـان لنا في ذلك خير تشجيع. كـما أذكر في تلك الليالي ونحن نخوض في الأوحال والأمطار حتى نصل إلى مقهـانـا ليـلاً لتستمـر جلسـات القراءة والعزف على العود، والغنـاء، والنقد والمناقشات بينما المطر يطرق علينا زجـاج الأبواب العريضة للمقهى على نيل دميـاط الجميل، وأمامنـا محطـة القطار كأنها الهاجس الدائم لمشروعاتنا الفنية الناشئة تداعب أخيلتنا بأننا على سفر، وأننا في انتظار قطاراتنا التي سوف تنقلنا في يوم مـا من تلك المدينـة الصغيرة المغلقة بـالضبـاب والمطر إلى العاصمة الكبيرة، حيث تزدهر مواهبنا الفنية وتتوهج ذات يوم.

أنا وإحسان عبدالقدوس

  • الملاحظ أنه لم يظهر في كتـاباتك أي أثر للجيل الأسبق من حيث التأثـرات مثل عبـد الحليم عبـد الله، والشرقـاوي، ونجيب محفوظ... لكن ثمة تقاربا بينك وبين إحسان عبدالقدوس، كيف تفسر ذلك؟

- حقيقة الأمر أنه في ذلك الزمن، كان منا من يهوى القصة متدثرا برومانسية محمود كامل المحـامي. بعدها بهرتنا كتابـات "محمد التابعي" الذي لـه صلات حميمة بدمياط، وكان انبهارنا أساسا بهذا الكاتب الذي يتناول طعام الإفطار في بـاريس، وهو على مـوعد للغـداء في جنيف، وسوف يعود لتناول عشائه في القاهرة، هذا الكاتب الطائر المغامر في مجالات الحب والسياسة، كان يداعب خيالاتنا، وربما يكون قد ألقى بذرة الصحافة في مشاعرنا، وقد وجدت نسخته الحديثة المجددة في إحسان عبدالقدوس، لكن هذا في الحقيقة كان انبهار شباب، وتطلعا للانتشار، وهو ما تمنحه الصحافة لكتابها. أما إعجابنا الحقيقي فقد تولد مع قراءتنا لمحمد فريد أبوحديد، ومحمد عوض محمد، وسعيد العريان، والسحار، وباكثير، وصلاح ذهني، ومحمود البدوي، ثم نجيب محفوظ، ويحيى حقي والشرقاوي، ويوسف إدريس، الذي بدأ يقود جيلنا... وكنت قد بدأت العمل في صباح الخير، حيث تعرفت على إحسان عبدالقدوس، وأظن أنه لم يبق لي سوى إعجابي بقدرته على الكتابة في أي وقت، واستجاباته الفذة لذلك الانتشار الصحفي الموزع ما بين الأدب والسياسة التي كان شديد التأثير فيها.

من الرسم إلى تيار الأدب

  • أعرف أنك تشكيلي وتميل إلى التصوير.. كيف انتزعت تلك المساحة من عالم الأدب؟ وكيف أخرجت نفسك من عالم الفنون الجميلة؟ أعرف أن في ذلك معاناة كبيرة؟ كيف تغلبت عليهـا؟ ومتى تم ذلك؟

- كنت أعد نفسي في مرحلة الشباب كي أكون رساما، وكان يستهويني ذلك الشعر المنكوش والملابس الملوثة بالألوان، والبابيون الضخم الذي أصبح علامة على الفنانين- الرسامين في القرن الماضي، وقد رسمت بالفعل مجموعة من اللوحات لا تزال معلقة على جدران أقاربي في الريف.. سرعان ما أضحك منهـا كلما رأيتها برغم أنهم يعتزون بها، ولكن القراءة ومناقشات المقهى جذبتني بعيدا عن الرسم إلى تيار الأدب. بل إنني حينما بدأت حياتي العملية في القاهرة لم أجد عملا في مجال الكتابة، فعملت رساما للإعلانات إلى أن استطعت الالتحاق بالعمل الصحفي.

وفي الواقع لم أجد أية معاناة في التحول، إنما كان هناك ميل داخلي يدفعني إلى التعبير بالكلمة وليس بالصورة، ولم يتم التخلص منها نهائيا كأداة للتعبير، إنما دخلت إلى مجال الأدب وأتصور أنها واضحة في قصصي ورواياتي، فالصورة في تلك القصص تكاد تكون ملونة.

وقفة مع النقد

  • بصراحة.. لا بد من وقفة مع النقد. ما الذي أضافه النقاد إليك ككاتب؟ وهل بعضهم لفت نظرك إلى أشياء جديدة، أو إلى مسارات مختلفة ساعدت على تطورك؟

- هناك أنواع من النقد أقرؤها فأجد أنها قد أعادت تقديم العمل الفني، الذي تنقده بطريقة ملخصة، تغيب فيها رؤية الناقد، أو وجهة نظره، وأحيانا يغيب فيها فهمه للعمل الذي ينقده. ونحمد الله أن هذه فئة قليلة، لكن النقاد الحقيقيين يكشفون لك في بعض الأحيان عن نواح، من الجمال الخاص، أو من المعاني التي لم تكن واضحة في عقلك الواعي وأنت تكتب، ويضعون أمام عينيك تفسيرا عقليا لهذا العمل الإبداعي، هؤلاء نتعلم منهم بالفعل، وقد نتعلم منهم بشكل خاص كيف نكون أكثر شدة وجدية مع أنفسنا، ونحن نخرج أفكارنا على الورق، وأن نكون أكثر دقه في تجنب ما يمكن أن يشكل إسقاطات أو تفسيرات بعيدة عن العمل الفني، أو بعيدة عن القصة، الذي قصدت إليه وأنت تكتب، لكن على كل الأحوال أنا من الناس الذين يتعلمون كثيرا من الكتابة النقدية. وأنا من هواة قراءة النقد التشكيلي والنقد الموسيقي، لأن الناقد قارئ على مستوى عال من الوعي والمعرفة بحيث يمكننا أن نتعلم منه شيئا يفيدنا، ونحن نطالع الأعمال الفنية.

وأستطيع أن أخص من هؤلاء د. مندور رحمه الله، وسيد قطب، وأنور المعداوي، ود. علي الراعي، ود. عبدالقادر القط، ود. شكري عياد، ود. لويس عوض، ود. غالي شكري، وكثيرين لا أتذكرهم الآن، إذن من الصعب الحصر، ومن الصعب أن نحصي الجميع في جلسة واحدة.

السياسة والمباشرة

  • لماذا لم تشغل السياسة أعمالك، مثلما شغلت فتحي غانم، وصلاح حافظ على سبيل المثال؟

- هل تقيس الأمر بالوقائع السياسية المباشرة في العمل الأدبي؟ أو بالإسقاطات السياسية على المواقف وعلى الشخصيات؟ أم أنك مثلي تعتبر أن السياسة بالفعل هي المحرك الطبيعي، والوحيد لكل ما يحدث في المجتمع من وقائع وتغييرات تؤدي إلى تلك المواقف الدرامية التي يتناولها العمل الفني... إذا كنت تتفق معي فلسوف تجد أن حادث، "حادث النصف متر"، التي كتبتها في أوائل الستينيات تتنبأ بالهزيمة والانكسار لأن الأفراد المهزومين لا بد أن يؤدوا إلى هزيمة الوطن. كذلك يمكننا قراءة فساد الأمكنة من زاوية الغطاء والنهب في إدارة الأمكنة.. بغض النظر عن كل جوانبها الأسطورية والجمالية.. لنجد أن العطاء الفردي مهـما كان مخلصا ومتدفقا، في مناخ من الفساد والنهب، لا ينقذ الأمكنة من الخراب أو يوقفه.. كما أن هذا الفساد والنهب لا يكتفي بتفريغ المكان من كنوزه وأشيائه الثمينة فقط.. بل يقوم أيضا بتفريغ المعاني والأصول التراثية من جوهرها الدائم، وتفريغ الأجسام البشرية من أرواحها لتصبح قطعا متحركة على رقعة شطرنج! كما أن تلك الرحلة الروائية إلى القرن الرابع والعشرين وعلاقتها بالنظام الذي يدير الحياة في المعمورة البشرية.. وكانت بحثا سياسيا في المؤسسات النظامية التي اخترعها البشر من خلال النظم للسيطرة على الأفراد داخل المجموعة الكبرى التي تشكل الوطن.. وكـانت بحثا في الغرائز المتوارثة التي تؤدي إلى القهر والخوف والغزو والمقاومة وكـل العناصر المحركة للمواقف السياسية فتحيلها إلى منهج بشع لظلم الإنسان والسيطرة على حياتـه.. كـما كـانت بحثـا في العقل، الذي يعيد التوازن إلى السياسة ويحولها إلى أداة رحمة لتحقيق العدل والتقدم.

تلك هي السياسة كـما يجب أن يهتـم بها الأدب.. وذلك لا ينفى أنـه مـن الممكن لـلأدب أن يتناول قصصيا روائيـا بعض الوقائع السيـاسية المباشرة ويجعلها مادة أو موضوعا له.

الخيال العلمي

  • ظهرت الرؤى الفكرية والفلسفة بشكل واضح في رواية "السيد من حقل السبانخ" لكنها الفلسفة المغلفة بالخيال العلمي.. كيف ترى ذلك؟ وهل هذا نتيجة تأثرك بالعلم كما أظن؟

- "السيد من حقل السبانخ " في رأيي رواية واقعية وكل دور الخيال فيها يتمثل في أنه جعل زمانها في القرن الـرابع والعشرين، وكل ما يبـدو خيـالا فيها يستنـد إلى نظريات واقعية، كانت موجـودة بالفعل إبان كتابتها في بداية الثمانينيـات في مجالات الفلسفـة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلوم الفضاء.... . إلخ. ولم يعـد- مثلا- هبـوط إنسان على القمر حلما يتنبأ به كـاتب إذ هبط الإنسان على القمر بالفعل، بل ورأيناه بأعيننا على شاشات التلفزيون، وهو يمشي متطوحـا على صخور القمر، ولقـد لاحظت كثيرا على غـالبية النـوع الأدبي المسمى بأدب الخيال العلمي، أنه يتجاهل ما يمكن أن يحدثـه تطور تلك النظريات العلمية في تطبيقـاتها من تغير في طبيعة الإنسان، بينما يحتفـي جيدا بالإبهارات التي يحدثهـا تطـور التكنـولـوجيـا في الأدوات التي يستخـدمهـا الإنسان، وإذ بهذا الأدب يخلق لنـا عـالما متقدما يتحـرك بركائبه بـين الكواكب والمجرات، ولكن الإنسان الذي يقوم بتلك الحركـة، ويقود تلك الركائب هو إنسان شديد التخلف يحقد، ويطمع، ويغزو، ويخون، ويكذب، ويسرق- ويخرب، ويدمر، وكأنه ليس أكثر من إنسان بدائي. يستخدم أعلى ما وصل إليه العلم من تطبيقات تكنولوجية، مما يجعـل هذا الأدب أقرب، أو يجعله بالفعل مجرد أدب بوليسي. لكن الشيء الأخطر هو التوجه الذي يأخذنا إليه هذا النوع من أدب الخيال العلمي، إذ يترك في نفـوسنا رعبـا شـديـدا من التكنولوجيـا، وخوفا من مخاطرها التي ستقودنا للدمار في المستقبل، فهـو إذن نوع من الأدب يرسـخ في أذهان قرائه ومشاهديه كراهـية للعلم وكـراهـية للأدوات التي يستخدمها.

وهناك في المقـابل يوجـد ذلك النوع الذي يحتفي به النقاد، واحتفى به تاريخ الأدب مثل أعمال "هـ. ج. ويلز، وألـدس هكسلى".. فضلا عن مجموعة حـديثة من الكتاب في العالم الآن يبدعـون هذا النوع من الأدب الـذي يمكن أن نسميه الأدب العالمي، أو أدب المستقبل.

طقوس خاصة

  • ثمة ملاحظة لا بد أن أضعها أمامك في تلك المواجهـة.. أنت مقل في أعمالك لكن ثمة ملاحظة - أيضا - تتمثل - وهذا رأيي- في أنه لا يمكن تجاهل عمل كتبته، كـذلك لا يمكن نسيانه.. كيف ترتب لعمليـة الكتابة والإبداع؟ وما هي طقوسك الخاصة، وأظن أن ذلك يستغرق سنوات؟

- إذا شئت الحقيقة، فأنا أكره عملية الكتابة جداً وفي كثير من الأحيـان أتمنى لـو كـانت لي مهنة أخرى غيرها، ولكن برغم ذلك تولد في عقلي فكـرة القصة أو الرواية، فأظل أماطلها بضعـة أسابيع، أو بضعـة شهور، حتى ترغمن في النهـايـة على أن أضعهـا على الورق، فأخادعها كمجرد فكـرة لحين تذكرها بعد ذلك وأعالجها بالكتابة.. لكنني أفـاجأ بأني لم أتخلص منها تماما بوضعها على الورق كفكرة، إذ تظل تنمو وتتطور في عقلي الباطن أثناء النوم، وفي عقلي الواعي أثناء الحياة اليومية، تجمع لنفسها شخصيـاتها وترتب مواقفها، ولا أبدأ في كتابتها إلا حين يتم الارتباط بمجال نشرها، وهنا تصبح عمليـة الكتابـة جـبريـة، وأصبح أجيراً بالفعل يحاول أن ينجز ما اتفق عليه من عمل، وليس لي طقوس معينة سوى أنني لا أستطيع الكتابة اللحظات الأخيرة، عندما يصبح الأمر حـرجا ولا مفر منه وكل رواياتي كتبت فصـولا مجزأة في مجلة صباح الخير، وكـانت صبـاح الخير وقتها من الشجاعة بحيث تنشر فصلاً أو اثنين من الرواية، وأنا أقوم بكتابتهـا أسبوعا وراء أسبـوع. هكـذا كتبت "حـادث النصف متر"، و "فساد الأمكنة"، و "السيـد من حقل السبانخ"، وليس معنى هـذا أن تلك هي طـريقة الكتـابة المثلى، ولكنها طريقتي التي أكرههـا أيضـا، ولكنني أتعايش معها.

تجربة مع السينما

  • أعرف كـما يعرف غيري أن لك علاقة حميمة بالسينما، وكتبت عدداً من السيناريوهات لأفلام نالت النجاح المؤكد. هل أضافت السينما للرواية عندك أم العكس؟ وهل ذلك ينبع من حبك للتشكيل والصورة؟

- هذا السؤال يعـود بي لسنوات طويلة، حيث كنت في المدرسة الابتدائية، عندما أحضروا آلة غريبة داخل الفصل. وسرعان ما قام مدرس الفصل بتعليق قطعة من القماش الأبيـض على الحائط، وأدار الآلة بعـد أن أغلق النـوافذ، وإذ بمجمـوعة من الدوائر والمربعات والمثلثـات تتقـافـز وتتراقص على تلك القماشة البيضاء، فتخطـف أبصـارنا ونحن نحملق فيهـا، مبهـورين ومـدهـوشين. كـانـت تلك هـي السينما، وكان ذلك أول عهدي بها، وكان الفيلـم الذي يعرض علينا- والذي يقوم بعرضه مدرسو الرسم عن الفن التشكيلي، ويسمى "الألـوان"، وسرعان مـا بدأت تتحرك المثلثات والدوائر، والمربعات بالألـوان الأسـاسيـة، الأزرق، والأحمر، والأصفر... وبـدأت تتراقص وتتبـادل حركتهـا في المواقع المختلفة. وكـانت أثنـاء حركتها تمتزج فيخرج من اللون الأزرق والأصفر اللون البرتقالي، ويخرج من الأحمر والأزرق اللـون البنفسجي، ثم يـدخل اللـون الأبيض ويمتزج بتلك الألـوان الجديدة ليخرج لنا منها مئات الدرجات. أنا أتصـور أن الفيلم الـذي لم يستغـرق عرضه أكثـر من ثلاث دقائق أو أربع، قـد فجـر في عقلي ينبـوع الخيـال، ولم أستطع أن أكـون مستقر الـذهن والنفس، ربما لبضعـة أسابيع أو شهور... بعدها كان عقلي الصغير يستطيع أن يفهم مسألة الألـوان هذه، لكن أن تتحـرك المثلثات والـدوائر والمربعـات وتتداخل وتتوالـد هكـذا بهذه السرعـة، فتلك هي القضيـة التي شغلتنـي من يومها، وجعلتني أهتم بالسينما.

بعدها بدأت أتابعهـا بالمشاهـدة والقراءة، وحينما كنت أرسم كـان يضايقني ثبـات الموضوع المرسـوم وجموده، ولم أكن عبقريا بما يكفي حتى أجعل ما أرسمه يوحي بالحركـة أو يوهم بها كما يفعل الرسـامون العظام. وربما لهذا السبب تركت الرسم للكتابة. وفي الكتـابـة كنت حـريصـا دونما وعي على أن أكتب صورا، ولي قصص لم تنشر ليست ذات موضوع، إنما هي صور ومواقف من الحياة، مرسومة بالكلمات لكنها متحركة.

وفي الستينيات كـانت قد استقرت في السينما موجة الواقعية التي ظهرت بعد الحرب الثانية، بل وأصبحت مودة قديمة تكتسحهـا الموجة الجديدة التي ظهرت في فرنسا، وكانت تلك بالفعل في المحاولة الجادة الأولى، لكي تشق السينما لنفسها طريقا خاصا للإبداع غير طريق المسرح والأدب، الذي كانت تستعير منه. في تلك الأيام قرأت مجموعة "دماء وطين"ليحيى حقي" التي تضم قصة البوسطجي. وفوجئت بأن يحيى حقي يستخدم أسلوب الموجة الجديدة في السينما لكتابة هذه الرواية الصغيرة التي تدور حوادثهـا في صعيد مصر عام 1930، كان يعمل وكيلا للنيابة هناك. ولقد استهـواني أن أعيد تفكيك هذه القصة لإخراجها من هذا الأسلوب السينمائي الحديث الذي كتبت به، وإعادة تركيبهـا في أسلوب روائي تقليدي للسينما المصرية. وأذكر أنه بينما كنت أفعل ذلك كنت مزيجا من الروائي الذي يحاول أن يكون سينمائيا، وأعتقد أنني نجحت في تلك التجربة، والملاحظ بالفعل أنني في عملي الروائي أكاد أكون سينمائيا، فأنا موجز العبارة وأحشد عملي بالصور، وأميل إلى الطبيعة، وأريدها أن تظهر بقوة داخل أعمالي، دون أن أضطر للمباشرة كي أصفها... وأظن أن ذلك ملحوظ في فساد الأمكنة.

الرواية التي أثارت الدهشة

  • في النهاية ثمة نقطة مهـمة.... حملت روايتك "حادث النصف متر" تفاصيل قصة عاطفية اجتماعية، وذلك في أوائل الستينيات. هل وجهة نظر بطل جديد لك تغيرت، وما ملامح ذلك التغيير الذي تراه الآن ونحن في منتصف التسعينيات؟

المدهش في الأمر أن "حادث النصف متر" التي كتبت ونشرت في بداية 1962، لا تزال وحتى الآن كلما أعيد طباعتها تلقى نفس الدهشة والإزعاج - لجرأتها- من القراء حتى جيل الشباب المعاصر، وهذا معناه أننا بعد ثلاثين عاما أو أكثر. وبرغم كل التغييرات السطحية والظاهرية، التي طرأت على مجتمعنا ما زلنا نحمل نفس المنطق التقليدي الشرقي في مواجهتنا للحب وللمرأة عموما... فلا يزال موقفنا منها مختلفا ورجعيا. قد نكون قد أصبحنا أكثر تساهلا معهـا مما كنا عليه منذ ثلاثين سنة، ولكن جوهر موقفنا الفكري والعاطفي منها، ربما يكون قد أصبح أكثر رجعية وأكثر تخلفا.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صبري موسى





شمس الدين موسى