أما من ورقة بيضاء عربية عدنان مصطفى

أما من ورقة بيضاء عربية

ثمة صراع ضار يجري في العالم بين أنصار آفاق جديدة للعلم، ومدافعين مستميتين عن قلاع العلم القـديمـة، ومن المدهش أن ينتصر "المحافظون" في بريطانيا للطموح العلمي البازغ، فترصد حكومتهم الحالية ستة بلايين جنيه إسترلينـي لشـد أزر البحث العلمي والتطوير، كخطوة تطبيقية لقانون أصدره المحافظون ويوصف باسم "الورقة البيضاء"، فماذا عن هذا الصراع؟ ومـاذا عن مـواقف المتصارعين في حلبته؟، وماذا عنا نحن العرب؟

العلم الملقى في غيابة جب التخلف، المحفور عميقا في أقطار الجنوب، يتعرض اليوم لمحاولات إلقائه في غيابة جب الفراغ العقائدي الذي تجسد سحيقا في وجود البشرية وهي تقف عند أعتاب التبشير بقيام النظام العالمـي الجديد. فمنذ صيف عام 1992، شهـدت شعوب أقطـار الشمال، والغـربية منهـا خاصة، قيـام الكثـرة من أجهزة الإعلام، المقـروءة والمسمـوعـة والمرئيـة، بنشر بيـانـات ومراجعـات واستعـراضات مثـيرة للعجـب حـول العلم والعلماء وتتدافع موجة الغضب على العلم هذه لتظهر بصلف أن العلم هدام لروح وتقاليد الناس نتيجة لعدم أخلاقيته، وأنه عبر عدم حياديته يبدو زارعا للشوك في مسيرة النظام المتقن للأشياء الذي بني عليه العالم. ولقد كان البادئ بهذا الظلم، معلقا صحفيا بريطانيا اسمه برايان أبل يـارد فأصدر كتـابا بعنوان: إدراك الحاضر: العلم وروح الإنسان العصري (نشر مؤسسة بيكادور، لندن، 1992 م) احتل رأس قـائمة أفضل مبيعات الكتب، وأثار شرارات صراع فكري في الولايات المتحدة حتى دفـع البعض في بريطانيا ليصرخ قـائلا: بحق السماء، أعـدمـوا جيش الانفجـار الكثير. وقصد بالجيش أولئك النخبة من العلماء المميزين المعنيين بتطوير النظرية الموحدة العظمى وذلك بعد أن أفلحت في بيـان أن القـوة النووية الضعيفة هي قوة كهرطيسية الطبيعة، وقد سبق أن كرم قائد هذا الجيش، الأستاذ محمـد عبدالسلام بمنحـه جائزة نوبل على هذا الفتح المبين.

دوران حول الغموض

ولإدراك مبعث إثارة برايان أبل يارد يبدو من المفيد بلورة محاولته "إدراك الحاضر" في النقاط التالية:

(1) لقد تبين لأبل يارد أن المجتمع العلمي (ويقصد العلم والعلماء البريطان أولا) قد ترك حـرا يعمل على هواه فكان أن عزز العلماء وجودهم فيه كذكور نحل أنقياء غير قابلين للتأثر بعوامل فـاعلـة مثل الجنس والجشع والطموح الشخصي. ويمضي أبل يارد مجادلا بأن العمل العلمي يتم إنجازه بواسطة أناس حقيقيين لا يمكنهـم تفحص سـلامـة إنسانيتهم لدى أبواب مخابرهـم. ونتيجة للحقيقـة الأخيرة توجـه العلماء بعيدا عن المسائل الأخلاقية والروحية نحو بناء نظرية كل شيء (أي النظرية الموحـدة العظمى) التي استنفدت قرابة قرن من عمر البشرية مع إنفاق بلايين الجنيهات ليصلوا بنتيجة ذلك إلى وضع البشرية عند حضارة نسبية وفوضى فكرية. فعبر كل تقدم علمي انفتح باب نحو المجهول ويؤكـد أبل يـارد قائلا بأنه ليس ثمة ضرورة للتفكير بـالمجهـول فسيأتي الجواب الصحيح لاحقا (حسب رأي العلماء)، ودع عنك مشقـة الحصـول على الإجابة النهائية فعملة العلم هي الشك وليس اليقين كما يقول أبل يارد ساخرا.

(2) وبالتسليم جدلا بأن العلماء سوف يفلحون يوما ما في العثور على نظرية كل شيء حتى ليمكن صياغتها رياضيا في معادلة يمكن طبعها على صدر أحد قمصان الشباب (T - shirt) يؤكد أبل يارد أنـه لن يكـون بمقدورها التباهي بإعلامنا بما نريـد معرفته: فهي غير قادرة على إخبارنا لم يوجد الكون؟ ولم يوجد شيء أو لا شيء إطلاقا؟ كما لن تتمكن من إعلامنا أن كن لحياتنا معنى؟ ويمضي أبل يارد مجادلا فيقول: والسؤال فيما إذا كان الكون في حـال ثابتـة، أو مـر عبر انفجـار كـبير (Big Bang) أو كان له عشرة أو أربعة أبعاد فذلك مجرد دوران حول الغموض الكبير الذي يلف وجودنا.

ويؤكد أبل يارد قائلا: بتذكير أنفسنا بجهلنا العميق بأمر الكون، وأن العلم بعيد عن كشف غموض وجودنا في الوقت الذي يثير شهيتنا للمعرفة فإننا لا ريب دائرون في دوامة غموض باق وعصى على أي حل.

(3) ويرى أبل يارد وصحبـه الإعلاميون بأن العلم لم ينبس بعد ببنـت شفـه حـول الـروح والإيمان والمقدر ويجادلون في أنه ليس بمقدور الفيزيائيين البرهنة على أن السيـد المسيح (عليـه السـلام) قـد حـول الماء إلى خمر، فـذلك كما يـرى أبل يـارد غير قـابل للتفسير وفق قوانين الفيزياء السـائدة. وبنتيجة مثل هذه المحاكمات يصل أبل يارد إلى أن العلم قد بلغ منتهى الفشل عندما عجز عن صنع أي فتح روحي.

(4) يئن أبل يارد وصحبه من المحافظين الجدد من انحسار السلطتين الأخلاقية والحضـارية في المجتمع الغربي ويدعون إلى سحق الديمقراطية الحرة نظرا لفشلها في الاختيار. ويرى أبـل يارد أنه في تربة هذه الديمقراطية تـوطدت طبيعة مسيرة العلم والتي أطلق عليها اسم العلمية scientism، نحو المجهول.

غضب المحافظين الجدد

وإذ تبين صمت نسبي على أعمدة الغضب الذي سماه دينيس أوفـر باي (أحد المفكـرين المساهمين بتحرير مجلة تايم الدولية، هذر الطبقات الذي حل محل صراع الطبقات اليوم، تشجعت الدكتورة ماري ميدجلي لتعطي الإشـارة إلى الناشر روتليـدغ بطبـع كتاب لها بعنوان: "العلم كـوسيلة خلاص" ليقوم بـدق اسفين شقاق بـين العلماء المعنيين بالعلوم الإنسانية وأخوتهم الباحثين في مختلف مجالات العلم الأخرى، وليظهر بأن العلم لم يرق إلى العالمية في سعيـه لتقصي الحقـائق من جهة، إن لم يكن قد اتخذ- لأسباب عديدة تنظم مسيرته نهجا صوفيا (إن صح التعبير) يعتمد "مبدأ أنثروبيا" يمكن تلخيصه بأنه: "من المحتمل أن يكون الكون قد صار كي نكـون نحن البشر فيـه" عن جهـة أخـرى.

ولا ريب في أن الـرد على صـوت الغضب هذا لا يتطلب بالضرورة عـالما، إذ يبدو جليـا أن أبل يـارد وميدجلي والداعمين لهما يودون، كـما يقول الدكتور مارك باونال (محرر مجلـة المخبر الدوليـة) أن يديروا عقـارب السـاعة ليعيشا في عالم الجهـل والخرافات (باونـال 1993). وإيضاحا لانتصار النهج العلمي على الجهل ومعتقداته في إنقاذ الأرواح البشرية، أورد الدكتور باونال قصة مضخـة ماء منطقـة سوهو في مـدينة لندن: فقد لاحظ طبيب محلي في القرن التاسع عشر أن النـاس من حوله في منطقة سوهو الذين يشربون من مضخـة ماء بعينها تصيبهـم الكوليرا وأمراض أخرى في الوقت الذي ساد فيه اعتقاد بأن الشياطين وأمثالهم هم الذين يقومون بمثل هذه الابتلاءات، وعنـدما باءت نداءات هذا الطبيب بـالفشل، عمـد إلى كسر مقبض مضخـة الماء هذه ليتعذر استخدامها وعلى أثر ذلك هـبطت هجمة الكوليرا وهي في أوجهـا، وتأكد عندها للناس في لندن أن الإدراك الفعلي للحاضر إنما يتم بالعلم وهو مفتاح المستقبل. وقارئ هذه السطور لا بد أن يجد أن الدكتور باونال لم يأت بجديد في قصة مضخة سوهو فمن خلال معرفته بالحديث النبوي الشريف لا بد ذاكر قول الرسول العربي (صلى الله عليه وسلم): "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبة عباده ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد.. وهو الدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء.. يرفع الله بـه أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدي بفعالهم وينتهي إلى رأيهم.. وهـو إمام العمل والعمل تـابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" (الإمام الحافظ المنذري 655 هجري).

العالم عبدالسلام

وإن كان جـام غضب أبل يارد وصحبه قد انصب على العلماء عبر العموديـن الأولين فيه فتلك سمة تميز العلماء في إيمانهم بعظمة صنع الله لوجودنـا، وليس لديهم ما يخشونـه من أي هجوم، ذلك لأنهم هم الذين يخشـون الله فقط من بـين العباد. وأذكر في هـذا الشأن قولا للأستاذ الدكتور محمد عبدالسلام حول حقيقة فتح الله عليه بالكشف عن وحدة القوتين الكهـرطيسيـة والنووية الضعيفـة، ذكر لي فيه أنه: انطلاقا من عميق إدراكه للحديـث النبوي الشريف- آنف الذكـر- وإيمانا (بقوة الله) جلت قدرته عمل جادا على بلوغ هذا الفتح المجيد، وعندما استمعت إليه بعدئذ وهو يشرح عميق توجهه التوحيدي هذا، (الـذي أطلق عليه أبل يارد التوجـه نحو نظريـة كل شيء) قال مـا معناه: كـما أفلح جـايمز ماكسـويل في القرن الماضي بتـوحيد القوتين الطبيعيتين الكهربائية والمغناطيسيـة ونعمنا بعده بعطاء الثورة العلمية والتقنية التي فجرها عمله التوحيدي حتى اليوم، فإنه لن تنعم البشرية بعطاء الثورة العلمية التقنية الثـانية المرتقبـة إلا بعـد عقود من الزمان قـد تصل إلى منتصف القرن المقبل بإذن الله وعبر هذه القناعة المميزة ساهم مع زملائه "العلماء البريطـان في قيادة الحملة على عملية تقزيم البحث والتطـوير العلمي من قبل السيدة مارجريت تاتشر خلال عقد الثمانينيات. وفيما يخص العمود الثالث لموجة غضب المحافظين الجدد، ليس ثمة عالم حق في عالمنا لا يملك إيمانا: فالاعتقاد بأن الطبيعة تشكل نوعا ما من كل متجانس نطلق عليه اسم الكون والذي تحكمه قوانين تـوصلنا إليها عبر البحث العلمي الحر العميق هو إيمان بحد ذاته، فخلق الكـون ونهايته مفهوم عقائدي وليس فلكيا. وإذا كـان التاريخ مصدرا لما نعلم اليوم فقد كان أجدادنا وآباؤنا أحرارا في صنع ما يريدون بمشيئة الله، يستيقظون في كل صباح شاكرين الله على نعمة رؤيتهم إشراقة الشمس وضحاها وغروبها ومسبحين بحمده على قطـرة المطر وهي تحييهـم والبيئة من حولهم، فنحن أحـرار كبشر عاديين وعلماء في إبداع تصورات تناسب إدراكنـا العقائدي والحضاري لطبيعـة الأشياء. وعنـدما كان سلـوك الإنسان ونزوعـه الروحي طلسما لا يـدرك تمكن علماء كيمياء الـدمـاغ أخيرا من ابتكار مداخل ومعالجات فعالة (إن لم تكن شافية كليا) لأمراض بشرية قاهرة: كـالإحباط، ومرض باركنسون، والصرع، تعمل اليـوم على إماطـة اللثـام عن طلسم التعاسة في السلوك الإنساني.

وسيلة خلاص وثراء أيضا

وفي الوقت الذي تجسـد ظاهرة "هذر الطبقـات" هذه عمق واقعيـة "علمية" نادي روما في تصـويره معالم الفراغ الذي بات ينظم وجود البشرية اليوم فقد جاء هذا الغضب عن سابق ترصـد لمجريات صراع المجتمع العلمي البريطاني مع حكومة السيدة مارجريت تاتشر خلال عقد الثمانينيات المنصرم وتركز جوهر هذا الصراع في (رغبـة) السيـدة تاتشر المنبثقـة عن بعض الرغبات الرئيسية لعقيـدة النظام العالمي الجديد قيد الظهور، في تقليص قـدر الدعم الوطني لجهـود البحث والتطويـر البريطانية عموما وفي الجامعات خصوصا. وعبر حملة فكرية منظمة أطلقهـا المجتمع العلمي البريطاني تحت شعار: "العلم قيـد الدمار: Science in Peril" قدر للعلماء الانتصـار، فذهبت السيدة تاتشر ورغبتهـا، وسادت عقيدة علمية تقول: ليس العلم وسيلة خلاص الإنسان من معاناته المرهصة اليوم فحسب بل هو المنبع الثر للثروة التقنية الوطنية. ويتفق العلماء البريطان على تأكيد هـذه العقيدة. والجزء الثاني منها من خلال الإشارة إلى أن سياسة السيدة تاتشر قد وضعت إمكانية الابتكار الوطنية دون الإمكانات العالمية الممسكة بزمام التقنية والأسواق الدولية وقـد رأت حكومة المحافظين الحالية جهارا أن لا مناص من إيلاء البحث والتطوير العلمي- التقني الدعم المادي والمعنوي كما يجب كـي يرقى إلى مثيلـه في العالم فبادرت أخـيرا إلى إصدار قـانون جديد يحمل اسم الورقة البيضاء. تعزيز إمكاناتنا رصد فيه إمكان تمويل قدره ستة بلايين جنيه إسترليني لشد أزر البحث والتطوير الوطني في ابتكار الثروة التقنية. هذا وتجدر الإشارة إلى أن الشركات البريطانية العاملة في ميدان الإنتاج الدوائي- الكيميائي بقيت حتى عام 1993 رائدة في إنفاقها على البحث والتطوير.

خسف يعيشه العلماء

وفيما يخص العلم وابتكـار الثروة التقنية في وطننـا العربي، لا يحتاج القارئ إلى أن يكون عـالما أيضا ليدرك واقع الخسف الـذي يعيشـه علماء الأمـة العـربيـة اليوم، فقد سبق إدراك معالمه عبر صرخـات مدوية لعدد كبير من مفكري الأمة العربية المرهـصة اليوم. ولن تعدم هذه الأمـة المجيدة التي كرمها الله جلت قدرته بإنزال قرآنه العظيم بلغتها، وجعل خاتم الأنبياء والمرسلين من أبنائها من أن يقـوم أولو الأمر فيها بتحويل القـوانين الناظمـة للبحث والتطـوير لـديها إلى "أوراق بيضاء" تماثل ورقة بريطانيا البيضـاء، تنهض بطموح مدرسة العلم العربية عاليا. والله على كل شيء قدير.

 

عدنان مصطفى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات