50 عاما من عمر الجامعة العربية بيت العرب.. هل نهدمه. أم نرممه؟

50 عاما من عمر الجامعة العربية بيت العرب.. هل نهدمه. أم نرممه؟

ملف خاص

خمسون عاما من الأسئلة الصعبة تثيرها ذكرى إنشاء هذا البيت العربي الرحب. الذي ارتفعت على واجهته رايات الحلم وانخفضت أمام وطأة الأزمات وانفرطت في قاعته المستديرة كل ما حاول العرب أن يجمعوه. ولكنه بقي مثل شعرة معاوية الوحيدة... فهل أنقذ ما يمكن إنقاذه؟

بعد مرور كل هذه السنوات فالمناقشات لم تنته تحت جدران هذا البيت. فالبعض ما زال يتمسك به كبيت للعائلة العربية يمكن أن نرمم جدرانه ونعدل ميثاقه ونعيد له هيبته المفتقدة. والبعض الآخر يرى أن الزمن قد تخطى هذا البيت لأن الخلافات إن لم تكن قد أضعفته فقد جعلت الكيانات الإقليمية الأخرى التي تكونت دوره هامشيا.. فهل نرمم هذا البيت أم نشرع معاولنا لهدمه؟.. هذا هو السؤال الخطير الذي تطرحه علينا مناسبة اليوبيل الذهبي للجامعة العربية..

و "العربي" إذ تحتفل بهذه المناسبة التاريخية وتعيد فتح "حجة" هذا البيت، لا تكتفي فقط بطرح قصة حياته أو المشاكل التي يعاني منها ولكنها تدير حوارا خاصا مع اثنين من أشد الساسة العرب حنكة حول مستقبل الجامعة العربية.. أولهما هو السياسي العربي البارز الدكتور عصمت عبدالمجيد الأمين العام الخامس في تاريخ الجامعة، وثانيهما هو الشيخ صباح الأحمد الصباح النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الذي يعد من أقدم وزراء الخارجية في العالم ومن أكثر المسئولين العرب خبرة بتاريخ هذا البيت العربي.

وإضافة للاستطلاع الشامل الذي اشترك فيه العديد من المسئولين والساسة والمفكرين، نقدم شهادة من داخل أروقة الجامعة للأمين العام المساعد. وتأمل "العربي" من خلال هذه التغطية الشاملة أن تكون قد أسهمت بدورها الفعال في إلقاء الضوء على واحدة من أهم المؤسسات العربية.

"نحن أحوج ما يكون إلى تضامن عربي حقيقي وفعال"
"العربي" تحاور الأمين العام للجامعة العربية

قال الدكتور عصمت عبدالمجيد الأمين العام للجامعة العربية إن عالم اليوم يسعى إلى إقامة التجمعات الاقتصادية الكبرى، لذا فإن علينا أن نقوم بالسعي لتفعيل العمل العربي المشترك. وأكد أن مشكلة الأسرى والمفقودين الكويتيين ما زالت عائقا دون التئام الجرح العربي. وقال في ختام تصريحاته إن أوان المصالحة مع إسرائيل لم يحن بعد. وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته مجلة "العربي" مع الأمين العام.

  • ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة العربية في المرحلة القادمة وهي تخطو عامها الأول بعـد الخمسين، لا سيما في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة.. ؟

- حتى أجيبك عن السؤال.. دعني أعـد بك قليلا إلى الوراء.. إلى الظروف التي كانت سائدة في العالم عنـدما أنشئت جـامعة الدول العـربية في الأربعينيات من هذا القرن.

فقد اتسمت هذه الظروف بظاهرة القطبية الثنائية بين القـوتين العظميين آنذاك: الـولايات المتحـدة الأمريكيـة من ناحيـة.. وما كـان يسمى الاتحاد السوفييتي من ناحية أخرى، وتصاعد حدة الحرب الباردة بينهما، وما أدى إليه ذلك من تحديد لتوازن القوى بينهما، وقد فرضت هذه الظروف على الدول النامية ومن ثم المنظمات الدولية الإقليمية القائمة آنـذاك أسلوبا معينا في التعامل مع هذه الظروف، أسلوبا اتسم بتغليب الطابع السياسي في التعامل مع القوتين العظميين على ما عداه من أساليب أخرى.

أما اليوم.. وبعد انتهاء نظام القطبية الثنائية.. وزوال الحرب الباردة، فإن تغيرات جذرية قد حدثت في خريطة الجغرافيـا السياسية وفي أسلوب إدارة الأزمـات، ومن ثم في الأسس التي قـامت عليهـا العلاقات الدولية منذ حقبة الأربعينيات من هذا القرن.. وظهور نظام دولي جديد من أهم سماته: السعي نحو إقامة التجمعات الاقتصادية الكبرى، بـدءا من الاتحاد الأوربي إلى منطقـة التجـارة الحرة في أمريكا الشمالية (النـافتا) إلى الايبك أو المنتـدى الاقتصادي / آسيا والباسفيك، وأخيرا ما وصلت إليه مجموعة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان).. وكل ذلك يواكب ويتفاعل في إطار المفهوم الجديد للاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية (الجات).. الأمر الذي يؤكد أن عالم اليوم هو عالم التجمعات الاقتصادية الكبرى التي لا مكان فيها لـدول فرادى تعيش على الهامش.

إنني أستطيع أن أقـول إن معالم هذه المرحلة الجديدة.. في ضوء التطورات السريعة والمتلاحقة تنبئ عن دخول منطقة الشرق الأوسط إلى مشارف عهد جديد نسعى فيه إلى بناء السلام العادل والشامل، وتحقيق الاستقرار والتوجه نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يتطلب من العرب أجمعين السعي لتفعيل العمل العربي المشترك، وبناء أسس التضامن العربي، وترسيخ مفاهيمه ليكون سياجا قويا ومنيعا لبنية الأمن القومي العربي. نحن الآن أحوج ما نكون لتضامن عربي حقيقي وفاعل.

منظمات عربية... خاملة

  • الملاحظ أن بعض المنظمات العربية المتخصصة تبـدو خـامـدة بعض الشيء.. فكيف يمكن تنشيطها؟.. ثم ما حدود التعاون بينها وبين نظائرها من المنظمات الدولية والإقليمية؟

- إن منظمات العمل العربي المشترك مطالبة في المقام الأول بتنشيط مؤسسات العمل العربي المشترك والتعاون بينها وبين المنظمات الدولية والإقليمية والاستفادة من التطورات والمتغيرات الدولية وما تمثله من تحديات لأمتنا العربية تعرض أمننا القومي العربي للخطر إن لم نستفد منها ونؤثر فيها.

إن الإصرار على تحقيق الهدف أمر قابل للتنفيذ متى توافرت الإرادة والتصميم وإنني أدعو جميع مؤسسات العمل العربي المشترك للاستفادة من علاقات التنسيق والتعـاون بين الأمم المتحدة وجـامعة الـدول العربيـة خاصة بعد أن انتهت الحرب الباردة التي كانت تعطل أعمال الفصل الثامن من ميثـاق الأمم المتحـدة المتعلق بالتعاون مع المنظمات الإقليمية، ووضع الاتفاقيات والقرارات التي توصلت إليها الجامعة العربية مع الأمم المتحدة موضع التنفيذ.

وفي الوقت الذي أدعو فيه مؤسسات العمل العربي المشترك للإسهام في مسيرة الإصـلاح الاقتصادي في أقطارنا العربية فإنني أدرك جيدا الظروف المالية الصعبة التي تعاني منها معظم هذه المؤسسات، ولكني على يقين من الاهتمام الـذي يوليـه المجلس الاقتصـادي والاجتماعي للأوضاع المالية الصعبة التي تعاني منها هذه المؤسسات والذي سيثمر عن معالجة جذرية لهذا الموضوع خاصة أنه يبحث في دوراته بصفة مستمرة السبل الكفيلة بدعمها من خلال تسديد الدول العربية لمساهماتها.. والجدولة التي سيضعها للديون المترتبة للمنظمات على بعض الدول العربية.

وإنني أناشد الدول العربية ضرورة الوفاء بالتزاماتها تجاه المنظمات العربية المتخصصة حتى تستطيع القيام بالدور المنوط بها، وقد يمكننا هذا من مطالبة هذه المنظمات بممارسة بعض مهامها كبيوت خبرة عربية يمكن الاستفادة منها بمقابل.

المصالحة العربية... متى؟

  • نحن مع التقييم أو الطرح الذي يرى أن المصالحة العربية الشاملة باتت أمرا ضروريا لاستعادة التضامن العربي.. ؟

- في الواقع إننا- كعرب- مطالبون بالإسراع بتحقيق المصالحة القومية العربية باعتبارها الأساس المتين لتحقيق آمال وطموحات الأمة العربية، تلك المصالحة القائمة على مبدأ المصارحة قبل المصالحة، والتي تقدمت بها إلى أصحاب الفخامة والجلالة ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية في 22 مارس 1993، عارضا فيها رؤيتي وأفكاري لاستعادة التضامن العربي القوي الذي تعرض لهزة عنيفة نتيجة للغزو العراقي للكويت عام 1990، والذي أراه عملا غير مسبوق في العلاقات العربية العربية، وأنه حتى يمكن استعادة التضامن العربي باعتباره الضرورة الحتمية التي لا بديل لها ولا غنى عنها، فإن إعارة بناء الثقة وإعادة الطمأنينة داخل أسرتنا العربية، أمر تحتمه المصالح القومية العربية العليا والتي أراها تتحقق عبر أربعة مداخل هي:

1 - إعلاء مبدأ احترام استقلال دولنا العربية وسلامة أراضيها وسيـادتها على ثرواتها وعدم التـدخل في شئونها الداخلية.

2 - احتواء أسباب أزمة الخليج بمختلف مراحلها ونتائجها تمهيدا لإغلاق ملف هذه الأزمة وإخراجها من دائرة الهموم العربية.

3 - البـدء بـإقـامـة بنية الأمن القومـي ومدها بالإمكانات التي توصلهـا إلى أداء واجبها بفاعلية وقدرة حتى يتحقق الاستقرار والأمن القومي بالجهود الذاتية للأمة حتى يحمل الأمن معانيه ليكون عربيا خالصا.

4 - وضع الضمانات وتحديد الالتزامات التي تجعل ما جرى في صيف 1990 حـدثا خطيرا وغير مسبوق في العلاقات العربية العربية، لا يجوز أن يتكرر أبدا وذلك بأن نوفر للجـامعـة العربية الوسائل اللازمة لحل المنازعات العربية العربية وديا وبالطرق السلمية، كما نوفر للجامعة أيضا الوسائل لممارسة الدبلوماسية الوقائية بشكل فعال وفوري، وهذا يستدعي البحث الجدي في تعديل ميثاق الجامعة بإضافـة ملاحق له وإنشاء محكمة عدل عربية.

  • البعض قد يتساءل لماذا لا يسافر الأمين العام للجامعة العربية إلى بغداد ويلتقي المسئولين هناك لإقناعهم بضرورة إتمام المصالحة العربية وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية.. ؟

- أقول بكل صدق إنني إذا وجدت أن الظروف بين الكـويت والعراق تستوجـب أو تستلزم أن أسافـر إلى بغـداد.. فسوف أفعل، ولكن هذا الأمـر مرهون كـما قلت بالظروف.

حقيقة اعتبرت القرار العراقي الخاص بالاعتراف بدولـة الكويت وبحـدودها الدولية مع العراق خطوة أولى مهمة ولكن لا بد أن تتلوها من جـانب العراق خطوات أخرى بالنسبة لتنفيذ باقي قرارات مجلس الأمن الدولي، حيث إن هذه القرارات تشكل مجموعـة مترابطة ومتكـاملـة وواجبة النفاذ.

وتعلم أن العراق مطالب حاليا بتنفيذ قرارات خـاصة بإعـادة الممتلكـات الكـويتية كما أنه مطالب أيضا بإعادة الأسرى الكويتيين وغيرهم.

وإذا كـان العراق قد خطا، بقراره بالاعتراف بدولة الكويت خطوة إيجابية فلعل الأيام القادمـة تحمل معها خطوات أخرى ينفذ بها العراق مطالب الشرعية الدولية. وخـاصة ما يتعلق بمسألـة الأسرى التي آمل أن يحدث تقدم في هذا الموضـوع الإنسـاني المهم. وذلك أن مشكلة الأسرى والمحتجزين والمفقودين الكويتيين تشكل أحد المعوقات الرئيسية لالتئام الجرح العربي، وفي رأينا أنه ما دام قبل العراق بقرارات مجلس الأمن الخاصة بأزمة الخليج فإن تنفيذه لهذه القرارات بصورة كاملة سيساعـد ولا شك في كسر إحـدى الحلقات التي تقف حجر عثرة في سبيل المصالحة القومية العربية التي أراها الأساس لإقامة مجتمع المستقبل العربي.

صلاحيات الأمين العام

  • عفوا لهذا السؤال الصريح جدا.. هل هناك قيود وحـدود ينبغي على الأمين العام لجامعة الدول العربية عدم الخروج عليها.. لأن البعض يرى أن طريق الأمن العام ملغم بالشراك السياسية؟

- إن ميثاق جامعة الدول العربية هو الدستور الذي تلتزم به كل الدول العربية وأتمنى أن يكون للأمين العام لجامعة الدول العربية بعض الصلاحيات التي تشبه إلى حـد ما الصلاحيـات الممنوحـة للأمين العـام لـلأمم المتحـدة وذلك وفق المادة 99 من ميثاق الأمم المتحـدة وهي تلك المتعلقة بأن ينبه الأمين العام للأمم المتحدة مجلـس الأمن إلى أي مسألـة تهدد السلم والأمـن الدوليين.

المقاطعة مع إسرائيل

  • هل آن أوان إلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل؟

- ينبغـي التأكيد على أن المقـاطعة العربية لإسرائيل فرضت لأسباب، وعندما تزول هـذه الأسباب يمكن النظر في إلغاء هذه المقاطعة.

والمقاطعة بنـد دائم على جدول أعمال مجلس الجامعة منذ عام 1954، والمجلس هو صـاحب القرار في هذه المسألة سواء بالإبقاء عليها أو إلغائها وذلك بـالنسبة للمقاطعة من الدرجـة الأولى، أما المقـاطعـة من الدرجتين الثانية والثالثة وهي المتعلقة بالشركات التي تتعامل مع إسرائيل ومع الدول العربية فهذا حق سيادي لكل دولـة عربيـة، وهي التي تقرر الإبقاء عليهـا أو إلغاءها.

وكـما تعرف فـالمقاطعة هي أداة دبلوماسية وقانونية تلجأ إليها كل الدول تجاه دولة أخرى في أوضاع تتسم بغياب السلام.

وحينما يتحقق السلام الشـامل والعادل مع إسرائيل وذلك بانسحـابها من جميع الأراضي العربية المحتلة، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي أرقام 242، 338، 425، 465، 252 والقائمة على مبدأ الأرض مقابل السـلام واستعـادة كل الحقـوق المشروعـة للشعب الفلسطيني بما فيها إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القـدس الشريف، عندئذ يمكن الحديث عن إلغاء المقاطعة العربية وتوحيد طاقات دول منطقة الشرق الأوسط نحو التنمية والاستقرار.

السوق الشرق أوسطية

  • مـاذا عن السـوق الشرق أوسطية.. وكيف يتعامل معها العالم العربي.. ؟

- لقد زاد الحديث عن السوق الشرق أوسطية بينما عملية ومسيرة السلام تتم. وشدت هذه القضية انتباه الكثيرين من المثقفين والمهتمين بـالشئـون السيـاسيـة الدوليـة لا سيما في أعقاب توقيع إعلان اتفاق المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي، والشيء الذي أريد التأكيد عليه هو أن قضية السوق الشرق أوسطيـة يجب ألا تخيفنا أو ترهبنا.. وذلك للأسباب التالية:

1 - أن السلام مع إسرائيل لـن يترتب عليه أن يكون لإسرائيل أية ميزة اقتصادية على الدول العربية، وإنما سيتم التعامل معها وفق معايير وضوابط تضعهـا كل دولة عربية وفق مصالحها الوطنية.

2 - أن كل دولة عربية تتمتع بسيادتها على كـامل أراضيها وعلى كامل مقدراتها الوطنية وبالتالي لن يكون هناك إرغام أو إكراه في التعـامل مع إسرائيل، وعلى سبيل المثال العلاقات المصرية الإسرائيلية والتي بدأت عـام 1979 فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين يسير وفق معاير وضوابط معينة.

3 - أن أي ترتيب شرق أوسطي تكـون إسرائيل طرفا فيـه لا يجوز أن يكون على حساب العلاقات العربية العربية، ذلك أن وراءنا نحـو نصف قرن من التعاون العربي تجسد في اتفـاقات عربيـة ومؤسسات عربيـة وشركات عربية.. وهذه تسير في طريقها.. ولا يجوز أن تتأثر سلبا بأي اتفاق أو مؤسسـة أو مشروع في إطار التعاون الشرق أوسطي.

4 - أن التعاون الإقليمي الشرق أوسطي لن يقتصر بالضرورة على البلاد العربية وإسرائيل وإنـما قـد يمتد إلى بلاد غير عربية في المنطقة مثل إيران وتركيا وقبرص.. والمسألة تتوقف على طبيعة القضية المطروحة.

5 - نصل من هذا التحليل إلى أن ما يسمى بالسوق الشرق أوسطية لا تخرج عن كونها منطقة تجارة حرة تقوم قواعدها على تخفيف الحواجز الجمركية وغير الجمركية مع احتفاظ كل دولة عضو بنظامها الجمركي وسياستها الجمركية الخاصة بها، ولا تتمتع فيها دولة عن غيرها من الدول الأخرى بأية ميزة أو أهميـة.. من هذا كان إيماننا أن السوق الشرق أوسطية لا تخيفنا كعرب.

لقد شهدت المنطقة العربية خلال العامين الماضيين 93 و 1994 تطورات مهمة في سبيل الوصول إلى حل سلمي للصراع العـربي الإسرائيلي، ومن أبـرز هـذه التطورات توقيع إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي والاتفاق الأردني- الإسرائيلي، فنحن أمام حقبة جديدة في تاريخ المنطقة تستلزم إحداث تغيير جـذري وشامل يتواكب وما يشهده الصراع العربي الإسرائيلي من جهود لتسوية شاملة وعادلة.

"العربي" تحاور عميد الدبلوماسية العربية
صباح الأحمد: الجامعة العربية تظل ملاذ العرب جميعاً

أكد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الكويتي أننا لا نستطيع أن نلقي كل اللوم على الجامعة العربية بسبب ما حدث بين الدول العربية من خلافات وصراع خلال العقود الخمسة الماضية، وأنها أظهرت من الاستمرار والثبات ما يجعل منها بيتا لكل العرب. وأضاف أن الكويت ترى أن الجامعة قد قامت بما هو مطلوب منها في إطار ما تملك من إمكانات. وفيما يلي نص الحوار:

  • الجامعة العربية كمشروع للتآزر القومي والتنسيق والتكامل وحل المنازعات في إطار الأسرة العربية.. كيف يرى الشيخ صباح الأحمد أقدم وزير خارجية عربي وصاحب الخبرة الدبلوماسية العربية العميقة زمنا وتجربة بداية مشروعها؟ وهل حقق أهدافه؟

- كما هو معروف فإن بداية مشروع الجامعة العربية قد تم عندما التقت قيادات سبع دول عربية في القاهرة في شهر مارس عام 1945 وأعلنا عن قيام جامعة الدول العربية واعتمدوا ميثاقها الذي نص على شروط عضوية هذه الجامعة لجميع الدول العربية المستقلة، كما أن هذا الميثاق لم يمنع من قيام تجمعات إقليمية تجمع الدول العربية المتجانسة والمتقاربة كمجلس التعاون لدول الخليج العربيـة أو الاتحاد المغاربي، كما وضع آليات معينة لحل الخلافات العربية. وهو في كل ذلك كأنما كـان يستقرئ مستقبل المنطقة العربية منذ فترة مبكرة جدا. ونحن لا نستطيع أن نلقي كل اللوم على الجامعة العربية بسبب ما حدث بين الدول العربية من خلافات وصراع خلال العقود الخمسة الماضية. فجزء كبير من اللوم يقع على بعض أعضائها ممن أعطوا لأنفسهم أدوارا حاولوا فيها تخطي جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية تجمع كل العرب.

ولكن تظل الجامعة العـربية برغم العـديد من الانتكـاسات وحالات التراجع سواء بالوضع العربي العام أو بالمصاعب التي واجهت العمل العربي المشترك تظل ملاذا للعرب جميعا، ولعل أبرز ما يسجل لها في هذا السياق ما أظهرته من قدرة فائقة على الاستمرارية والثبـات لتبرهن على أنها بيت للعـرب جميعـا وأداة ضرورية لآمال وطموحات الأمة.

الكويت وتعزيز دور الجامعة

الكويت ذات الانفتاح العربي المبكر كيف كان تفاعلها مع الجامعة العربية في القضايا العربية البارزة (سواء في الانفراج أو الأزمات).. ماذا تقول ذاكرة الشيخ صباح الأحمد؟

- منذ دخول الكويت إلى عضوية الجامعة العربية في العشرين من يوليو عام 1961 سعت بكل الوسائل إلى تعزيز دور الجامعة، وشـاركت في عضوية معظم المؤسسات واللجان التي انبثقت عن الجامعة وأسهمت في دعم وتعـزيز أداء تلك المؤسسات سعيـا لتفعيل العمل العربي المشترك بما يحقق تطلعات وآمال الشعوب العربية. كما كان للكويت دائما حضور واضح في تنقية الأجواء العربية دعما للتضامن العربي المنشود من خلال المبادرة والمشاركة في العديد من لجان الوساطة التي شكلتها الجامعة العربية لحل الكثير من الخلافات العربية - العربية.

ولعل الدور الكبير الذي قامت به الكويت بمساندة شقيقاتها العربيات في البحث عن مخرج للحرب الأهلية اللبنانية من خلال المبادرة بالدعوة لتشكيل لجنة مساع حميدة لهذا الغرض ورئاسة أعمالها والتي تعتبر البذرة الأولى نحو الحل السلمي الذي قادته الشقيقة المملكة العربية السعودية فيما عرف لاحقا باتفاق الطائف الذي وضع حدا للحرب الدائرة آنذاك وأنهى صراعا دام أكثر من خمسة عشر عاما، لعل هذا المسعى يشكل أبرز دليل على تفاعل الكويت الإيجابي مع قضايا أمتها.

كـما كان للكويت الدور الأبـرز في حل العديـد من الخلافات الأخرى التي نشبت بين الأشقاء.

  • ارتباط الكويت بالجامعة العربية جاء مواكبا لاستقلالها ومشتبكا مع أزمة صنعها تهديد عراقي للكويت عام 1961 لماذا اختارت الكويت دخول الجامعة العربية.. وكيف تفاعلت الجامعة العربية مع الأزمة آنذاك.. وما تقييمكم لهذا التفاعل؟

- إن دخـول الكويت لجامعة الدول العربية لم يكن اختيارا ولكنه واقع يفرضه عليها انتماؤها الطبيعي للأمة العربيـة فقد حصلت الكويت على استقلالها السياسي عن بريطانيا في 19/ 6/ 1961 وانضمت إلى جـامعة الدول العربية كـدولة عـربية مستقلة ذات سيادة في 20/ 7/ 1961 وهي ذات السنة التي تزامنت مع أزمة صنعها النظـام العراقي آنذاك بتهـديده لدولة الكويت المستقلة حديثا. وقد كان تفـاعل جامعة الدول العربية مع الأزمة مؤثرا وإيجابيا وذلك وفـق ما يمليه ميثاقها من ضرورة احترام السيادة للدول الأعضاء وحل النزاعات بالطرق السلمية وعـدم التدخـل في الشئون الـداخلية للدول الأخرى. وفي الواقع كان تفاعل الجامعة العربية مع الأزمـة منسجما مع ما جاء في بنود اتفاقية الدفـاع العربي المشترك، حيث تم وضعها موضع التنفيذ وكان لذلك أثره في تحويل مجرى الأحداث آنذاك.

الجامعة وأزمة الغزو

  • الجامعة العربية والكويت مرة أخرى.. وفي أزمـة أخرى مع العراق وصلت إلى حد الغزو والاحتلال.. ماذا فعلت الجامعة العربية قبيل الغزو وبعده، وفي جهود تحرير الكويت؟ وكيف تقيمون هذا الفعل؟

- نحن في الكويت نرى أن الجامعة العربية قد قامت بـما هو مطلوب منها في إطار ما تملكه من صلاحيات وإمكانات. وعندما نعود بالذاكرة إلى الفترة التي سبقت الغزو العراقي للكـويت فقد قام العراق بإرسال مذكرة لجامعة الـدول العربية ضمنها مجموعة من الادعاءات والتي ردت عليها الكويت بمذكرة تفصيلية فندت فيها تلك الادعاءات ودعت الجامعة العربية لمعالجة الموقف وذلك من خلال لجنة في إطار الجامعة يتم الاتفاق على تشكيلها.

كـما أن الأمين العام للجامعة زار الكويت والعـراق محاولا التوسط بين البلدين إلا أن النظـام العراقي الذي كان عازما على العدوان لم يسمح للجـامعة ولا لبعض الزعماء العرب الذين حاولـوا ثنيه عن العدوان بـالقيام بأي دور. كـما أن مجلس الجامعة قد انعقد في الثالث من أغسطس عام 1990 وأصـدر بيانا أدان فيـه العدوان. وكانت قمـة القاهرة في العـاشر من أغسطس أكبر إدانة لهذا العدوان حيث صـوتت 14 دولة عربية إلى جـانب الحـق الكـويتي- وهو ما يمثل ثلثي الـدول الأعضاء- وأعطت للكويت الحق للاستعانة بمن تشاء لتحـرير أرضها.

الأسرى.. القضية الأولى

  • تحررت الكويت، لكن ذيـول الغزو العراقي ما زالت باقية في الصورة.. قضية الأسرى على سبيل المثال البارز.. ماذا فعلت الجامعة العربية؟ وما الذي ينبغي أن تفعله؟

- مما لا شك فيه أن قضية الأسرى والمرتهنين وغيرهم من رعـايا الـدول الأخرى في سجون العراق تظل على رأس أولويـات اهتمامات الكـويت على كل الأصعـدة رسميا وشعبيا. والكويت التي لم ولن تدخـر جهدا في سعيها لإنهاء هذه المأساة الإنسانية التي طال أمدها قد أيـدت كل المبادرات التي قـامت بها الـدول الشقيقـة والصديقـة والمنظمات الإقليمية والدولية للمسـاهمة في إطلاق سراح الأسرى. وضمن ذلك الإطار تأتي الجهود المشكورة التي بذلتها وتبـذلها الجامعة العـربية لتحقيق ذلك من خلال قيام الأمين العام بـإيفاد العديـد من مبعوثيه لبغداد، إلا أن هذه الجهـود قد اصطدمت بالموقف العراقي المتعنت الرافض للاعتراف بوجـود أسرى ومرتهنين لـديه. ولا بـد من التأكيـد هنا على أن الحل يكمن في ضرورة تنفيـذ العـراق لجميع قـرارات مجلس الأمن ذات الصلة بعـدوانه على دولـة الكـويت لاسيما ما يتصل منها بقضية الأسرى والمرتهنين الكويتيين وغيرهم من رعايا الدول الأخرى.

الكويت والبناء الجماعي

  • الجامعة العربية كمشروع جماعي عربي لها وجوه عديدة سياسية واقتصادية، وغير ذلك.. ماذا قدمت، وتقدم الكويت.. وماذا يمكن أن تقدم لتفعيل دور الجامعة في المستقبل؟

- ليس بخـاف على أي متتبع أن من الثـوابت الأساسية لسياسة الكويت الخارجيـة منذ استقلالها العمل على دعم كل الجهـود الجـماعيـة الخيرة سواء إقليمية أم دوليـة. إن الكويت وعلى امتداد تاريخها كان لها دوما السبق في تعضيـد البنـاء الجماعي للجامعة العربية في العديد من المجالات، فحضور الكويت الدائم لكل اجتماعات المجالس الـوزارية ومشاركتهـا الفاعلة في جميع القمم العربية ودعمها لكل القـرارات والمشـاريع التي تبنتهـا الجامعـة العربية، إضافة إلى ما قـدمته من إسهامات مالية للمؤسسات الاقتصادية العربيـة التابعة للجـامعة والذي يعتبر حقـا وواجبـا على الكويت تجاه تلك المؤسسات الهادفة إلى نـماء ورفـاهية شعوب الدول الأعضاء. وستظـل الكويت داعمة ومناصرة لكل جهد يصب في تفعيل دور الجامعة حـاليا ومستقبـلا وستسعى بكل الإمكانات المتاحـة لإبراز دورها ليواكب ما تتطلع إليه شعوب المنطقة من آمال وطموحات.

  • الجامعة العربية والنظام العربي.. كيف ترونهما في أفق المستقبل؟

- نحن نعتقد بأن الجامعة العربية تستطيع أن تلعب دورا مهما في قيـام نظـام عربي جـديد مبني على احترام سيادة واستقـلال كل دولة فيه صغيرة كانت أم كبيرة، نظام يرتكز على تحقيق مصـالـح دولـه أولا. وتفعيل العمل العربي المشترك من خـلال تجمعات عربيـة إقليمية تجمعها مصالح مشتركـة تحت مظلـة الجامعـة العـربيـة، كما أنـه من الضروري في هذه المرحلة أن نبادر إلى تقييم شامل لأداء وعمـل الجامعـة العربيـة بما يحقق لها القدرة من أجل الارتقاء بالعمل العـربي المشترك وبما يحقق آمالنا وتطلعاتنا في مستقبل أفضل لأبنـاء أمتنـا العربية.

يسعدني أن أتقدم بخالص التهنئة لمعالي الأمين العام لجامعة الـدول العربية ولجميع العاملين فيها بمناسبـة الذكرى الخمسين لتأسيس الجامعـة، وآمل أن تكـون هـذه المناسبة حافزا لنا جميعا من أجل السعي إلى تعزيز وتطوير جامعة الدول العربية لتمكينها من القيام بدورها لتحقيق آمال وطموحات الشعوب العربية.

والله الموفق

الجامعة العربية .. بين الماضي والمستقبل ..
هل انتهى عمرها الافتراضي؟
بقلم: الدكتور هيثم الكيلاني

لا نكـران في أن الـذكـرى الخمسين للجـامعـة العربيـة تأتي في وقت فترت الحماسـة لها، وضعفت روابط الـرحم القومي، فهناك من يـدعو إلى أن يستبـدل بها نظامـا شرق أوسطي جـديـدا، أمـا المشفقـون عليهـا والـراثـون لحالها فهم يتنـادون إلى إجـراء عمليـة إصـلاح سريعـة، فهل يمكن إنقـاذ مـا يمكن إنقـاذه؟

أصبح الحديث عن الجامعة، بعد أن بلغت من العمر خمسين عاما، من شئون الساعة واهتمامات الناس. وذهبت الأحاديث مناحي شتى، تتراوح بين داع إلى الحفاظ على الجامعة وتطويرها، باعتبارها البيت الذي ينتدي فيه العرب، وداع إلى طيها من الوجود، إذ تجاوزها الزمن، وأصبحت غير قادرة على العيش ونحن نقترب من القرن الحادي والعشرين، ولا بد من أن يحل محلها تنظيم إقليمي من نوع آخر، في الشكل والمضمـون. ويقف بين هذين الحدين دعاة آخرون، يرى بعضهم أن إصلاح الجامعة هو الحل البديل، وبرى البعض الآخر أن الإصلاح يجب أن يكون جذريا فيطال الميثاق والمفاهيم والهيكل والأجهزة حتى يبلغ الأمر حد تأسيس جامعة عربية جديدة. ثمة ظاهرتان تعبران عن هذا الانشغال بالجامعة ومستقبلها. وتتمثل الظـاهـرة الأولى في ذلك السيل المتـدفق من الدراسات والمقالات والتصريحات التي تشد الانتباه إلى حالة الجامعة، وما هي فيه من مأزق وظيفي ومالي، أدى إلى إصابتها بالعطالة وبالعجز عن معالجة انهيار التضامن، ونمو النزعة القطرية، وتعاظم الخلافات العربية عددا ونوعا، وتكاثر الاتهامات الموجهة إلى الجامعة وتحميلها مسئولية ما وصل إليه حال العرب من تدهور. أما الظاهرة الثانية فتتبدى في تكاثر الندوات والمؤتمرات التي تجعل في صدر حواراتها مسألة الجامعة، وبخاصة تعديل ميثاقها وتطوير وظائفها وبنيتها حتى تستجيب للمتغيرات الطارئة على الأوضـاع العربية والإقليمية والدولية. وفي أدبيات هاتين الظاهرتين تعرضت الجامعة لطعون ونقود كثيرة ومستمرة، بلغت ذروتها في إثر حـرب الخليج الثانيـة. ونجحت تلك الطعون والنقود في إيجاد مناخ من الشك والفتور حيال الجامعة وميثاقها وما فيهما من ثغرات وما يفقدانه من وسائل الفاعلية القومية.

عودة إلى التأسيس

لقد نشأت الجامعـة في مارس/ آذار 1945، في إطار النظام العالمي الذي رسمت معالمه وترسخت دعائمه في إثر الحرب العالمية الثانية. ومن الطبيعي أن تكون الـدول المؤسسة للجامعة- وهي سبع- في موقع التأثر بالنفوذ الغربي بعامة، والأمريكي بخاصة، إذ كان الاستعمار البريطاني- الفرنسي متشبثا يومـذاك بمعظم أنحاء الوطن العربي. وقد عد بعضهم الرضا البريطاني عن تأسيس الجامعة مأخذا على المؤسسة القومية. كـما جاء ميثاقها مبنيا على أساس استقلال الدول الأعضاء وسيـادتها وداعيـا إلى التعـاون فيما بينهـا في مختلف المجالات.

وقـد يحسن بنا- من قبيل الذكرى- أن نتذكر أن التيار القومي في الأربعينيات كان وراء قيام مفاوضات ما يسمى يومذاك "الاتحاد العربي" وحينما بدأ رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس بـاشا تلك المفاوضات نص في دعوته إليها على ضرورة "السعي للوحدة العربية بجبهة متحدة بالفعل" من أجل تحقيق الأغراض التي تنشدها "الأمة العربية"، وذلك ببحث "أسس التعاون العربي في المستقبل" وبحث "شكل الوحدة المنشـودة بين الدول العربية المختلفة".

وبالرغم من هذه "النيـات" القومية الرفيعة، انتهت المفاوضـات إلى صياغة ميثاق ساد فيه منطق "الدولة" بالحفاظ على سيادتها واستقلالها بشكل مطلق، وخلا من لفظة "الوحدة العربية"، وأقام تنظيما اختيارياً أساسه التنسيق والتعاون، والرضا العام والتوافق الجماعي. ولهذا فالقرارات الصادرة منه ملزمة لمن يقبلها فقط. ولقـد مثلت هذه الأسس عنصر قـوة وعنصر ضعف في الوقت نفسه. فإلى جانب أنها وفرت للتنظيم عوامل المرونة والقدرة على التطوير، وضمنت المساواة بين جميع الدول الأعضاء، أدت قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات إلى عدم الاهتمام في موضـوعات الجامعة وشئونها، وإلى اللا مبالاة في تنفيـذ القرارات، سواء وافقت عليها هذه الدولة أو تلك أو رفضتها.

وفي مثل هذا النوع من التنظيم، الذي يقوم على الاختيـار والـرضـا الجماعي، والحافل بالخلافات والمنازعات البينية، كـان من الطبيعي أن يسيطر العامل السيـاسي على سـائر العـوامل، وأن تطغى المصـالح والسياسات القطرية على المصالح والأهداف القومية.

وحينما اتفقت الـدول المؤسسـة في بـروتـوكـول الإسكندرية على أنه "لا يجوز في أية حال اتباع سيـاسة خارجية تضر بسياسة جامعـة الدول العربية أو أية دولة منها" عادت فألغت بعد ستة أشهر فقط هذا "القيد" في ميثاق الجامعة. وهكذا خلا الميثاق من مبدأ الالتزام بتوحيد السياسات والمواقف الخارجية، وخضع ذلك كله للمبدأ العام الـذي يقول إن قرارات مجلس الجامعة تلزم من يوافق عليها، حتى بلغ الأمر ببعض الدول أن تلغي- من ذاتها وبـذاتها- قـرارات كـانت قـد وافقت عليها ونفذتها.

وهنا تجدر بنا الإشارة- كمثل- إلى لبنـان الذي كان أكثر الأعضاء حساسية واهتماماً بالنص على سيـادة الـدول الأعضاء واستقـلالها، حتى أن بـروتوكـول الإسكندرية تضمن تأييـد الدول العربيـة "احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة". غير أن ما ناله لبنان من تأييد لاستقلاله وسيادته الكاملين في إطار المؤسسة القومية، نالته جميع الدول الأعضاء دون تسمية محددة لكل منها. وهكـذا وقفت جميع الدول العربية تنادي بجامعة قوية دون أن يتنازل الأعضاء عن مقدار شعرة واحدة من سياداتهم وإراداتهم الحرة. فكـان أن نمت السيادة والإرادة القطريتان نموا عظيما في إطار الجامعة على حساب إهزال المؤسسة القومية وإضعافها إلى حد الشلل والعطالة.

وحينما برزت الجامعة إلى الـوجـود، لم تخل بنيتهـا وميثاقها من النواقص والسلبيات الكثـيرة، التي كانت موضع النقد والطعن، حتى عدها دعاة الوحدة العربية عائقا في سبيل الهدف القومي الأسمى. وبالرغم من ذلك، استطاعت الجامعة أن تطور ذاتها، وأن تدفع بالعمل المشترك إلى جميع مجالات الحياة، وسارت به من خـلال المنظمات المتخصصة والمجـالس الـوزاريـة والتشكيلات النوعية خطوات واسعة على دروب التعاون والتنسيق. لكن الظروف والعـوامل السياسية حسرت تلك الخطوات، وحدت من مشروعات الإنجاز. وهو ما أوقع الجامعة في مأزق التناقض بين المقرر والمنفذ، أو بين النص والتطبيق، ذلك المأزق الذي يعبر عنه بلغة أدبية رفيعة بشعار "الجامعة بين الواقع والطموح".

في تفسير الوضع الراهن

ولقد ظهر اتجاهان رئيسيان في تفسير حالة الجامعة. ذهب أحدهما إلى أن القصور التكويني للجامعة يكمن في الميثاق نفسه. وعوضاً عن أن تسد الدول الأعضاء أوجـه القصـور وثغرات الميثاق بسلوكيات قوميـة، أضافت بعض تلك الدول مجموعة من الممارسات أدت إلى زيادة أوجه القصور وفتح ثغرات جديدة. وهو ما أدى بالتـالي إلى انهيار بنية النظـام العربي. ويسرد أصحـاب هـذا التفسير قـائمـة طـويلـة من تلك الممارسات، يدرجونها تحت عنوانين كبيرين هما: انتهاك مبادئ الميثاق، وتفشيل خطـط ومشروعات التعـاون والتكامل الاقتصـادية والثقافية والسياسيـة. ولا يعدم أصحاب هـذا الاتجاه أن يجدوا من الوقائع والأمثلة ما يدعمون به رأيهم، وهو كثير ومتنوع على مدار نصف قرن.

أما الاتجاه الثـاني فينظر إلى الـواقع العربي من زاوية أخرى. فهو يرى أن الأقطار العربية تملك، مجتمعة، عناصر كـافية لتحقيق تكامل يمكنهـا من أن تحل الأمة العربية في منزلـة مناسبـة على الصعيـدين الإقليمي والدولي. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الجامعة قامت بوظائفها، بقدر ما أتيح لها وما قبلت الدول الأعضاء أن تقوم بـه، فنجحت أحيانا وفشلت أحيـانـا أخرى. ويستعـين أنصار هذا القول بقائمـة طويلة من الوقائع والشواهد، مدعومة بالإحصاءات والخطط والمشروعات التي أقـرتها مؤتمرات القمـة ومجلس الجامعة والمجالس والمنظمات المتخصصة.

بـادئ ذي بـدء، لا بد مـن ملاحظة أن الجامعة منظمة فريدة في نوعهـا في العالم، وذات مواصفـات متميزة وخاصة بها، بحيث لا تشاركها فيها أية منظمة أخرى. وجـوهر مشكلتها أن على الجامعة أن تنظر في مصالح وشئون أمة واحدة مقسمة على اثنتين وعشرين دولة. وهـذه معادلـة جـد صعبـة ولا خلاص من صعوبتهـا وتعقدهـا قط في الوقت نفسـه. فمن خلال تباين الآراء والمواقف والسياسات التـي قد تبلغ أحياناً حد التنـاقض، يجب على الجامعة أن تنسج رأيا واحدا وموقفا واحداً وسياسة واحدة.

في النزاعات وعدم الالتزام

وبالرغم من أن الجامعـة غدت تجسـد النظام الإقليمي العربي، بـانضمام جميـع الـدول العربية إلى عضويتها، ظلت نظاماً فاقداً البعـد القومي والقدرات التي تتمتع بها المنظمات الإقليمية المماثلـة، حين حرص كل عضو على أن تكون سيادته كاملة، وحين رفض أن يتنازل عن بعض سيادته من أجل أن يؤسس المحـور القومي للجـامعة، وأن يوفـر لها العوامل التي تحولها إلى منظمـة إقليميـة ذات محتـوى قومي. وليس ذنب الجامعـة، أن هـذه القـوة الإقليمية لم تكن بالفـاعلية المطلوبـة الآن، أي بعد نحـو خمسين عامـا. ذلك أن الأعضاء السبعة حرصوا- وسايرت الأقلية الأكثرية في هذا الحرص على مضض- على أن تظل المؤسسة القومية أصغر حجما وأقل قدرة من كـل دولة عضو، وذلك بأن يظل كل عضـو فيها ناظما ارتباطه بها بالشكل الذي يشاء، وحراً في أن يلتزم أو لا يلتزم بأي قرار يصدر من الجامعة. وإذا نفذ التزامه فبطريقته وعلى هواه، دون أن يخشى حسـابـاً من الجامعـة المكلفة بمتـابعـة تنفيذ القرارات، وهـي لا تملك قـانـونـاً أو قـوة أو وسيلة تستخدمها في إلزام الأعضاء بتنفيذ ما قـرروه، أو بعدم الانسحاب من قرار قبلوه ونفذوه ثم بدا لهم أن يخرجوا عليه.

ويبـدو أن الآباء المؤسسين للجامعـة، لم يتنبأوا بـما يمكن أن تكـون عليه الخلافـات البينية، وتطوراتها المحتملـة، حتى تبلغ حـد العدوان بالقوة المسلحـة. وبالرغم من ألوف القرارات التي اتخذتها مجالس الجامعة على مدار حوالي خمسين عاماً، والتي بلغ بعضها حداً كبيراً من الأهمية وخطورة المسئـولية، ليس بين تلك القرارات ما ينشئ آلية قادرة على استيعاب الخلافات التي لا مفر من نشوئها، وعلى معالجتها بالحد من تطورها ثم بتسويتها.

لقد أراد أصحاب البيت أن يتركوا المؤسسة القومية تنظيما إقليميا خـاويا من أي بعـد قـومي حقيقي لا ظاهري فقط. ومن هنا افتقدت الجامعة القدرة على إنقاذ مشروعاتها القومية من وهدة الخلافات، وتحييد المشروعـات الاقتصاديـة والاجتماعيـة من التأثيرات والمواقف السياسيـة. لقد حرصت الدول الأعضاء على ألا تكون للجـامعة سلطة فعلية واضحة ومحددة في أي مجال قومي، تستطيع بممارستها أن تنجز مشروعاً قومياً. إن بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة، يضع في إحدى دراساته القديمة اليد على الجرح حين يقول "هذا البناء الاتفاقي ما هو إلا واجهة تخفي الأزمة التي يمر بها التعاون العربي". إن "الدول العربية ليست لديها رغبة حقيقية في الارتباط مع بعضها بالتزامات أساسية فعلية، بل هي، في الوقت نفسه، راغبة في أن تبين للرأي العام أنها منطلقة بحزم في طريق الاندماج".

ومهما قيل في أسباب محنة النظام العراقي، وبخاصة الأسباب الخارجية، فلا بد من الاعتراف بأن هذا النظام وهنا أستعير قول الدكتور محمد الرميحي- قد قوض من داخله، ولم تكن الأسباب الخارجية- إن وجدت- سوى عوامل مساعدة.

في تطوير الجامعة

هناك عامل بدا متواتراً على مر السنين، حتى غدا وكأنه أحد الثوابت في الفكـر السياسي العربي، وهو أنه لا بديل للجامعة، ولا خيار آخر للعرب إلا أن ينتظمهم هذا البيت. غير أن هذه القولة تتعرض الآن للمراجعة، وبخاصة أن النظام العربي يقف على مفرق طرق، بعد أن تطور نوع تدخل القوى الخارجية في شئونه وتغير حجما وفاعلية، وتسارعت وتيرة تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، وتكـاثرت المشكـلات العربية حتى أورثت الجامعة العجز.

إن هذه العوامل، وغيرها، وضعت المؤسسة القومية على مفترق طرق. فقد يستمر الوضع العربي الراهن مدة من الزمن، وقد تنشأ عوامل أخرى تدعو إلى إقامة نظام إقليمي بديل، أو تدفع بـالجامعـة- وهذا هو المأمول والمرجح- إلى إحياء التضـامن العربي، على أسـاس تطوير المؤسسة القومية في ضوء التجـارب والممارسات والعبر التي عاشتها طوال نصف قرن، وبخاصـة أن وسائل التطوير متوافرة، فالميثاق بمرونته قـادر على استيعاب التطوير المنشود، وعلى الاستجابة لما يستجد من مفاهيم وآليات.

وإذا ما تتبعنا الأدبيات التي تناولت الجامعة بالبحث والنقد، فإننا نجد ناظما يجمع معظمها، ويكـاد يكون القاسم المشترك بينها. وجوهره الدعوة إلى تطوير الجامعة، فلم يعد مقبولا أن تبقى المؤسسة القومية عاطلة بإرادة أعضائها، فلا هي حي فيرجى، ولا ميت فينسى.

وإذا كـانت الجامعة صنيعـة أصحـابها، ومـرآة أوضاعهم، فتكـون كما يشاءون، فإنها، في الـوقت نفسه، كالمصهر الذي تختلط فيه مجموعة من المعادن، وتخرج منه سبيكة جديدة تختلف في صفاتها عن صفات كل معـدن على حـدة، وتحمل، في الوقت نفسـه، خصائص كل معدن اندمج في صياغة تلك السبيكة.

وحين تدور عجلة تطوير الجامعـة، لا بد من أن يسعى التطوير إلى توفير آليـة تستطيع الجامعة بها إدارة الأزمات، واستيعابها فـور وقوعها، من أجل إيجاد حل لها، على أن تملك تلك الآلية الوسيلة القادرة على فرض ذلك الحل. إن ما جرى في صيف 1990 يبقى ماثلا في الفكر أنموذجاً للعبرة.

ومهما أرادت الجامعة، بأمانتها العامة، أن تتحرك وتنشط في برامجها ومشروعاتها القومية، فإنها تبقى أسيرة إرادات أعضائها، فهم أصحـاب القرار فيها، وهم الذين لم يريدوا، حتى اليوم، أن يعدلوا الميثاق ليمنحوا المؤسسة القومية الإمكانات والصلاحيات التي تؤهلها للقيام بدورها كمنظمة إقليمية قومية. لهذا فإن أية مقاربة لإصلاح الجامعة لا بد من أن تنطلق من إرادات الأعضاء ومن قرارهم. وفي غير هذه الوسيلة، ستبقى الجامعة كـما أراد لها أصحابها، منتدى قوامه الضعف وفقدان القدرة على التدبير.

ولقد أدرك العاملون في الجامعة مدى الحاجـة إلى التغير. ونشطت المساعي من أجل ذلك، وطرح الأمين العام أمام مجلس الجامعة ما انتهت إليه مؤتمرات الدول والخبراء من تعـديلات للميثـاق، وهيـاكل جـديـدة للجامعة، وتطويرات جذرية لوظائفهـا. وقد أخذت تلك الجهود والصياغـات في حسبـانها ثلاثة أمـور رئيسية، أولها تحديث الجامعة لتصبح قادرة على التعامل الكفء مع المتغيرات العربيـة والإقليميـة والـدوليـة. وثانيها إعطاء الميثاق صبغة أكثر قومية، بترسيخ وتعميق البعد القومي الذي كـان مفتقدا في الجامعة كمؤسسة إقليمية قومية. وقد امتـد هذا البعد إلى جميع المجالات، بدءاً بالإنسان العربي، وانتهاء بالأمن القومي، ومرورا بـالاقتصـاد والثقـافة والاجتماع والعلم والتكنولوجيا والقانون. وثالـث الأمور إيجاد آليـة تعـالج الأزمات بمختلف أشكـالها وفي حين نشوئها، وتتوقـاها قبل حدوثها إن أمكن ذلك.

قبل أن نصل متأخرين

ونحن إن عدنـا إلى مجموعـة الأدبيات التي قيلت في الجامعة وميثاقها، وبخـاصـة منـذ صيف 1990، ووضعنا جـانباً ما كان منها متطرفاً أو مغرضاً أو وليد الانفعال، فإننا نلاحظ أمرين: أولهما أن معظم ما وجه إلى الجامعة وميثاقها من طعـن ونقد يحمل في طياته كثيراً من الحقائق والوقائع ويسلك درب الإصلاح من منطلق قومي. والأمر الثاني أن تلك الحقائق والوقائع مردها إلى أصحاب البيت أنفسهم، أي إلى الدول العربية، وليس إلى الجامعة أو الميثاق.

ولنحتكم إلي الميثاق. وسنجد أن الميثاق بمجمله كان نصاً بسيطا، غير معقد. قال أفكاراً قليلة. وحدد أهدافاً متواضعة، ولكنه- في الوقت نفسه- فتح الأبواب والنوافـذ والسقوف كلها لكي يحول أصحـاب المؤسسة القومية هذا البيت الصغير الضيق المتواضع في شكلـه ومحتواه إلى حصن لا تناله العواصف. إن مقارنة نجريها بين ميثاق الجامعة المؤلف مـن 20 مادة وميثـاق الأمم المتحدة المؤلف من 111 مادة، تبين الفوارق الشاسعة جدا في جميع المجـالات بين الميثاقين،، بالرغم من أن الفـارق الزمني بين صيـاغة الميثاقين لا يتجـاوز ثلاثة أشهر.

لقد نادى ميثاق الجامعـة بتوثيق الصلات بين الدود الأعضاء، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانـة لاستقلالها، والنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربيـة ومصالحهـا. ومنع الميثاق الالتجـاء إلى القوة لفض المنـازعات بين دولتين أو أكثـر من دول الجامعة، وأوجـد آلية أولية لمعالجة ورد أي عدوان يقع على دولة عضو.

هذا بإيجاز جـد شديد- وأعترف بأنه مخل أيضـاً- جوهر الميثاق، الذي نـص على مبدأ إنشاء محكمة عدل عربية، وأباح لأصحاب البيت تعديل الميثاق. وبالرغم من مرور خمسين عاماً على هذا الكـلام، لم تقم محكمة العدل، ولا الميثاق عُدّل.

وإذا كـان الميثاق وليد عالم 1945، فإن من حق الأمة العربية أن يكون لها ميثاق هو وليد مطالع القرن الحادي والعشرين. ونستطيع القول إنه ليس هناك ما يمنع تعديل الميثاق، إن أجمعت إرادة الدول العربية على تعديله. ولكن هؤلاء الأعضـاء لم يجمعوا، أو لم يريدوا، أن يفعلوا ذلك. لقد تركوا البيت خاويا من مقومات الحياة، سوى أصداء أمنيات وبيـانات وخطب ذهبت مع الريح، وقرارات كثيرة وافق عليها أصحابها دون أن تكون لهم نية العودة إلى معظمها إلا للذكرى.

ونحن إذا استعرضنا تاريـخ الجامعة، منذ أن كانت مؤلفة من سبع دول حتى غدت تضم 22 دولة، وقرأنا قرارات إحدى وعشرين قمـة، وأكثر من 150 دورة لمجلس الجامعة، لاستنتجنا الوقائع التالية:

1 - لم يقف الميثـاق قط أمـام أي تطور في ترسيخ التعاون وتنويع مجالات العمل المشترك وإقـامة الوحدات أو الاتحادات بمختلف أشكـالها. لقد شجـع الميثاق ذلك كلـه.

2 - وكـان الميثاق منفتحـاً في روحه القومية، وترك المجـال واسعاً لمفاهيم الأخوة القومية التي تتميز بها الجامعة.

3 - وبلغ العمل المشترك ذرى عاليـة من التخطيط والتنوع واتساع الأفق، بالـرغم من أن فترات تلك الذرى كانت قصيرة الزمن إذا ما قورنت بحالات الانحدار والاختلاف والتمزق.

4 - ولأن الجامعة عاصرت، طوال نصف قرن، تحولات وتغيرات عربية وإقليميـة ودولية كثيرة ومهمة، ولأن ميثاقها يتسم بالمرونة والبساطة، فقد استطاعت أن تطـور أهـدافها ووظائفهـا ووسائلهـا وهيكلها بالممارسة، دونـما حاجة إلى تعديل الميثاق.

ليس هذا الكلام دفاعـاً عن الجامعة والميثاق، وإنـما هو نوع من التوضيح، نسوقه في وقت توضع فيه الجامعة وميثاقها موضع الشـك والتجريح، في حين أننا لا نزال نأمل أن يوضعا موضع المعالجة والتطوير والتعزيز.

من عاداتنا أن نأتي متأخـرين، وأن يفوتنـا القطار. ولعل الحكمة العربية القديمة التي تقول "المرء حيث يضع نفسه" تنفع في تذكيرنا وحثنا على العمل، قبل أن نصبح من مدمني الانتظار بلا أمل.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف